عيسى بن مهنا (١) إلى الدهليز بالخربة ، فأوهم السلطان أنه يريد الحركة إلى العراق ، وأمره بالتأهب ليركب إذا وعى وردّه لبلاده ، وكان السلطان فى الباطن إنما يريد الحركة للحجاز لكنه ورّى بالعراق.
فلما دخل شوّال أنفق فى العساكر جميعها ، وجرّد طائفة مع الأمير أقوش الرومى السلاح دار ليكونوا صحبة الركاب السلطانى ، وجرّد طائفة مع الأمير شمس آق سنقر الفارقانى الأستادار إلى دمشق ليقيموا ظاهرها.
وتوجه السلطان للحج ومعه الأمير بدر الدين الخازندار ، وقاضى القضاة صدر الدين سليمان الحنفى ، وفخر الدين إبراهيم بن لقمان (٢) كاتب السر ، وتاج الدين بن الأثير ، ونحو ثلاثمائة مملوك ، وعدة من أجناد الحلقة.
وسار من الغور يوم خامس شوال كأنه يتوجه إلى الكرك كأنه يتصيد ، ولم يجسر أحد أن يتحدث بأنه متوجه إلى الحجاز وذلك أن الحاجب جمال الدين بن الداية كتب إلى السلطان يسأله : «إنى أشتهى أن أتوجه صحبة السلطان إلى الحجاز» ، فأمر بقطع لسانه ، فلم يتفوه أحد بعدها بذلك ، فوصل إلى الكرك أول يوم من ذى القعدة ، وكان قد دبر أموره خفية من غير أن يطلع أحد على شىء مما فعله ، بحيث أنه جهّز البشماط والدقيق والروايا والقرب والأشربة ، وعين العربان المتوجهين معه والمرتبين فى المنازل من غير أن يشعر أحد من الخاصة فضلا عن العامة بذلك ، ففرّق فى المجردين معه الشعير ، وبعث الثقل فى رابعه ، وتبعه فى سادسه ، فنزل الشّوبك ، ورسم بإخفاء خبره.
واستقل بالمسير فى حادى عشره ، وأنفذ البريد إلى قلعة الجبل لمهمات له ، فجهزت الكتب مع العربان ، وقدم المدينة فى خامس عشريه فلم يقابله الأمير جماز ولا مالك ، أميرا المدينة ، وفرّا منه ، فأعرض عنهما. ورحل فى سابع عشريه وأحرم فدخل مكة فى خامس ذى الحجة ، وأعطى خواصه جملة أموال لتفرق فى الناس سرا ، وعم أهل الحرمين بالكسوة التى فرّقها ، وصار كآحاد الناس لا يحجبه أحد ، ولا يحرسه إلا الله تعالى ، وبقى منفردا يصلى وحده ، ويطوف وحده ، ويسعى وحده ، فلا يعرفه إلا من يعرفه ، وغسل الكعبة بيده بماء الورد ، وصار بين جميع الناس على اختلاف طبقاتهم
__________________
(١) انظر : (غربال الزمان ـ خ ، السلوك ١ / ٧٢٦ ، النجوم الزاهرة ٧ / ٣٦٣ ، تاريخ ابن الفرات ٨ / ١٢ ، ابن خلدون ٥ / ٤٣٨ ، صبح الأعشى ٤ / ٢٠٦ ، الأعلام ٥ / ١٠٩).
(٢) انظر : (النجوم الزاهرة ٦ / ٣٦٦ ، ٨ / ٥٠ ، ٥١ ، البداية والنهاية ١٣ / ٣٣٧ ، السلوك ١ / ٣٥٦ ٧٨٢٢ ، ٨٠٤ ، مرآة الزمان ٨ / ٧٧٨ ـ ٧٧٩ ، الأعلام ١ / ٥٨).