يهول ويروع ، واصطكاكا نبع (١) المحارات فيه بعضه ببعض مقروع. فمن لم يشاهد هذا السفر العراقي لم يشاهد من أعاجيب الزمان ما يحدث به ، ويتحف السامع بغرابته ، والقدرة والقوة لله وحده ، وحسبك أن النازل في منزل من منازل هذه المحلة متى خرج عنها لبعض حاجة ، ولم تكن له دلالة يستدل بها على موضعه ضل وتلف ، وعاد منشودا في جملة الضوّال. وربما اضطرته الحال إلى الوصول إلى مضرب الأمير ، ورفع مسألته إليه ، فيأمر أحد المنشدين ببريحه والهاتفين بأوامره ممن قد أعد لذلك أن يردفه خلفه على جمل ويطوف به المحلة العجاجة ، وهو قد ذكر له اسمه ، واسم جمّاله ، واسم البلد الذي هو منه ، فيرفع عقيرته بذلك معرفا بهذا الضال ، ومناديا باسم الجمال وبلده ، إلى أن يقع عليه ، فيؤديه إليه. ولو لم يفعل ذلك لكان آخر عهده بصاحبه إلا أن يلتقطه التقاطا أو يقع عليه اتفاقا. فهذا من بعض عجائب شؤون هذه المحلة ، وعجائبها أكثر من أن يحيط بها الوصف. ولأهلها من قوة الجدة واليسار ما يعينهم على ما هم بسبيله ، والملك بيد الله يؤتيه من يشاء.
ولهؤلاء النسوة الخواتين في كل عام ، إذا لم يحجبن بأنفسهن ، نواضح مسبلة مع الحاج يرسلنها مع ثقات يسقون أبناء السبيل في المواضع المعروف فيها الماء ، وفي الطريق كله ، وبعرفات ، وبالمسجد الحرام ، في كل يوم وليلة. فلهن في ذلك أجر عظيم ، وما التوفيق إلا بالله جل جلاله. فتسمع المنادي على النواضح يرفع صوته بالماء للسبيل ، فيهطع (٢) إليه المرملون (٣) من الزاد ، والماء بقربهم وأباريقهم فيملأونها ، ويقول المنادي في إشادته بصوته : أبقى الله الملكة خاتون ، ابنة الملك الذي من أمره كذا ، ومن شأنه كذا. ويحليه بحلاه ، إعلانا باسمها ، وإظهارا لفعلها ، واستجلابا للدعاء لها من الناس ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. وقد تقدم تفسير هذه اللفظة خاتون ، وأنها عندهم بمنزلة السيدة أو ما يليق بهذا اللفظ الملوكي النسائي.
ومن عجيب هذه المحلة أيضا ، على عظمها وكبرها ، وكونها وجود دنيا بأسرها ،
__________________
(١) النبع : شجر صلب. والمحارات : مناسم الإبل. وقد شبه قوائم الإبل بالخشب الصلب.
(٢) يهطع : يسرع.
(٣) المرملون : من نفد زادهم.