من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلا إلى سماء بيته فاختنق ، (فَلْيَنْظُرْ) وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه ، وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، ومنه قيل للبهر القطع وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه ، والمراد ليس في يده إلّا ما ليس بمذهب لما يغيظه.
وقيل (فَلْيَمْدُدْ) بحبل (إِلَى السَّماءِ) المظلة وليصعد عليه فليقطع الوحي أن ينزل عليه وهذا قول ابن زيد. وقيل : الضمير في (يَنْصُرَهُ) عائد على الدين والإسلام. قال ابن عطية : وأبين وجوه هذه الآية أن يكون مثلا ويكون النصر المعروف والقطع الاختناق والسماء الارتفاع في الهواء سقف أو شجرة أو نحوه فتأمله ، وما في (ما يَغِيظُ) بمعنى الذي ، والعائد محذوف أو مصدرية. وكذلك أي ومثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْناهُ) القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي لا تفاوت في إنزال بعضه ولا إنزال كله والهاء في (أَنْزَلْناهُ) للقرآن أضمر للدّلالة عليه كقوله (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (١) والتقدير والأمر (أَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي يخلق الهداية في قلبك يريد هدايته لا خالق للهداية إلّا هو.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ).
لما ذكر قبل (أَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (٢) عقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه ، لأن ما قبله يقتضي أن من لا يريد هدايته لا يهديه يدل إثبات الهداية لمن يريد على نفيها عمن لا يريد ، والذين أشركوا هم عبدة الأوثان والأصنام ، ومن عبد غير الله. قال الزمخشري : ودخلت (إِنَ) على كل واحد جزأي الجملة لزيادة التأكيد ، ونحوه قول جرير :
__________________
(١) سورة ص : ٣٨ / ٣٢.
(٢) سورة الحج : ٢٢ / ١٦.