تهامة وراءنا ، ومشينا في بسيطة من الأرض ينحسر الطرف دون أدناها ولا يبلغ مداها ، وتنسمنا نسيم نجد وهواءها المضروب به المثل ، فانتعشت النفوس والأجسام ببرد نسيمه وصحة هوائه. ونزلنا يوم الثلاثاء ، رابع يوم رحيلنا ، على ماء يعرف بماء العسيلة. ثم نزلنا يوم الأربعاء ، خامس يوم رحيلنا ، بموضع يعرف بالنقرة ، وفيها آبار ومصانع كالصهاريج العظام ، وجدنا أحدها مملوءا بماء المطر ، فعم جميع المحلة ولم ينضب على كثرة المحلة واستماحتها.
وصفة مراحل هذا الأمير بالحاج أن يسري من نصف الليل إلى ضحيه ، ثم ينزل أول الظهر ، ثم يرحل وينزل مع العشاء الآخرة. ثم يقوم نصف الليل. هذا دأبه.
ونزلنا ليلة الخميس الثالث عشر لمحرم ، وسادس يوم رحيلنا ، على ماء يعرف بالقارورة ، وهي مصانع مملوءة بماء المطر. وهذا الموضع هو وسط أرض نجد. وما أرى أن في المعمور أرضا أفسح بسيطا ، ولا أوسع أنفا ، ولا أطيب نسيما ولا أصح هواء ، ولا أمد استواء ، ولا أصفى جوا ، ولا أنقى تربة ، ولا أنعش للنفوس والأبدان ، ولا أحسن اعتدالا ، في كل الأزمان ، من أرض نجد. ووصف محاسنها يطول ، والقول فيها يتسع.
وفي يوم الخميس المذكور ، مع ضحوة النهار ، نزلنا بالحاجر ، والماء فيه في مصانع ، وربما حفروا عليه حفرا قريبة العمق يسمونها أحفارا ، واحدها حفر. وكنا نتخوف في هذا الطريق قلة الماء ، لا سيما مع عظم هذا الجمع الأنامي والأنعاميّ ، الذين لو وردوا البحر لأنزفوه واستقوه ، فأنزل الله من سحب رحمته ما أعاد الغيطان غدرانا ، وأجرى المسول سيولا ، وصير الوهاد مملوءة عهادا (١). فكنا نبصر مذانب (٢) الماء سائحة على وجه الأرض فضلا من الله ونعمة ، ولطفا من الله بعباده ورحمة ، والحمد لله على ذلك. وفي اليوم المذكور أجزنا بالحاجر واديين سيالين ، وأما البرك والقرارات فلا تحصى.
وفي يوم الجمعة بعده نزلنا ضحوة النهار سميرة ، وهي موضع معمور ، وفي بسيطها شبه حصن يطيف به حلق كبير مسكون ، والماء فيه في آبار كثيرة إلا أنها زعاق
__________________
(١) العهاد (جمع عهد) : أول مطر الربيع.
(٢) المذانب (جمع مذنب) : مسيل الماء إذا لم يكن واسعا.