إذ جبهت معترفة بأنّه لا ينال بحور الاعتساف كنه معرفته (١) ولا تخطر ببال أولى الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته (٢) الّذى ابتدع الخلق على غير مثال امتثله (٣) ولا مقدار احتذى عليه ، من خالق معهود كان قبله ، وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك (٤) قوّته ، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته ، وظهرت فى البدائع الّتى أحدثها آثار صنعته وأعلام حكمته ، فصار كلّ ما خلق حجّة له ودليلا عليه ، وإن كان خلقا صامتا فحجّته بالتّدبير ناطقة ، ودلالته على المبدع قائمة. وأشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك ، وتلاحم
__________________
(١) الجور : العدول عن الطريق ، والاعتساف : سلوك غير جادة. وسلوك العقول فى أى طريق طلبا لاكتناه ذاته ، وللوقوف على ما لم يكلف الوقوف عليه من كيفية صفاته ، يعد جورا أو عدولا عن الجادة ، فان العقول الحادثة ليس فى طبيعتها ما يؤهلها للاحاطة بالحقائق الأزلية ، اللهم إلا ما دلت عليه الآثار ، وذلك هو الوصف الذى جاء فى الكتاب والسنة ، و «كنه معرفته» نائب فاعل «ينال»
(٢) الرويات : جمع روية ، وهى الفكر
(٣) ابتدع الخلق : أوجده من العدم المحض على غير مثال سابق «امتثله» أى : حاذاه و «لا مقدار سابق احتذى عليه» أى : قاس وطبق عليه ، وكان ذلك المثال أو المقدار من خالق معروف سبقه بالخلقة ، أى : لم يقتد بخالق آخر فى شىء من الخلقة ، إذ لا خالق سواه
(٤) المساك ـ كسحاب ، ويكسر ـ ما به يمسك الشىء كالملاك ما به يملك «إِنَّ اَللّٰهَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ» وقد جعل الحاجة الظاهرة من المخلوقات