وتباين أجناسهم ، وما منهم إلا من يرمى إليه إحرامه فيغسله بيده ويناوله صاحبه ، وجلس على باب الكعبة ، وأخذ بأيدى الناس ليطلعهم إليها ، فتعلق بعض العامة بإحرامه ليطلع فقطعه ، وكاد يرمى السلطان عن العتبة إلى الأرض ، وهو مستبشر بجميع ذلك وعلّق كسوة الكعبة بيده ـ ومعه خواصه ـ وتردّد إلى من بمكة والمدينة من أهل الخير يلتمس بركتهم ، ويسأل دعاءهم ، هذا وقاضى القضاة صدر الدين سليمان بن عبد الحق الحنفى معه طول طريقه يستفتيه ، ويتفهم منه أمور دينه ، ولم يغفل مع ذلك عن تدبير الممالك ، وكتّاب الإنشاء تكتب عنه فى المهمات.
وكتب إلى صاحب اليمن ينكر عليه أمورا ويقول : «سطرتها من مكة المشرفة وقد أخذت طريقها فى سبع عشرة خطوة» ـ يعنى بالخطوة المنزلة ـ ويقول : «الملك هو الذى يجاهد فى الله حق جهاده ، ويبذل نفسه فى الذبّ عن حوزة الدين ، فإن كنت ملكا فاخرج والق التتر».
وأحسن إلى أميرى مكة ، وإلى أمير ينبع ، وأمير خليص ، وأكابر الحجاز. وكتب منشورين لأميرى مكة ، ورتب معهما الأمير شمس الدين مروان نائب أمير جاندار بمكة حسب سؤالهما ، ليكون مرجع الأمور إليه ، والحل والعقد على يديه ، وزاد أميرى مكة مالا وغلالا فى كل سنة لأجل تسبيل الكعبة للناس.
وسار من مكة بعد قضاء النسك فى ثالث عشره ، وقدم المدينة النبوية ثانيا فى عشرينه ، فبات بها ، وسار من غده ، فجدّ فى السير ومعه عدة يسيرة ، فقدم الكرك بكرة يوم الخميس سلخه من غير أن يعلم أحد بوصوله حتى نزل مشهد جعفر الطيار رضى الله عنه بقرية مؤتة ، فتلقاه الناس بها ، ودخل المدينة وعليه عباءته التى سار بها ، وهو راكب راحلته ، فبات بها.
ورحل من الغد بعد ما صلى الجمعة ، مستهل المحرم سنة ثمان وستين وستمائة ، ومعه مائة فارس ، بيد كل فارس منهم فرس وساق إلى دمشق سائر من ببلاد مصر والشام من الأمراء ومن دونهم لا يعرفون شيئا من خبر السلطان ، هل هو فى الشام أو الحجاز أو غير ذلك من بلاد الله ولا يجسر أحد من شدة مهابته والخوف منه أن يتكلم بشىء من خبره ، ولا يسأل عنه.
فلما قارب دمشق بعث أحد خاصته على البريد بكتب البشارة إلى دمشق بالسلامة بعد قضاء الحج ، فلما دخل الأمير جمال الدين التجيبى ـ نائب دمشق ـ جمع الأمراء