ترى إلى قوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (١) كيف جاء النفي بلا وهو الصحيح ، والاستدلال عليه مذكور في النحو. وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث إنّ الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد ، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب (الذُّبابُ) وعدم استنقاذ شيء مما (يَسْلُبْهُمُ) وكان الذباب كثيرا عند العرب ، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك. وعن ابن عباس : كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وموضع (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال مستحيل : أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه ، وتعاونهم عليه انتهى.
وتقدم لنا الكلام على نظير (وَلَوِ) هذه ، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة ، كأنه قيل (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم ، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك.
(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قال ابن عباس : الصنم والذباب ، أي ينبغي أن يكون الصنم طالبا لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان. وقيل (الْمَطْلُوبُ) الآلهة و (الطَّالِبُ) الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم ، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة. وقال الضحاك : العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته ، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده. وقال الزمخشري : وقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف لأن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب ، وذاك مغلوب والظاهر أنه إخبار بضعف الطالب والمطلوب. وقيل : معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب.
(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوه حق معرفته حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه ، ولم يؤهلوا خالقهم للعبادة ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة (اللهُ يَصْطَفِي) الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) (٢) الآية ، وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد الله عليهم بأن رسله ملائكة
__________________
(١) سورة النحل : ١٦ / ١٧.
(٢) سورة ص : ٣٨ / ٨.