وحضر قراؤه أمامه ، فابتدروا القراءة بنغمات عجيبة وتلاحين مطربة مشجية ، وهو يلحظ الروضة المقدسة فيعلن بالبكاء. ثم أخذ في خطبة من إنشائه سحرية البيان. ثم سلك في أساليب من الوعظ باللسانين ، وأنشد أبياتا بديعة من قوله ، منها هذا البيت ، وكان يردده في كل فصل من ذكره صلى الله عليه وسلم ، ويشير إلى الروضة :
هاتيك روضته تفوح نسيما |
|
صلوا عليه وسلموا تسليما |
واعتذر من التقصير لهول ذلك المقام ، وقال : عجبا للألكن الأعجم ، كيف ينطق عند أفصح العرب! وتمادى في وعظه إلى أن أطار النفوس خشية ورقة ، وتهافتت عليه الأعاجم معلنين التوبة ، وقد طاشت ألبابهم ، وذهلت عقولهم ، فيلقون نواصيهم بين يديه ، فيستدعي جلمين (١) ويجزّها ناصية ناصية ، ويكسو عمامته المجزوز الناصية ، فيوضع عليه للحين عمامة أخرى من أحد قرائه أو جلسائه ، ممن قد عرف منزعه الكريم في ذلك. فبادر بعمامته لاستجلاب العرض النفيس لمكارمه الشهيرة عندهم ، فلا زال يخلع واحدة بعد أخرى ، إلى أن خلع منها عدة وجزّ نواصي كثيرة. ثم ختم مجلسه بأن قال : معشر الحاضرين ، قد تكلمت لكم ليلة بحرم الله عزّ وجل ، وهذه الليلة بحرم رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، ولا بد للواعظ من كدية (٢) ، وأنا أسألكم حاجة إن ضمنتموها لي أرقت لكم ماء وجهي في ذكرها. فأعلن الناس كلهم بالإسعاف ، وشهيقهم قد علا ، فقال : حاجتي أن تكشفوا رؤوسكم ، وتبسطوا أيديكم ، ضارعين لهذا النبي الكريم في أن يرضى عني ، ويسترضي الله عز وجل لي. ثم أخذ في تعداد ذنوبه والاعتراف بها ، فأطار الناس عمائمهم ، وبسطوا أيديهم للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، داعين له ، باكين متضرعين ، فما رأيت ليلة أكثر دموعا ، ولا أعظم خشوعا ، من تلك الليلة. ثم انفض المجلس ، وانفض الأمير ، وانفضت الخاتون من موضعها. وعند وصول صدر الدين المذكور ، أزيل الستر عنها ، وبقيت بين خدمها وكرائمها متلفعة في ردائها فعاينا من أمرها في الشهرة الملوكية عجبا.
__________________
(١) الجلم والجلمان (بالتثنية) : المقص.
(٢) الكدية : الاستجداء والتسول.