الشرق ما يكفي لسد نهمتهم وأيقنوا أن الأمر يطول إذا أرادوا القضاء على جميع الممالك الإسلامية في آسيا فترت هممهم بالطبع ، لكن الشام بعد ذلك وإن كانت الدول الأتابكية والنورية والصلاحية ودولة بيبرس وقلاوون وابنه يعمدون حالا إلى ترميم ما خربه الأعداء لإيقانهم أنها بلادهم ولا بدلهم من دفع أعدائهم عنها ، وأنهم يسترجعونها لا محالة وسيدالون منهم ، مهما طال مقام من استصفوا بعض السواحل وبيت المقدس فكان الأمر كما اعتقدوا.
وكلما طال احتلال الصليبيين كانت الأمة تستمرئ طعم الموت لطردهم ، وكلما رأت من ملك أو أمير تغاضيا عنهم أو اتقاء عاديتهم بالمعاهدات والمهادنات كانت تستهين به وتدعو أن لا تدوم أيامه. وعلى ما بذل الصليبيون من استمالة جيرانهم ما عدّهم هؤلاء قط إلا غاصبين أرضهم ، دخلاء على الملك الإسلامي. ولو لم يؤسس الدولة في الشام ومصر ملك عاقل عادل مثل نور الدين ويتم عمله عاقل عادل من طرازه أي صلاح الدين لما تمّ الفتح الأخير على يد الأشرف خليل ، ولما تمم أخلافه بعده الخطة المرسومة. ولو كان الملك لا يوسد إلا للكفاة من أبناء الملك أو لأكبرهم سنا ، ولو لم يكن شجر الخلاف بين آل أيوب ، لضرب الصليبيون الضربة القاضية الأخيرة بعد مهلك صلاح الدين بعشر أو بعشرين سنة على الأكثر ، إذ كان يتأتى للمسلمين أن يجمعوا قواهم بعد فشل جيش صلاح الدين على عكا بما جاء الصليبيين من النجدات العظيمة في البحر. ولكن مات صلاح الدين قبل أن يطبق خطته ، وشغل أخوه وأولاده بالتنازع على الملك ، وعدوا الهدنة الطبيعية التي مضت بين أخذ عكا واستلام القدس ثانية من المسلمين نعمة عليهم لتشبع نفس كل طامع منهم بالملك والسلطان ، وغفلوا عن أعدائهم الذين لم يكد يغفل عنهم نور الدين وصلاح الدين سنة واحدة إلا ريثما يجمعان قواهما ، وقد كانا لهذا الغرض يصانعان ملوك الأطراف ليسيروا معهما على قتال الأعداء ، أما أخلافهم فكانت سياستهم في الأكثر موجهة إلى اختراع الطرق لقضاء بعضهم على بعض ، أو لاستئثار قويهم بملك مصر أو دمشق أو حلب أو الكرك والشوبك أو ماردين أو خلاط ، فشغلوا بداخليتهم أكثر من اشتغالهم بأمور الجهاد وهي أهمّ وأعظم ، هذا وأكثر أولئك الملوك كانوا قد تشبعت نفوسهم بالتربية العالية والعلم والأدب الغزير ،