الانتقال من القرية إلى كمبريج
وإن عليّ بادي بدئ أن أكلم كاتب الجمعية وأخبره بما أصابني ، فلما قابلته غلبني النحيب والبكاء حتى انقطعت عن الكلام ، فاستعظم ذلك مني على سني ، فإن الإنكليز قلما يبكون على فائت ، ثم لما أعلمته بالسبب وشكوت له ما لاقيت في القرية ، وإني أخشى أن أموت قبل نجاز الترجمة. رأى أن الإبقاء على حياتي هو الصواب ، وأن الأوفق لي وللتوراة أن أمكث في كمبريج لأكون غير بعيد عن الدكطر لي.
واتفق مدة مكثي هذه في لندرة أن وقع ضباب كثيف دام سبعة عشر يوما ، حتى احتجنا في بعضها إلى ايقاد المصابيح نهارا لتهتدي أيدينا إلى أفواهنا ، فرأيت الجلاء أجلى وأولى ، فمن ثم سرت إليها فبلغتها بعد نحو أربع ساعات ، وهذه المدينة لا ملهى بها ولا حظ سوى مشاهدة المدارس والأساتذة والمتعلمين ، وهم من التكبر والصلف بمكان إخوانهم طلبة العلم في أكسفورد. وبعد وصولي بيوم جرى النزاع واللكام ما بين أهل المدارس وأهل البلدة كما جرى في أكسفورد. وفيها تعرفت ببعض فضلاء الإنكليز ممن عنوا بالعربية ، منهم الفاضل مستر وليمس الذي هو الآن مدرس فيها ، والفاضل مستر برسطون الذي ترجم خمسا وعشرين مقامة من مقامات الحريري إلى الإنكليزية (وقد تقدم ذكره) ، ومنهم الفاضل مستر جون برطون قرأ علي جزءا من المقامات ، وكان الذي عرفني به يهوديا كان يعلّمه لغته ، وإنه غاب عنه مدة فسألني عنه تلميذه ذات يوم فقلت : لا أدري أين هو. وإنما لاح لي من سيماء وجهه حين جاءني أن في أماقيه لشرا ، ثم لم يلبث أن شهر عنه في البلد أنه كان يضاجع بنته وهي دون العشر سنين ، وكان ذلك دأبه معها مدة مديدة ، فحكم عليه بالنفي المؤبد. وقد أدبت عند أحد أعيانهم وهو أحد أعضاء مجلس المشورة العام وإذ كنا واقفين في المجلس نتحادث لحت من بين القيام شخصا يهم بأن يدنو مني ليكلمني ، فدنوت منه ، فقال لي :
ـ قد طالما أردت أن أسألك عن شيء في بلادكم ، فهل تمن عليّ بالجواب؟
قلت :
ـ ما هو؟