بداية من هذا
التصميم الحاسم وحتى الثابت القّار لحياتها المقبلة. فليست الكوفة معسكرا تحول
ببطء إلى مدينة (وبصورة أخرى لم يأت هذا التحول من الخارج ، وهذه فكرة مجانبة لا
تقبل بتاتا) ، بل مدينة مخططة ممفصلة أحسن بناؤها بمقتضى تصورها الأول. هذا أقل ما
يمكن لأوجز الأخبار أن تفرضه على اهتمامنا.
بل يرى سيف كما
ذكرنا سابقا ، أن المدينة بمعناها الكامل قد أقيمت في زمن سعد ، بمناهجها وخططها
السكنية وأسواقها وقصرها المشيد وقاعة الصلاة بالمسجد ، الخ ... إن التقليد
الاستشراقي يخطّىء عادة سيفا ، لكن دون أن يخلو الأمر من تناقض ، لأنه يستمد منه كثيرا
من الأخبار والحجج. وقد سبق أن دحض كرسويل وفلهاوزن وكايتاني ، الذين اعتبروا
الغلوة (رمية السهم) قياسا لضلع المسجد ، واعتمد جميعهم رواية سيف والبلاذري أيضا.
وبصورة أدق ، إن سيفا هو الذي أتاح لكرسويل تصور تصميم المسجد ، حتى أنه يتقدم
بنقاش حول سقف الظلة والنمط الهندسي الذي يستند إليه . ويرى ريتميير أن رواية سيف تسقط واقعا لاحقا ، لم يوجد
إلا في إمارة زياد ، وأن المسجد الأول كان بناية بدائية ، بناها العرب بمفردهم ، وهو أمر غير مستبعد. ويوحي ما ورد عند سيف من تناقضات
وتضعيفات ، كما قلنا ، إسقاطات ترد الحاضر إلى الماضي ، لكن فيما يتعلق بالبناء أو
إنهاء البنايات أكثر مما يتعلق بالتخطيط ذاته. ما هي القاعدة التوثيقية التي يستند
إليها كرسويل ، وأية حجة منطقية يعتمد ليصرّح بأن عرض السكك يجب تأريخه
في إمارة زياد؟ يعترف من جهة أنه كان يوجد بداية خمس عشرة سكة ـ منفذ لم يذكرها
إلا سيف. وينسب من جهة ثانية تقرير عرضها إلى زياد في حين أن المساس بنسق الطرق
يبدو صعبا بعد ثلاثين سنة من إنشائها ، دون خلخلة تنظيم السكن بصورة خطيرة. وما
نريد تقريره هو أنه لا يخول للمؤرخ رفض رواية سيف الثمينة ما لم يكتشف اسقاطا
واضحا جدا أو تضاربا فادحا ضمن الرواية ، أو مع أغلب المصادر الأخرى. التخطيط إذن
كما تحدثنا عنه طويلا ، حصل فعلا إثر الإنشاء وبميزات لا تنفك تثير إعجابنا إذا ما
فكرنا في سرعة الحركة ، ووضوح التصور ، وروح التنظيم. لكن السرعة ليست لتفاجئنا ،
وقد جدت في مرحلة تاريخية مشبعة بالمبادرات ، مفعمة بالقرارات ، تبعث على الخلق
بصورة عالية ، مغطية مسارها على وتيرة لاهثة. يوجد في البنية الداخلية للكوفة
الأولية كما ثبّتها التخطيط ، جانب
__________________