وخضدوا شوكتهم بما استقر معه الأمن منهم إلى الآن ، وبمثل هاته الشدة في إبانها والرفق واللين في إبانه خضعت القبائل وبادروا إلى دفع أموال الحكومة في إبانها ونفذت أوامر الحكومة فيهم وانقادوا لها بطيب نفس لإجرائها العدل فيهم بما لم يبق لهم معه خوف من امتداد الأيدي إلى مكاسبهم ، فأقبلوا على العمران وكثرت ثروتهم حتى أن في العام الثاني والثالث من ولاية هذا الوزير كثر شراء الأعراب للحلي من الفضة لما سبق من عدمهم منها وتكاثر ذلك تكاثرا فاحشا إلى أن صار الصياغ لا يوفون بمحتاجهم ، وصارت دار السكة كل يوم تصنع علامة السلامة والصحة مع المصوغ المذكور بما يبلغ وزنه إلى عشرات أو مئات القناطير إلى أن كتبت أخباره في الصحف العربية والأروباوية.
ومنها : جعل صندوق مقفول له منفذ لوضع المكاتيب فيه لمن أراد رفع نازلته للوزير أو إنهاء مصلحته بأن يشرح مقصوده ويبين دليله ولا يلزمه التصريح باسمه ليسهل رفع المظالم وعدم الخوف ، وجعل مفتاح المحل الذي يمكن وصول كل الناس إليه عنده والتزم أن يفتح هو بنفسه جميع المكاتيب ويوقع عليها بما يراه من الملاحظات فيها ويوجهها لأحد أقسام الوزارة الراجعة إليها النازلة بحيث تكون النوازل على ذكر منه لكي لا يقع التحريف في تلخيصها أو إهمالها ، مما ربما يمكن أن يحدث في بعض النوازل وإن نسب إليه بعض المتوظفين في ذلك عدم الثقة ببعضهم وحب الإستبداد بكل الأشغال ، وهو يقول إنه إنما جعل التعب على نفسه ولم ينقص من مراتب المتوظفين شيئا إلا عدم القدرة على فتح المكاتيب إلا بإذنه.
ومنها : تحسين حالة مطبعة الدولة التي هي ضرورية في هذا الزمان لطبع الكتابات الرسمية وغيرها مما يعجز عن الوفاء به الكتاب ، وتيسير نشر الكتب في الفنون ليسهل تناولها بالثمن اليسير ويتوصل للإنتفاع بها ذو الجدة وغيره الذي هو من أعظم الأسباب لترقي الأمة في المعارف والعلوم ، وهكذا تحسين إدارة الرايد التونسي الذي هو الصحيفة الرسمية للحكومة وصار صدوره موقتا مثل سائر الصحف ، بعد أن كان لا يخرج منه إلا عدد يسير ربما بلغ النصف أو أقل مما يلزم خروجه سنويا والحال أنه أسبوعي ، ثم الإفادة فيه بأفكار الوزير في المسائل السياسية بما كان ينشر فيه من المقالات المرشدة الذي هو ضروري للحكومة في إيقاظ أهلها والسكان وإرشادهم لما تراه بلطف إلى غير ذلك من فوائد الصحف على ما سيأتي في الخاتمة إن شاء الله تعالى. زيادة على نشر الأوامر الرسمية ليستوي في معرفتها القريب والبعيد ، ودليل ما ذكرناه اختلاف منحى الرائد بعد خروج الوزير من الوزارة عما كان من شحنه بالمقالات السياسية كمقالة المدار على الرجال غيرها مما هو كثير ، وألزم المتوظفين بقراءته وأخذه إذ يقبح بالمتوظف أن لا يعلم أحوال حكومته فضلا عن غيرها ، بل ذلك شرط في المتوظف في الممالك المستقيمة.
ومنها : جعل خزائن لمكاتيب الحكومة وجمع العتيق منها على ترتيب يسهل به معرفتها والتوصل إليها في أقرب وقت وذلك من أهم الأمور.