و طالما تضرب بي الأفكار ، ويهيج بي الإدّكار ، وتدعو بي الأشواق إلى تلك الآفاق ، فتجيبها منّي عبرات الآماق ، و ينصدع قلبي ، إذ لا أحد معي إلّا ربّي ، وحسبي به قريباً وكافياً وحسيباً ، و أنيساً وجليساً ، فما غربتي إلّا له ، و ما عنائي إلّا به ، وله الطول والمنّة ، ولا حول ولا قوة الّا به.
وما الغرض بيان هذا ، و إنّما هو إبداء عذري في قصوري عن تحرير ما ينبغي و يليق بِوَليّ نعمتي ، من إيفاء القول حقّه ، والثناء نصابه ، ولهذا كنت أتجافىٰ هذه المدّة عن هذه الخطّة ، علىٰ شوقي إليها و رغبتي فيها ، و ألوكتي هذه بسقمها وسقوطها ـ تحريراً و تعبيراً ـ تشهد لي بما أوعزت إليه من انكساف البال ، و تشويش الفكر و سوء الحال ، وقد كنت على جري القلم ومسترسل الرويّة ، و سيّدي يسمح لي بالعذر والعفو إن شاء الله.
و اُبدي من العرض عليه : أنّه قد وصلتني صلاته العائدة ، وصلته الزائدة ، من العشرة المستأنفة نفلاً و تعقيباً ، والخمسة في كل تقسيم على العادة ترتيباً ، أسأله تعالىٰ أن يديم عوائده المتتابعة ، و ألطافه المتشافعة ، وعاداته الجميلة ، و يمنّ عليه بالوفر والزيادة ، حتى يجعل ابتداء المعروف له عادة ، بمنه وكرمه ، و بأهل الكرامة عليه من خلقه ، إن شاء الله.
وليكن سيّدي على ثقة ، من أن ما يتعطّف به على صنيعة عواطفه ، الذي لا تزال ـ أيّدك الله ـ خبيراً بجلي حاله ودخيلة أمره ، لاينفذ شيء منه ولا يُصرف ، إلّا في أحسن الوجوه المشروعة ، ومؤونة الحياة الضرورية ، وكثيراً ما اُساهم منه الضعفاء من المؤمنين ، و ذوي البؤس والمسكنة ، فقد كان في الشام منهم كثير ، كما في المدينة المنوّرة وغيرها ، وقد كانت في الشام جماعة يجمعون في المجالس للسادات الموسويّة ، وهم عائلة كبيرة كلّهم ضعفاء و أيامى و أرامل ، وغير السادة من ضعفاء الشيعة ، و يسمّونها جمعية الإحسان ، وفي الغالب يحضر بعض اُولئك المساكين بأنفسهم ، وقد جمعت ما دفعت إليهم مدّة مكثي في الشام ، قدر خمسة عشر مجيدي ، لأنّي أرى أنّ هذا الذي أتعيّش به هو من مال الفقراء ، و أنا واحد منهم ، فإذا كان في جيبي شيء لا أملك أن لا اُشاطرهم به ، واثقاً
_____________________________
و مراده قدّس سرّه هنا أنّ فواغر الدهر بأنياب النوب هي التي تعرّقته كما يتعرّق الآكل ما على العظم من لحم (اُنظر الصحاح ـ عرق ـ).