إذا عرفت ذلك علمت أن علومنا وأحكامنا كائنة ما كانت معتمدة على فعله تعالى فإن الخارج الذي نماسه فننتزع ونأخذ منه أو نبني عليه علومنا هو عالم الصنع والإيجاد وهو فعله. وعلى هذا فيعود معنى قولنا مثلا : « الواحد نصف الاثنين بالضرورة » إلى أن الله سبحانه يفعل دائما الواحد والاثنين على هذه النسبة الضرورية ، وعلى هذا القياس ، ومعنى قولنا : « زيد رئيس يجب احترامه » أن الله سبحانه أوجد الإنسان إيجادا بعثه إلى هذه الدعوى والمزعمة ثم إلى العمل على طبقه ، وعلى هذا القياس كل ذلك على ما يليق بساحة قدسه عز شأنه.
وإذا علمت هذا دريت أن جميع ما بأيدينا من الأحكام العقلية سواء في ذلك العقل النظري الحاكم بالضرورة والإمكان ، والعقل العملي الحاكم بالحسن والقبح المعتمد على المصالح والمفاسد مأخوذة من مقام فعله تعالى معتمدة عليه.
فمن عظيم الجرم أن نحكم العقل عليه تعالى فنقيد إطلاق ذاته غير المتناهية فنحده بأحكامه المأخوذة من مقام التحديد والتقييد ، أو أن نقنن له فنحكم عليه بوجوب فعل كذا وحرمة فعل كذا وأنه يحسن منه كذا ويقبح منه كذا على ما يراه قوم فإن في تحكيم العقل النظري عليه تعالى حكما بمحدوديته والحد مساوق للمعلولية فإن الحد غير المحدود والشيء لا يحد نفسه بالضرورة ، وفي تحكيم العقل العملي عليه جعله ناقصا مستقبلا تحكم عليه القوانين والسنن الاعتبارية التي هي في الحقيقة دعاو وهمية كما عرفت في الإنسان فافهم ذلك.
ومن عظيم الجرم أيضا أن نعزل العقل عن تشخيص أفعاله تعالى في مرحلتي التكوين والتشريع أعني أحكام العقل النظرية والعملية.
أما في مرحلة النظر فكأن نستخرج القوانين الكلية النظرية من مشاهدة أفعاله ، ونسلك بها إلى إثبات وجوده حتى إذا فرغنا من ذلك رجعنا فأبطلنا أحكام العقل الضرورية معتلا بأن العقل أهون من أن يحيط بساحته أو ينال كنه ذاته ودرجات صفاته ، وأنه فاعل لا بذاته بل بإرادة فعلية ، والفعل والترك بالنسبة إليه على السوية وأنه لا غرض له في فعله ولا غاية ، وأن الخير والشر يستندان إليه جميعا ، ولو أبطلنا الأحكام العقلية في تشخيص خصوصيات أفعاله وسننه في خلقه فقد أبطلناها في الكشف