ذلك نحو المائة بعير. وأمورها يطول وصفها ، وسنها نحو خمسة وعشرين عاما.
ولخاتون الثانية ، أم عز الدين صاحب الموصل ، زوج قطب الدين ابن أتابك (١) أخي نور الدين الذي كان صاحب الشام ، رحمه الله ، ولهذه أفعال كثيرة من البر. وخاتون الثالثة ابنة الدقوس ، صاحب أصبهان من بلاد خراسان ، وهي أيضا كبيرة القدر ، عظيمة الشأن ، منافسة في أفعال البر. وشأنهن جمع عجيب جدا فيما هن بسبيله من الخيل والاحتفال في الأبهة الملوكية.
ثم أقلعنا ظهر يوم السبت الرابع والعشرين لذي الحجة المذكور ونزلنا بمقربة من عسفان ، ثم أسرينا إليها نصف الليل وصبحناها بكرة يوم الأحد. وهي في بسيط من الأرض بين جبال ، وبها آبار معينة تنسب لعثمان ، رضي الله عنه ، وشجر المقل فيها كثير. وبها حصن عتيق البنيان ، ذو أبراج مشيدة ، غير معمور ، قد أثر فيه القدم ، وأوهته قلة العمارة ولزوم الخراب. فاجتزناها بأميال ونزلنا مريحين قائلين.
فلما كان إثر صلاة الظهر أقلعنا إلى خليص ، فوصلناها عشي النهار. وهي أيضا في بسيط من الأرض ، كثيرة حدائق النخل ، لها جبل فيه حصن مشيد في قنته. وفي البسيط حصن آخر قد أثر فيه الخراب. وبها عين فوارة قد أحدثت لها أخاديد في الأرض مسربة ، يستقى منها على أفواه كالآبار ، يجدد الناس بها الماء لقلته في الطريق بسبب القحط المتصل ، والله يغيث بلاده وعباده. وأصبح الناس بها مقيمين يوم الاثنين لإرواء الإبل واستصحاب الماء.
وهذه الجملة العراقية ، ومن انضاف إليها من الخراسانية والمواصلة وسائر جهات الآفاق ، من الواصلين صحبة أمير الحاج المذكور جمع لا يحصي عدده إلا الله تعالى ، يغص بها البسيط الأفيح ، ويضيق عنهم المهمه (٢) الصحصاح ، فترى الأرض تميد بهم ميدا ، وتموج بجميعهم موجا ، فتبصر منهم بحرا طامي العباب ، ماؤه السراب ، وسفنه الركاب ، وشرعه الظلائل المرفوعة والقباب ، تسير سير السحب المتراكمة ، يتداخل بعضها على بعض ، ويضرب بعضها جوانب بعض. فتعاين لها تزاحما في البراح المنفسح
__________________
(١) أتابك (كلمة تركية) منحوتة من كلمتين : (أتا) ومعناها : (أب) ، وبك ومعناها : أمير.
(٢) المهمه : المفازة والصحراء. والصحصاح : الأرض المستوية.