ثم أن كون السير واجبا لما ذكر هو ما عليه المحققون ، وإن سبق قلم الزمخشري (١) وتبعه القاضي البيضاوي (٢) إلى أن الأمر بالسير للإباحة والأمر بالنظر للوجوب ، فقد قال غيرهم : إن ذلك ينبو عنه المقام.
أما أولا : فلأنه إخراج للأمر عن حقيقته.
وأما ثانيا : فلا وجه لذكر إباحة السير للتجارة وغيرها في سياق الإفحام للجاحدين ، ثم يعطف عليه ما هو واجب ولا يتم إلا بسابقه.
وأما ثالثا : فقد تقرّر في الأصول أن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا فكيف يكون النظر في آثار المكذبين واجبا بدون سير؟ فإن قيل : إنا لم نر في دواوين أصول الدين أن من واجبات الديانة السفر كما ذكر؟ فالجواب أن معنى الوجوب معلق بما إذا لم يحصل الإعتبار المفضي للإعتقاد إلا بالسفر ، لأنه يؤدّي إلى رؤية الآيات بالمشاهدة التي لها من التأثير ما ليس لغيرها ، أما إذا حصل الإعتقاد فلا داعي حينئذ لوجوب السفر وإنما هو مباح. ولهذا كانت الآيات المذكورة في سياق الحجاج للمعاندين وكأن ما ذكر هو الذي أدى ببعض المفسرين للقول : بأن الأمر للإباحة.
وقد ذكر الغزالي (٣) في الإحياء : أن السفر تعتريه الأحكام الخمسة من الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة لأنه من الوسائل فيأخذ حكم ما قصد به (٤) وأبان ذلك بيانا شافيا.
وإذا تقرّر أن السير واجب لأجل الإعتبار ، فنقول : إن المعتبر به أشياء منها ما دلت عليه الآيات المذكورة من الإعتبار بعاقبة المكذبين للرسل ، ومنها ما دل عليه قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢]. فإن المسافر يرى من عجائب قدرة الخالق جل وعلا من اختلاف الطباع واختلاف الأشكال والهيئات واللغات والبشرة ما يقضي بوجوب وجود صانع ذلك المختار في أفعاله ، إذ لو
__________________
(١) هو محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري جار الله أبو القاسم (٤٦٧ ـ ٥٣٨ ه) عالم بالتفسير والآداب واللغة. توفي في الجرجانية من قرى خوارزم. الأعلام ٧ / ١٧٨ وفيات الأعيان ٢ / ٨١ معجم الأدباء ٥ / ٤٨٩ رقم الترجمة (٩٤٥) مفتاح السعادة ١ / ٤٣١ معجم المطبوعات (٩٧٣).
(٢) هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي أبو سعيد أو أبو الخير ناصر الدين البيضاوي. قاض مفسر توفي في تبريز سنة (٦٨٥ ه). الاعلام ٤ / ١١٠ بغية الوعاة (٢٨٦) مفتاح السعادة ١ / ٤٣٦ طبقات الشافعية للسبكي ٥ / ٥٩.
(٣) هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو حامد (٤٥٠ ـ ٥٠٥ ه) حجة الإسلام. مولده ووفاته في الطابران. الأعلام ٧ / ٢٢ وفيات الأعيان ١ / ٤٦٣ طبقات الشافعية للسبكي ٤ / ١٠١ شذرات الذهب ٤ / ١٠ الوافي بالوفيات ١ / ٢٧٧ مفتاح السعادة ٢ / ١٩١ معجم المطبوعات (١٤٠٨ ـ ١٤١٦).
(٤) انظر كتاب إحياء علوم الدين كتاب آداب السفر. ٢ / ٢١٧.