وإذا قلت : لا تهمل القراءة ، وتجلس (برفع : تجلس) ، فالنهى منصب على القراءة وحدها ، أما الجلوس فمباح. (فالواو هنا : للاستئناف ، وهى تفيد ذلك المعنى.) فالمضارع قد تغيرت علامة آخره على حسب تغير المعانى المختلفة ، والعوامل التى تعاقبت عليه ، فأشبه الاسم من هذه الجهة ، فأعرب مثله.
أما بناؤه مع نون التوكيد ، ونون النسوة فلأنهما من خصائص الأفعال ، فوجود إحداهما فيه أبعده من مشابهة الاسم المقتضية للإعراب ، فعاد إلى الأصل الأول فى الأفعال ؛ وهو البناء ؛ لأن الأصل فيها البناء ـ كما سبق ـ وأما الإعراب فى المضارع أحيانا ، فأمر عارض ، وليس بأصيل.
هكذا يقولون! وليس بمقبول ، فهل يقبل أن سبب بناء الحرف هو دلالته فى الجملة على معنى فى غيره ، وعدم دلالته وهو مستقل على ذلك المعنى التركيبىّ ؛ فلا حاجة له بالإعراب ؛ لأن وظيفة الإعراب تمييز المعانى التركيبية بعضها من بعض؟ إذا لم التفرقة فنقول إن كلمة : «ابتداء» وحدها التى تفهم من الحرف : «من» هى اسم ، وكلمة : «من» نفسها هى حرف ، مع أنها تفيد عند وضعها فى الجملة معنى الابتداء ، فكلاهما يتوقف فهمه على أمرين ؛ ؛ شىء كان هو المبتدئ ، وشىء آخر كان المبتدأ منه؟
هل السبب ما سطروه من دليل جدلىّ مرهق ، هو : أن معانى الأسماء تتوقف على أمور كلية معلومة لكل فرد بداهة ، فكأنها مستقلة ؛ مستغنية عن غيرها؟ فلفظة : «ابتداء» عندهم معناها مطلق ابتداء شىء من شىء آخر ، بغير تخصيص ، ولا تعيين ، ولا تحديد. وشىء هذا شأنه يمكن أن يعرفه كل أحد ، ويدركه بالبداهة كل عقل. بخلاف معنى الابتداء فى لفظة : «من» حين نقول مثلا : سرت من القاهرة ، فإن الابتداء هنا خاص مقيد بأنه ابتداء «سير» لا ابتداء قراءة : ، أو أكل ، أو كتابة ، أو سفر. أو ... وأنه ابتداء «سير» من مكان معين ؛ هو : القاهرة. فليس الابتداء فى هذا المثال معنى مطلقا كما فى سابقه ، وليس فهمه ممكنا إلا بعد إدراك أمرين مخصوصين ؛ يتوقف فهمه عليهما ، ولا يعرفان إلا بالتصريح باسمهما ، هما : السير والقاهرة. أى : أن المعنى إن لوحظ فى ذاته مجردا من كل قيد ، كان مستقلا ، وكان التعبير عنه من اختصاص الاسم ، «كالابتداء» ، وإن لوحظ حاله بين أمرين ، كان غير