إذا عرفت ذلك ، ففائدة الخلاف تظهر في التعارض ؛ لأنّا إذا قلنا : إنّ الاستثناء قبل الحكم ، فلا يقع بين المستثنى منه والاستثناء تعارض ؛ لأنّ الثاني يدلّ على إخراج المستثنى من المستثنى منه ، والأوّل لا يدلّ على إدخاله فيه.
وإن قلنا : إنّه بعده ، يقع بينهما التعارض ؛ لأنّ الأوّل حينئذ يدلّ على إدخاله فيه ، فإذا عارض الاستثناء أو المستثنى منه دليل آخر قدّمناهما ؛ لأنّ كثرة الأدلّة من المرجّحات.
فصل [٣٤]
اشتراط الاتّصال العادي في الاستثناء ممّا لا ينبغي الريب فيه ، وإلاّ لم يستقرّ شيء من الإيقاعات والأقارير ، ولم يتحقّق الحنث في الأيمان والنذور ، ولم يعلم صدق ولا كذب ؛ لجواز أن يرد عليها استثناء بعد مدّة فيغيّر حكمها.
وما روي عن ابن عبّاس ـ أنّه يصحّ الاستثناء وإن طال الزمان شهرا (١) ـ لم يثبت عندنا ، ولو ثبت وكان قوله حجّة يحمل على أنّه أراد إظهار ما نوى أوّلا في الأيمان.
وما روي من قضيّة سؤال اليهود عن مدّة لبث أصحاب الكهف (٢) لو سلّم فيها ثبوت الجزء الذي احتجّ به الخصم ، فلا دلالة له على مطلوبه.
وما روي أنّه عليهالسلام قال : « والله لأغزونّ قريشا » ، ثمّ سكت ، ثمّ قال : « إن شاء الله » (٣) لو ثبت ، فيحمل على السكوت الذي لا يخرج عن الاتّصال عادة من تنفّس أو سعال ، جمعا بين الأدلّة.
ويعلم ممّا ذكر فساد ما قيل : إنّه لا يشترط الاتّصال لفظا ، بل يجوز الاتّصال بالنيّة مطلقا (٤) ، وإن لم يتلفّظ به أصلا ، وما قيل : إنّه يجوز الانفصال في القرآن خاصّة (٥) ؛ لما روي أنّه نزل قوله تعالى : ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) بعد قوله تعالى : ( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ... )(٦) ، بزمان (٧).
__________________
( ١ ـ ٢ ـ ٣ ). فتح الباري ١١ : ٦٠٣.
(٤) نسبه ابن حجر إلى مالك في المصدر : ٦٠٢.
(٥) نسبه الآمدي إلى بعض الفقهاء في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٣١٠.
(٦) النساء (٤) : ٩٥.
(٧) مجمع البيان ٣ : ١٦٦.