ابن موسى عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت ملوك بعد عيسى عليهالسلام بدّلوا التوراة والإنجيل. وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله ويأمرونهم بتقوى الله سبحانه ، فقيل لملكهم : لو جمعت هؤلاء الذين شقّوا عليكم وآذوكم فقتلتموهم ، أقرّوا بما نقرّ به ، ودخلوا فيما نحن فيه. فدعاهم ملكهم وجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل. إلّا ما بدّلوا فيها ، فقالوا : ما تريد منّا؟ نحن نكفيكم أنفسنا. فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نردّ عليكم. وقالت طائفة أخرى : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونسرب كما تسرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا. وقالت طائفة منهم : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم. وليس أحد من أولئك إلّا له حميم منهم ، ففعلوا ذلك بهم فمضى أولئك على منهاج عيسى ، وخلف قوم من بعدهم ممّن قد غيّر الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبّد كما تعبّد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، ونتّخذ دورا كما اتّخذ فلان ، وهم على شركهم ، ولا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله سبحانه : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ). قال : ابتدعها هؤلاء الصالحون (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) ، يعني الآخرين الذين جاءوا من بعدهم ، و (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) يعني الذين : ابتدعوها (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) : الذين جاءوا من بعدهم.
قال : فلمّا بعث النبيّ صلىاللهعليهوسلم عليهالسلام ولم يبق منهم إلّا قليل ، انحطّ رجل من صومعته ، وجاء السائح من سياحته وصاحب الدير من ديره ، وآمنوا به وصدّقوه فقال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمّد عليهالسلام (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال : أجرين ؛ لإيمانهم بعيسى والإنجيل وإيمانهم بمحمّد والقرآن ، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يعني : القرآن (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الذين يتشبّهون بهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) إلى آخرها.
وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله : (وَرَحْمَةً) ثم قال : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) ؛ وذلك أنّهم تركوا الحقّ ، وأكلوا لحم الخنزير ، وشربوا الخمر ، ولم يتوضّؤوا ولم يغتسلوا من جنابة ، وتركوا الختان ، (فَما رَعَوْها) يعني : الطاعة والملّة (حَقَّ رِعايَتِها). كناية عن غير مذكور. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) ، وهم أهل الرأفة والرحمة (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ، وهم أهل الرهبانية والبدعة ، وإليه ذهب مجاهد.
ومعنى قوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) : وما أمرناهم إلّا بذلك وما أمرناهم إلّا بالترهّب ، أو يكون وجهه : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) بزعمهم وعندهم ، والله أعلم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمّد عليهالسلام (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) : نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) ؛ لإيمانكم بالأوّل وإيمانكم بالآخر.