إلى أميّين لا عهد لهم بالتعلم ، فكان الجهل أول طوق يجب أن يكسر ، وكان الجمود الفكري أول حاجز يجب أن يتجاوز ، وكان التقوقع على الأوهام أول ما يجب التحرر منه ، فكانت البداية هذا الافتتاح الرفيع الذي يتناسب مع هذه الثورة الجديدة ، إنها الدعوة الفطرية إلى الايمان والعلم بعرض واحد ، فهو إرهاص بإيمان سينتشر ، وإشعار بإفاضات علمية ستضيء ، مصدرها الله تعالى ، وأدائها العلم ، لارتياد المجهول واكتشاف المكنون (١).
وتداعت قريش إلى افتراضات متناقضة تجاه القرآن ، وضلّت في متاهات حائرة من أمره ، فقالوا : أضغاث أحلام ، وقد أيقنوا بصحوة النبي ويقظته ، وعزوه إلى الكذب والاختلاق ، وقد وصفوه هم أنفسهم بالصادق الامين ، ونسبوه إلى الشعر ، وقد علموا أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته ، وما استقامت لهم الدعوى بشيء ، فوصموه بسلاح العاجر ، وقالوا أنه مجنون ، قال تعالى : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) ) (٢).
وقد دلت الأحداث الاستقرائية ، والسيرة التجريبية للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على رجاحة عقله ، وإتزانه الدقيق في تصرفاته كافة ، فرددوا قول الكهانة والجنون فرد إفتراءهم القرآن : ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) ) (٣) وتمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت ، فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم معلماً من البشر ، وهو غلام رومي يمتهن صناعة السيوف بمكة ، ولا يعرف العربية فردهم القرآن رداً بديهياً حاسماً ، قال تعالىٰ : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (١٠٣) ) (٤).
وحينما أعيتهم الحيلة ، ووقف بهم المنطق السليم ، وتداعت الأوهام المتناثرة هنا وهناك إنطلقوا إلى القول : ( فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) (٥) ، وما كان
__________________
(١) ظ : المؤلف ، تأريخ القرآن : ٣٨.
(٢) الحجر : ٦.
(٣) الطور : ٢٩.
(٤) النحل : ١٠٣.
(٥) المدثر : ٢٤.