برطب من نخلة ، فقلت له : يا أمير المؤمنين أطيّب هذا الرطب؟ فعرّفه (عليه السّلام) بأنّ الدّعيَّ عبيد الله سيحمله على البراءة منه ؛ وإلا فيقطع يدَيه ورجلَيه ولسانه ويصلبه على جذع من هذه النخلة. فقال رشيد : آخر ذلك إلى الجنة؟ قال (ع) : «أنت معي في الدنيا والآخرة» ، قال : إذاً والله لا أتبرّأ منك.
فكان رشيد يختلف إلى تلك النّخلة في النّهار ويسقيها الماء ، ويقول : لك غذيت ولي نبت! وما دارت الأيّام حتّى تولّى ابن زياد الكوفة ؛ فدعاه وسأله عمّا أخبره به أمير المؤمنين ، قال : أخبرني خليلي أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أبرأ أبداً ؛ فتقطع يدي ورجلي ولساني. قال ابن زياد : لأكذبنّ قوله. ثم أمر به فقطعوا يدَيه ورجلَيه وتركوا لسانه ، وحُمل إلى أهله ؛ فاجتمع عليه الناس وهو يحدّثهم بما أطلعه أمير المؤمنين من علم المنايا والبلايا وفضل أهل البيت ، ثمّ قال : أيّها الناس ، سلوني إنّ للقوم عندي طِلبة لمْ يقضوها. فأسرع رجل إلى ابن زياد وقال : ما صنعت! قطعت يدَيه ورجلَيه وهو يحدّث الناس بالعظائم! فأمر به بأن يقطع لسانه ؛ فمات من ليلته ، ثم صُلب (١) على باب دار عمرو بن حُريث (٢).
تقول ابنته قنواء : سألت أبي عمّا يجده من الآلام ، فقال : يا بنيّة ، لا أجد إلا كالزحام بين النّاس (٣). واستفاد رشيد الهجري من صحبة أمير المؤمنين (ع) علم المنايا والبلايا (٤) ، وكان يخبر الرجل بما يجري عليه ؛ فسمّاه أمير المؤمنين (ع) راشداً (٥).
وهذا الحال يفيد المتأمّل بصيرة ؛ بأنّ كلّ من اتجهت مشاعره نحو المولى سبحانه وتعالى ، وتجلّت له المظاهر الربوبيّة ، وشاهد ما أعدَّ له من النّعيم الخالد في سبيل دعوة الدِّين ؛ هان عليه ألم الجراح. ويؤكّد ما قلنا من ذهول العاشق عندما يشاهد محبوبه عن كلّ ما يرد عليه من الأذى ؛ غفلة النّسوة عن ألم قطع المدية أيديهنّ ؛
__________________
(١) رجال الكشي ص ٥١.
(٢) ميزان الاعتدال ٢ ص ٣٣٩ ، لسان الميزان ٢ ص ٤٦١.
(٣) رجال الكشي ص ٥١ ، بشارة المصطفى ص ١١٣ ، أمالي الطوسي ص ١٠٣ مجلس ٦ ، وقد سُمّيت في هذين الأخيرين (أمة الله).
(٤) بصائر الدرجات ٦ ص ٧٣ باب إن الأئمة يعرفون حال شيعتهم ، وعنه في بحار الانوار ١١ ص ٢٤٦ في أحوال الامام موسى بن جعفر ـ ط كمباني.
(٥) أمالي الطوسي ص ١٠٤ المجلس السادس ـ الطبعة الحجرية الاُولى.