وأمر هذا الرجل صدر الدين عجيب في قعدده (١) وأبهته وملوكيته ، وفخامة آلته ، وبهاء حالته ، وظاهر مكنته ووفور عدته ، وكثرة عبيده وخدمته ، واحتفال حاشيته وغاشيته ، فهو من ذلك على حال يقصر عنها الملوك. وله مضرب كالتاج العظيم في الهواء ، مفتح على أبواب على هيئة غريبة الوضع ، بديعة الصنعة والشكل ، تطل على المحلة من بعد ، فتبصره ساميا في الهواء. وشأن هذا الرجل العظيم لا يستوعبه الوصف ، شاهدنا مجلسه فرأينا رجلا يذوب طلاقة وبشرا ، ويخفّ للزائر كرامة وبرا ، على عظيم حرمته وفخامة بنيته ، وهو أعطي البسطتين علما وجسما ، استجزناه فأجازنا نثرا ونظما. وهو أعظم من شاهدنا بهذه الجهات.
وفي يوم الجمعة المذكور ، وهو السابع من محرم ، شاهدنا من أمور البدعة أمرا ينادى له الإسلام : يا لله يا للمسلمين. وذلك أن الخطيب وصل للخطبة ، فصعد منبر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهو ، على ما يذكر ، على مذهب غير مرضي ، ضد الشيخ الإمام العجمي الملازم صلاة الفريضة في المسجد المكرم. فذلك على طريقة من الخير والورع ، لائقة بأمام مثل ذلك الموضع الكريم. فلما أذن المؤذنون قام هذا الخطيب المذكور للخطبة ، وقد تقدمته الرايتان السوداوان وقد ركزتا بجانبي المنبر الكريم ، فقام بينهما ، فلما فرغ من الخطبة الأولى ، جلس جلسة خالف فيها جلسة الخطباء المضروب بها المثل في السرعة ، وابتدر الجمع مردة من الخدمة يخترقون الصفوف ، ويتخطون الرقاب ، كدية على الأعاجم والحاضرين لهذا الخطيب القليل التوفيق ، فمنهم من يطرح الثوب النفيس ، ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير فيعطيها ، وقد أعدها لذلك ، ومنهم من يخلع عمامته فينبذها ، ومنهم من يتجرد عن برده فيلقي به ، ومنهم من لا يتسع حاله لذلك فيسمح بفضلة من الخام ، ومنهم من يدفع القراضة من الذهب ، ومنهم من يمد يده بالدينار والدينارين إلى غير ذلك ، ومن النساء من تطرح خلخالها وتخرج خاتمها فتلقيه ، إلى ما يطول الوصف له من ذلك. والخطيب ، في أثناء هذه الحال كلها ، جالس على المنبر يلحظ هؤلاء المستجدين المستسعين على النار بلحظات يكرّها الطمع ويعيدها الرغبة والاستزادة ، إلى أن كاد الوقت ينقضي ،
__________________
(١) القعدد : القريب من الجد الأكبر ، أي كرم المنبت.