والصلاة تفوت ، وقد ضج من له دين وصحة من الناس ، وأعلن بالصياح وهو قاعد ينتظر اشتفاف صبابة الكدية وقد أراق عن وجهه ماء الحياء ، فاجتمع له من ذلك السحت المؤلف كوم عظيم أمامه ، فلما أرضاه قام وأكمل الخطبة وصلى بالناس. وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين ، يائسين من فلاح الدنيا متحققين أشراط الآخرة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وفي عشي ذلك اليوم المبارك ، كان وداعنا للروضة المباركة والتربة المقدسة ، فياله وداعا عجبا ذهلت له النفوس ارتياعا حتى طارت شعاعا ، واستشرت به النفوس التياعا حتى ذابت انصداعا! وما ظنك بموقف يناجي بالتوديع فيه سيد الأولين والآخرين ، وخاتم النبيين ، ورسول رب العالمين؟ إنه لموقف تنفطر له الأفئدة ، وتطيش به الألباب الثابتة المتئدة ، فوا أسفاه وا أسفاه! كل يبوح لديه بأشواقه ، ولا يجد بدا من فراقه ، فما يستطيع إلى الصبر سبيلا ، ولا تسمع في هول ذلك المقام إلا رنة وعويلا ، وكلّ بلسان الحال ينشد :
محبتي تقتضي مقامي |
|
وحالتي تقتضي الرحيلا |
بوّأنا الله بزيارة هذا النبي الكريم منزل الكرامة ، وجعله شفيعا لنا يوم القيامة وأحلنا من فضله في جواره دار المقامة ، برحمته إنه غفور رحيم ، جواد كريم. وكان مقامنا بالمدينة المكرمة خمسة أيام ، أو لها يوم الاثنين وآخرها يوم الجمعة.
الرحيل إلى العراق
وفي ضحوة يوم السبت الثامن لمحرم المذكور ، والحادي والعشرين من شهر أبريل ، كان رحيلنا من المدينة المكرمة إلى العراق ، قرّب الله لنا المرام وسهل علينا السبيل. واستصحبنا منها الماء لثلاثة أيام ، فنزلنا يوم الاثنين ، ثالث يوم رحيلنا المذكور ، بوادي العروس ، فتزود الناس منها الماء ، يحفرون عليه في الأرض بئرا فينبع منها ماء عذب معين يروي الأمة التي لا يحصى لها عدد من هذه المحلة مع جمالها التي تنيف على عددها ، ولله القدرة سبحانه. وصعدنا من وادي العروس إلى أرض نجد ، وخلفنا