المعتصم بها ، فلازمته المحلات وولي عليه التضييق ، وخيف فوات البدر ونفاد القوة ، فشرع السلطان في النظر لنفسه ، وخاطب السلطان أبا سالم ملك المغرب في شأن القدوم عليه ، فتلقاه بالقبول وبعث من يمهد الحديث في شأنه ، فتمّ ذلك ثاني يوم عيد النّحر من العام. وكنت عند الحادثة على السلطان ، ساكنّا بجنتي المنسوبة إليّ من الحضرة ، منتقلا إليها بجملتي ، عادة المترفين ، إذ ذاك من مثلي ، فتخطاني الحتف ، ونالتني النكبة ، فاستأصلت النعمة العريضة ، والجدة الشهيرة ، فما ابتقت طارفا ولا تليدا ، ولا ذرت قديما ولا حديثا ، والحمد لله مخفّف الحساب ، وموقظ أولي الألباب ، ولطف الله بأن تعطّف السلطان بالمغرب إلى شفاعة بي بخطّه ، وجعل أمري من فصول قصده. ففكّت عني أصابع الأعداء ، واستخلصت من أنيابهم ، ولحقت بالسلطان بوادي آش ، فذهب البأس ، واجتمع الشّمل. وكان رحيل الجميع ثاني عيد النحر المذكور ، فكان النزول بفحص ألفنت ، ثم الانتقال إلى لوشة ، ثم إلى أنتقيره ، ثم إلى ذكوان ، ثم إلى مربلّة ، يضم أهل كلّ محل من هذه مأتما للحسرة ، ومناحة للفرقة. وكان ركوب البحر صحوة الرابع والعشرين من الشهر ، والاستقرار بمدينة سبتة ، وكفى بالسلامة غنما ، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين.
وكان الرحيل إلى باب السلطان ، تحت برّ لا تسعه العبارة ، ولقاؤنا إياه بظاهر البلد الجديد لإلمام ألمّ عاقه عن الإصحار والتغنّي على البعد ، يوم الخميس السادس لمحرم من عام أحد وستين بعده ، في مركب هائل ، واحتفال رائع رائق ، فعورض فيه النزول عن الصّهوات ، والبرّ اللائق بمناصب الملوك ، والوصول إلى الدار السلطانية ، والطعام الجامع للطبقات وشيوخ القبيل. وقمت يومئذ فوق رأس السلطان وبين يدي مؤمّله ، فأنشدته مغريا بنصره ، كالوسيلة بقولي (١) : [الطويل]
سلا هل لديها من مخبّرة ذكر؟ |
|
وهل أعشب الوادي ونمّ به الزّهر؟ |
فهاج الامتعاض ، وسالت العبرات ، وكان يوما مشهودا ، وموقفا مشهورا ، طال به الحديث ، وعمرت به النوادي ، وتوزّعتنا النزائل على الأمل ، شكر الله ذلك وكتبه لأهله ، يوم الافتقار إلى رحمته. واستمرّت الأيام ، ودالت الدولة للرئيس بالأندلس ، والسلطان تغلبه المواعيد ، وتونسه الآمال ، والأسباب تتوفّر ، والبواعث تتأكّد. وإذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه ، واستقرّت بي الدار بمدينة سلا ، مرابطا ، مستمتعا بالغيبة ، تحت نعمة كبيرة ، وإعفاء من التكليف.
__________________
(١) البيت مطلع قصيدة من ٧٥ بيتا وردت في الكتيبة الكامنة (ص ١٢٢ ـ ١٢٥) وكتاب العبر (م ٧ ص ٦٣٨ ـ ٦٤٢) ونفح الطيب (ج ٧ ص ٨٠ ـ ٨٤) وأزهار الرياض (ج ١ ص ١٩٦ ـ ٢٠٠).