غريب مشغولا بكتابة التفسير في حديقة عامة إذ مرّبي أطفال كانوا في رحلة مدرسية فلما رأوني التفّوا حولي ينظرون مستغربين ، ولم أكن أعرف لغتهم الغريبة حتى أوضّح لهم عملي ، حتى جاء بعض مرافقيّ وطلب منهم الابتعاد. على العموم : كان المنظر غريبا بالنسبة إليهم ، كما كان غريبا بالنسبة إلى جليسي في طائرة حلّقت بنا ساعات طويلة ولم أتحدث إليه ، حتى ملّ مني لانّي كنت أتابع كتاباتي .. ومضيفي في باريس كان يلحّ عليّ بالخروج من البيت للتفرّج على معالم تلك المدينة ، لكنّي كنت أفضّل متابعة الكتابة إلّا قليلا .. وهكذا كان عليّ أن أدفع الثمن لو أردت متابعة التأليف ، والحكمة العربية تقول : لكلّ شيء آفة وللعلم آفات ، وعلى المتعلّم أن يتحدّى كلّ الآفات.
ومع كل ذلك أحسّ بأنّ العمر قد ضاع في زحمة الآفات المتنوّعة ، كالمشاغل الكاذبة ، والجلسات التافهة ، والفراغات التي لم أملاها بجدّيّة كافية. إننّي أشعر أنّ اهتمامنا بأعظم مواهب الله علينا (العمر) أقلّ مّما كان ينبغي ، لذلك نضيّعه فيما لا يغني شيئا ، وقد نقضيه في اللهو واللعب ولا نعرف قيمته حقّا إلّا بعد أن نوقف للحساب ونسأل عن كلّ ساعة ساعة منه فيم أفنيناها.
وقد كان سرّ التوفيق الذي حالف علماءنا الكرام فأنجزوا تلك المشاريع العظيمة معرفتهم بقيمة الوقت ، وجدّيتهم في ألّا يخسروا من عمرهم شيئا يحاسبون غدا عليه حسابا عسيرا.
حقّا : كانت لهم إنجازات رائعة نتضاءل أمامها ، فكيف تسنّى للعلّامة الحلّي ـ رضوان الله عليه ـ أن يؤلّف ألف كتاب مع أمور مرجعيّته وقيادته للمؤمنين؟ فلو لا أنّه كان يتحدّى آفات العلم بإرادته الصلبة لما وفّق لمعشار ذلك! مثلا عند ما دعي إلى حفل زواج في مدينة بعيدة سافر إليها في عطلة نهاية الأسبوع