طافوا بقصره ، فأمر مناديه فنادى : ألا إنّ قيصر إنّما أراد أن يجرّبكم كيف صبركم على دينكم ، فارجعوا فقد رضي عنكم. ثمّ قال للرسول : إنّي أخاف على ملكي. وإنّي لأعلم أنّ صاحبك نبيّ مرسل ، والذي كنّا ننتظره ونجده في كتابنا ، ولكنّي أخاف الروم على نفسي، ولو لا ذلك لاتبعته). (١)
وعلى أية حال ، ينبغي التنويه بعدم وجود تعارض بين أيّ منالتّفسيرين ، فيمكن حمل الآية على ندم بعض من الكافرين في كلا العالمين (الدنيا والآخرة) ، واعتبار عدم استطاعتهم العودة إلى الإسلام في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لجهات مختلفة ـ فتأمل.
ثمّ يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة ، يا محمّد (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف ، ولا تفهم سوى اللّذات المادية ، وكل ما تريده لا يتعدى إطار ما تعرف وتفهم.
إنّهم لا يدركون فقه الحقائق ، لأنّ حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم.
ولكن ، عند ما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم ، وحينما يجدون أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة ، هنالك سيدركون عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم ، وكيف أنّهم قد ضيعوا أغلى ما كانوا يملكون!
الآية التالية توضح محدودية اللذائذ الدنيوية لكي لا يظن أحد إنّما خالدة فتقول : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) ثمّ يقول تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ).
فقد سرت سنّة الباري جل شأنه بأن يعطي المدّة الكافية لرجوع المضللين إلى بارئهم ، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارة ، وبفيوضات رحمة الرخاء
__________________
(١) مكاتيب الرّسول ، ج ١ ، ص ١١٢.