وأنه يبتدىء من القاهرة. فكأنى أقول : سافرت ، وكانت نقطة البدء فى السفر هى : «القاهرة» ، فكلمة : «من» أفادت الآن معنى جديدا ظهر على ما بعدها وهذا المعنى هو : خ خ الابتداء ، لم يفهم ولم يحدد إلا بوضعها فى جملة ؛ فلهذه الجملة الفضل فى إظهار معنى : «من».
ولو قلت : سافرت من القاهرة «إلى» العراق ـ لصار معنى هذه الجملة : الإخبار بسفرى الذى ابتداؤه القاهرة ، ونهايته العراق. فكلمة : «إلى» أفادت معنى ظهر هنا على ما بعدها ؛ وهذا المعنى هو : خ خ الانتهاء. ولم يظهر وهى منفردة ، وإنما ظهر بعد وضعها فى جملة ؛ كانت السبب فى إظهاره.
وكذلك : حضرت من البيت إلى النهر ؛ فقد أفادت الجملة كلها الإخبار بحضورى ، وأن أول هذا الحضور وابتداءه : «البيت» ، وأن نهايته وآخره : «النهر». فأفادت : «إلى» الانتهاء ، وصبّته على ما بعدها. وهذا الانتهاء لم يفهم منها إلا بسبب التركيب الذى وضعت فيه.
ولو قلت : الطلبة فى الغرفة ـ لكان المعنى ؛ أن الطلبة تحويهم الغرفة ؛ كما يحوى الإناء بعض الأشياء ، وكما يحوى الظرف المظروف ، أى : كما يحوى الوعاء أو الغلاف ما يوضع فى داخله. فمعنى كلمة : «فى» هو خ خ الظرف ، أو : خ خ الظرفية ، وهذا المعنى لم يفهم من لفظة : «فى» وحدها ، وإنما عرف منها بعد أن احتواها التركيب ، فظهر على ما بعدها ... وهكذا بقية أحرف الجر ، وغيرها من أكثر الأنواع الأخرى المختلفة ؛ كحروف النفى ، والاستفهام ، وسواها ... فالحرف : «كلمة لا تدل على معنى فى نفسها ، وإنما تدل على معنى فى غيرها فقط ـ بعد وضعها فى جملة ـ دلالة خالية من الزمن» (١).
__________________
ـ (إلغاؤها عن العمل مع إرادة معناها ، وهو الدلالة على الزمان ، وذلك نحو قولك : ما كان أحسن زيدا ، إذا أريد أن الحسن كان فيما مضى. ف «ما» مبتدأ على ما كانت عليه ، و «أحسن زيدا» الخبر ـ و «كان» ملغاة عن العمل ، مفيدا للزمان الماضى ، كما تقول : من كان ضرب زيدا ـ تريد : من ضرب زيدا ـ ومن كان يكلمك ، تريد : من يكلمك. فكان تدخل فى هذه المواضع وإن ألغيت من الإعراب فمعناها باق. وهى هنا نظيرة : «ظننت» إذا ألغيت ، فإنه يبطل عملها ومعنى الظن باق ؛ ذلك أن الزيادة على ضربين ، زيادة مبطلة العمل مع بقاء المعنى الزمنى ، ـ كما سبق ـ وزيادة لا يراد بها أكثر من التأكيد فى المعنى ، وإن كان العمل باقيا ؛ نحو : ما جاءنى من أحد. ومثله قولهم : بحسبك محمد ، والمراد : حسبك ، ومثل : «وكفى بالله شهيدا» ، والمراد كفى الله ...) ا. ه وستجىء إشارة موضحة لهذا فى ص ٦٥ وفى باب «كان وأخواتها» والواجب ترك استعمال «كان» الزائدة إذا أوقعت فى لبس.
(١) هذا التعريف فى اصطلاح النحاة. لكن يجرى فى استعمال بعض المراجع اللغوية والقدماء إطلاقه أحيانا على الكلمة ، مهما كان نوعها. أما ظهور معناه على ما بعده ففيه تفصيل يجىء فى ص ٦٥.