العقل سوى نصف المكتسب ، ونصف الغريزي لما أخطات ، تلك صفته من القديم.
فقد روي عن شيشرون أنّه قال : إنّ أبله الأسرى الذين جيء بهم إلى رومية هم الذين أخذوا من بريتانية والتمس من صديقه أطيقوس ألا يشتري فيما بعد منهم أحدا ، وذلك لبلادتهم ، وعدم أهليتهم لتعلّم الموسيقى ، وغيرها من الفنون. وروي أيضا عن قيصر أنّه قال : إنّ أهل بريتانيا جيل جاف متوحّش أكثر ما يكون ، وإنّ معظمهم لم ير الحنطة في عمره قط ، وإن قوتهم إنما هو اللحم واللبن لا غير ، ولباسهم جلود الحيوانات. قلت : ليس معنى قوله قوتهم اللحم أنهم كانوا يطبخونه بل إنّما يأكلونه نيئا مملوحا كما يظهر من رواية أهل التاريخ ، فإنّهم قالوا إنه علم من دفتر حاكم نرثمبر سنة ١٥١٢ أن أهل البارون كانوا يقتاتون باللحم المملوح ، فكان جلّ طعامهم. وكذلك حشمه لم يكونوا يأكلون طول السنة سوى اللحم المملوح وندر معه البقول أو الحبوب. فمن ثم غلط من زعم أن البيف ستك أعني شواء البقر المشرّح كان مستعملا في إنكلترة من القديم فإنّ هذا الغذاء المريء لم يعهد قبل شارلس الثاني لأنّه كان يحبّ الشواء من ظهر البقر.
قلت وإلى الآن هم يحبّون هذا الشواء غير ناضج وربّما قطر دمه في الصحفة ، ويستطيبونه على سائر ألوان الطعام ، ولكن من رأى أهل جبل لبنان يقطعون الهبر من الضأن ويأكلونه نيئا فلا يلوم الإنكليز.
جهلهم المدن والبلاد
هذا ومع تكرّر ذكر مدن برّ الشام على مسامعهم من المنابر في كل يوم أحد ، ومع كثرة قراءتهم للتوراة والإنجيل ، فلا يكادون يعرفون أين موقع دمشق مثلا من الإسكندرية ، ولا يتذكرون شيئا عن صور وصيدا وبيروت وجبل لبنان مع أنها مكرّرة في الكتابين المذكورين بما لا مزيد عليه.
والظاهر أن مصر أشهر عندهم وعند الفرنسيس أيضا من الشام. وقد سألني مرّة في أكسفورد رجل له سمت ورواء (١٧٥)
__________________
(١٧٥) السمت : السكينة والوقار ، والرّواء : المنظر الحسن. (م).