حتميّة موافقتهم على اجتهادات الشيخين ليشير إلى هذه الحقيقة.
أنّ اتجاه التعبّد المحض لم يكن على وفاق مع نهج الاجتهاد والرأي فكريا ، فابن عوف يريد تطبيق ما سنّ على عهد الشيخين ، ورجال التعبد لا يرتضون إعطاء الشرعية لهذه الاجتهادات ، لمخالفة بعضها لكتاب اللّٰه وسنة نبيه ، فكانوا يخالفون تلك المواقف ويحدّثون عن رسول اللّٰه صلىاللهعليهوآله فيها ، وهذه هي التي كانت تؤذي الخليفة عمر بن الخطّاب ، ولمّا ظهرت الأحاديث بيد الناس دعاهم عنده وقال لهم : (انكم أكثرتم الحديث عن رسول اللّٰه صلىاللهعليهوآله) أو قوله (افشيتم الحديث عن رسول اللّٰه صلىاللهعليهوآله) ثمّ أمرهم بالبقاء عنده حتى أصيب.
فانصار التعبّد المحض كانوا يحدّثون حتى لو وضعت الصمصامة على أعناقهم.
وقد مر عليك ما قاله الصحابي الكبير أبو ذر الغفاري في مقدمة هذا المجلد (١).
فالاتجاه الحاكم كان لا يريد أن يتحدّث أبو ذر وأمثاله بالأحكام التي قد لا توافق الخليفة ، لأنّ المشهد عظيم وهو (الحج) ، والمكان ـ الجمرة الوسطى ـ أكثر ما يجتمع فيه الحجيج ، لكونه مجمع الصاعد منهم إلى العقبة ، والهابط إلى الجمرة الصغرى ، فكلام أبي ذر في هذا المشهد واجتماع الناس عليه يستفتونه هو ما لا يرضي الخلفاء ، وقد نهى عمر وعثمان أبا ذر عن هذا سابقا وأن المعترض ذكّره بقوله (ألم تنه).
فقد يكون النهي السابق هو إشارة إلى ما أخرجه الحاكم بسنده عن إبراهيم : إنّ عمر قال لابن مسعود ولأبي ذر ولأبي الدرداء : ما هذا الحديث عن رسول اللّٰه صلىاللهعليهوآله وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب (٢).
ففي جملة (ما هذا الحديث) أو قوله في نص آخر (إنكم أفشيتم الحديث عن رسول اللّٰه صلىاللهعليهوآله) وفي ثالث (أكثرتم الحديث عن رسول اللّٰه صلىاللهعليهوآله) إشارة إلى أنه كان يرى في الإفشاء والإكثار ونقل الحديث ثقل المواجهة معه! ولو تأنّيت في موقف ابن عبّاس في التلبية لرأيته نفس موقف أبي ذر في رفض
__________________
(١) انظر صحيح البخاري ١ : ٢٧ ، فتح الباري ١٨ : ١٧٠ ، سنن الدارمي ١ : ١١٢ ، وحجية السنة وفي بعض النصوص ان المتكلم مع أبي ذر كان عثمان بن عفان.
(٢) المستدرك على الصحيحين ١ : ١١٠ ، مجمع الزوائد ١ : ١٤٩ ، قال الحاكم في المستدرك : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في ذيله على الكتاب.