أربه ، وإن علم أنه ارتكب ذلك اقتصّ منه كما يقتصّ من السارق ، ولم ينفعه أن يؤدّي الرشوة التي أخذها مضاعفة. نعم إن المراتب هنا إنّما تعطى غالبا بالمحاباة والاستحباب لا بالاستحقاق والاستيجاب ، فإنّ الأمير إذا نوّه بشخص من أقاربه ، أو معارفه عند ذي مرتبة وسيادة ، نفذت كلمته عنده ، ولو أنّ شخصا متّصفا بأحسن الأخلاق ومتحلّيا بالعلم والفضل حاول بنفسه أن ينال تلك المرتبة لم يلتفت إليه ، إلا أنّ هذا الداء عام في جميع الممالك.
ويلحق بما تقدّم من تفضيل الاستحباب على الاستيجاب أنّ النفر من العسكر لا يمكن أن يرتقي إلى مرتبة ضابط ، وإن ارتقى ألف حصن للعدو ، وأبدى من الشجاعة والبراعة ما يقصّر عنه قائد الجيش ، فهو نفر من يوم اكتتابه إلى يوم خروجه من الخدمة والحياة ، وبعد أن يقضي خمسا وعشرين سنة في الخدمة يعفى منها ، ويعيّن له نحو أربعة قروش في اليوم. والأمير أمير من يوم ينزل من ظهر أبيه إلى يوم يركب ظهر النعش ، ثم يدوم ذكره كذلك إلى أبد الآبدين ، فكأنّ ترتيب أصناف الناس عندهم بمنزلة ترتيب أعضاء الجسد ، بمعنى أنّ لكلّ عضو خاصّيّة ووظيفة لا يتعدّاها ولا تتعدّاه ، فالرأس لا يزال رأسا وإن سرى فيه الخرف والفند (٢١٢) ، والعور ، والصمم والدرد (٢١٣) ، والقدم لا تزال قدما وإن هي أنجته ، وأنجت الجسم كله.
وهذا التخصيص من وجه آخر سديد رشيد ، فإنّ ناظر الأمور الخارجية عندهم مثلا ليس له حقّ في أن يدمق (٢١٤) على ناظر الأمور الداخلية في شيء ، وناظر مجلس المشورة ليس له جدارة بأن يحكم على أحد الباعة بشيء من محراب صرحه. وقس على ذلك ، فأمّا في بلادنا حرسها الله فإنّ ناظر المدابغ جدير بأن ينظر في جلود بني آدم ، ويصبغها بلون الدرة والسوط ، أو يسبر ما هي عليه من الطراوة والنعومة. والمحتسب خليق بأن يزن أعمال عباد الله وأموالهم في بيوتهم ويروز ما في عباب صدورهم من الخواطر والأفكار ، وللحاكم ، أو للمطران أن يسقط حقّ المحق
__________________
(٢١٢) الفند : ضعف الرأي ـ الهرم. (م).
(٢١٣) الدرد : سقوط الأسنان. (م).
(٢١٤) يدمق : يدخل بغتة دون إذن. (م).