ثم رجّع البصر واختصر ، وعاد إلى الحساب يتقرّاه ، والصواب يتحرّاه ، وتتبّع أديم الطّحن ففراه ، وقال : أعوذ بالله من شرّ ما أراه. إلى كم أرى في غلاء وبلاء؟ كأني لست ذا أمرار وأحلاء ، تالله لو كانت قرعة رفعة وعلاء ؛ ما غاب عني اللّحياني ذو السّبلة ، ولواجهنا البياض ذو الغرّة المستقلّة مواجهة حسان لجبلة. النّحس على هذه الروح قد رتّب ؛ وكتب عليه من الشقاء ما كتب ، وأخرج النّصرة الداخلة من العتب. ثم أشار إلى الحمرة ، وكأنما وضع يده على جمرة ، وقال : كوسج نعيّ ، وسناط الوجه شقيّ ، وثقاف وطريق ، وجماعة وتفريق ، وقبض خارج ، ومنكوس مارج. ثم وضع عمامته ، ولولب هامته ، وأمال وجهه فجرا طلقا ، ثم عرضه مجنا مطرقا ، وعقد أنامله عضّا ، وأدمى صدره دعّا ورضّا ، وقطع بصره لمحا وغضّا ، وتكفّأ وتقلّع ، وأدلع لسانه فاندلع. فقلنا : شرّ تأبّطه ، أو شيطان يتخبّطه ، أو قرين يستنزله ويختله ، أو رؤى في الذرة والغاب يفتله. ثم تجاحظ وتحاذر ، وتضاءل وتنازر ، وقال : والذي أحيا عازر ، وأخرج إبراهيم من آزر ، وملك عنان الريح وأذعن له كل شيء بالسجود والتّسبيح ، إنه لمن عبّاد المسيح ، هيهات هيهات ، لا أضعضع بظنّ ، ولا يقعقع لي بشنّ ، ولا أنازع من هذه الفنون في فنّ. قد ركبت أثباج البحار ، وقطعت نياط المفاوز والقفار. وشافهني الحرم والبيت ، وصافحني الحجر الكميت ، وأحرمت ولبّيت ، وطفت ووفيت ، وزرت المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وتحفّيت. ثم ملت على عدن ، وانحدرت عن اليمن ، واستسقيت كل راعدة ، وأتيت كل قاعدة ؛ ورأيت صاحب الجمل قسّ بن ساعدة ، ووردت عكاظ ، وصدّقت الحفّاظ ، وقدت العصية بنسع ، ومسحت الشامات بأخمس وتسع ، ووقفت حيث وقف الحكمان ، وشهدت زحف التّركمان ، وكيف تصاولت القروم ، وغلبت الرّوم ، وهزم المدبر المقبل ، واكتسحت الجحاش الإبل. فقلنا : لله أنت ، لقد جليت عن نفسك ، وأربى يومك على أمسك ، ولقد صدق مطريك ، ووفت صحيفة تزكّيك ، وما كانت فراستنا لتخيب فيك. فماذا تستقري من اللوح ، وترى في ذلك الروح؟ بعيشك ألا ما أمتعتنا بالإفشاء والبوح! فرجع في البحث أدراجه ، وطالع كواكبه وأبراجه ، وظلّ على مادة الطّحن يرقم ويرمق ، ويفتق ويرتق. ثم جعل يبتسم ، وقال : أحلف بالله وأقسم ، لقد استقام النّسم ، وإنه لكما أرسم وأسم ، وإني لا أجده إلّا لاغبا مبهورا ، ومنكودا مقهورا ، ولن يلبث إلّا شهورا. قد أفل طالع جدّه ، وفلّ حدّه ، وأتي عليه نقي خدّه ، وصيّ لم يملك أبوه وملك جدّه ، فقلنا : صرّحت وأوضحت ، وشهرت هذا المستور وفضحت ، وإن ساعدك قدر ، وكان لك عن هذا الورود صدر ، فحظك مبتدر ، وخطّك صاف لا يشوبه كدر. فقال : هذا أمر قد آن أو كان ، وسيأتيكم الخبر الآن ، فانفصلنا وأصغينا الآذان ، وجعلنا نتلقى الرّكبان ، فلم يرعنا إلّا النّعمى الناجمة ، والبشرى الهاجمة ، بما