ولما أخبر بأنهم مقرون بأن موجد العالم ، ومسخر النيرين ، ومحيي الأرض بعد موتها هو الله ، كان ذلك الإقرار ملزما لهم أن رازق العباد إنما الله هو المتكفل به. وأمر رسوله بالحمد له تعالى ، لأن في إقرارهم توحيد الله بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك ، وكان ذلك حجة عليهم ، حيث أسندوا ذلك إلى الله وعبدوا الأصنام. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي ، ويعبدون غيره.
(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا؟ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة ، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون. والحيوان ، والحياة بمعنى واحد ، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي ، والمعنى : لهي دار الحياة ، أي المستمرة التي لا تنقطع. قال مجاهد : لا موت فيها. وقيل : الحيوان : الحي ، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر. وجعلت الدار الآخرة حيا على المبالغة بالوصف بالحياة ، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة ، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها ، نحو : شقي من الشقوة. ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء ، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذا ، وجواب لو محذوف ، أي لو كانوا يعلمون ، لم يؤثروا دار الفناء عليها. وجاء بنا مصدر حي على فعلان ، لأنه يدل على الحركة والاضطراب ، كالغليان ، والنزوان ، واللهيان ، والجولان ، والطوفان. والحي : كثير الاضطراب والحركة ، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة.
ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله إذا سئلوا : من خلق العالم؟ و (مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)؟ ذكر أيضا حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله ، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد ، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه. وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ)؟ قلت : بمحذوف دل عليه ما وصفهم به ، وشرح من أمرهم معناه على ما وصفوا به من الشرك والعناد. (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ، ولا يدعون مع الله آخر. وفي المخلصين ضرب من التهكم ، و (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) : جواب لما ، أي فاجأ السجية إشراكهم بالله ، أي لم يتأخر عنها ولا وقتا. والظاهر في (لِيَكْفُرُوا) أنها لام كي ، وعطف عليه (وَلِيَتَمَتَّعُوا) في قراءة من كسر اللام وهم : العربيان ونافع وعاصم ، والمعنى : عادوا إلى شركهم. (لِيَكْفُرُوا) : أي الحامل لهم على الشرك هو