التمديني كان حاسما. فحيثما استقرّ في أرض خلاء خواء (١) برز المركز وصار فيما بعد «المدينة» ذاتها خصوصا بالمعنى الحديث (٢). وكان اليعقوبي صريحا في هذه النقطة حيث بيّن أن الرسول جمع حوله «الناس» الذين كانوا قبل ذلك «متفرّقين». فأصبحت المساكن متلاصقة بحيث أصبح ذلك مدينة (٣) أي مكانا يتّسم بتلاصق الأبنية وبكثافة السكن ، ومفهوم «الناس» هنا يعني المهاجرين أولا وبالذات (٤). إلا أنا نجد أيضا عناصر من الأنصار تطوعوا للانتقال تقربا من الرسول (٥) وكانت النقطة المحورية لهذا المركز الجديد ، المسجد وداره الخاصة وقد تشكل منهما مركّب متلاصق (٦) هو مكان التجمع الدائم والمقر الديني وقلب السلطة كلما زادت بروزا ونموا ، حتى أصبح المركز روح هذا التجمع البشري الذي كان مائعا في السابق. لقد حدد هذا المركّب بالخصوص نموذجا لكل الحضارة الإسلامية. إنه نموذج المسجد أولا ، الذي سيخطط طبق المثال النبوي مع بعض التغييرات ، لكن المهم أيضا بالنسبة للكوفة أنه سيلعب دورا نموذجيا للتجاور بين مقر الحكم (الذي عرف بدار الإمارة بعد ذلك) والمسجد ، أي مكان العبادة وتجمع المؤمنين. والملاحظ أن الأمر يتعلق بوحدتين مكانيتين متميزتين لكنهما متلاصقتان ، وبوظيفتين مختلفتين لكنهما متصلتان اتصالا عميقا ، إنما الصّلة في عصر الرسول كانت أشد قوة. وأما في الكوفة والبصرة ودمشق ، فقد صار التمييز بين القصر والمسجد أكثر وضوحا. لقد استقر مركز الحكم في عهد الرسول بالمسجد ذاته وكانت الدار متوجهة إلى الحياة الخاصة للنبي بينما كان الحكم بالكوفة يمارس أيضا في المسجد ، لكن بصفة أهم في القصر حيث تتجمع الأموال والقوى. وهكذا تواجد بالكوفة العامل السياسي والديني في نوع من جدلية التواصل والانفصال في حين أن الوحدة كانت تامة زمن الرسول ، مع تفوق المسجد على الدار. وعلى كل فإن التسلسل من «المدينة» إلى الكوفة يظهر بوضوح كبير ، ويبدو هكذا أن الاستناد إلى عصر الإنشاء «بالمدينة» أكثر بلاغة وقطعا أكثر وضوحا ، من الاستشهاد بالمثال البابلي ـ الجديد الذي يبرز بصفة خاصة في التحصينات وفي الشعور بالقوة والرفعة ، وليس أبدا في عنصر التصور الأساسي.
وعلى هذا ، لا يندرج تأثير «المدينة» في المدينة الإسلامية خارج بلاد العرب وبالتالي في
__________________
(١) يستعمل السمهودي كلمة «مربد» : وفاء ، ج ١ ، ص ٣٢٢ وما بعدها.
(٢) اليعقوبي ، البلدان ، ص ٣١٣ ؛.F.Buhl ,art.cit.
(٣) المرجع نفسه ، ص ٣١٣ ـ ٣١٤.
(٤) وفاء ، ج ١ ، ص ٧٣٤ وج ٢ ص ٧١٧.
(٥) أو من المسجد كما فعل بنو سلمة الذين رحلوا بطلب من الرسول : وفاء ، ج ١ ، ص ٢٠٣.
(٦) السيرة ص ٣٣٦ ـ ٣٣٨ : كان المسكن من طابقين : فتوح البلدان ، ص ٢٠ ؛ وفاء ، ج ١ ، ص ٣٣٥ ـ ٣٤٠ ؛.M.Watt ,II ,p.٣١.