على الاول مزدجر ، ولا اللبيب فيها بالتجارب منتفع.
أبت القلوب لها إلا حبا ، والنفوس إلا صبا (١) والناس لها طالبان طالب ظفر بها فاغتر فيها ، ونسي التزود منها للظعن ، فقل فيها لبثه حتى خلت منها يده وزلت عنها قدمه ، وجائته اسر ما كان بها منيته ، فعظمت ندامته ، وكثرت حسرته وجلت مصيبته ، فاجتمعت عليه سكرات الموت ، فغير موصوف ما نزل به.
وآخر اختلج عنها قبل أن يظفر بحاجته ، ففارقها بغرته وأسفه ، ولم يدرك ما طلب منها ، ولم يظفر بما رجا فيها ، فارتحلا جميعا من الدنيا بغير زاد ، وقدما على غير مهاد.
فاحذروا الدنيا الحذر كله ، وضعوا عنكم ثقل همومها لما تيقنتم لو شك زوالها وكونوا أسر ما تكونون فيها أحذر ما تكونون لها ، فان طالبها كلما اطمأن منها إلى سرور اشخصه عنها مكروه ، وكلما اغتبط منها باقبال نغصه عنها إدبار ، وكلما ثبتت عليه منها رجلا طوت عنه كشحا ، فالسار فيها غار ، والنافع فيها ضار ، وصل رخاؤها بالبلاء ، وجعل بقاؤها إلى الفناء ، فرحها مشوب بالحزن ، وآخر همومها إلى الوهن.
فانظر إليها بعين الزاهد المفارق ، ولا تنظر بعين الصاحب الوامق.
اعلم يا هذا أنها تشخص الوادع الساكن ، وتفجع المغتبط الآمن ، لا يرجع منها ما تولى فأدبر ، ولا يدري ما هو آت فيحذر ، أمانيها كاذبة ، وآمالها باطلة صفوها كدر ، وابن آدم فيهاعلى خطر ، إما نعمة زائلة ، وإما بلية نازلة ، وإما معظمة جائحة (٢) وإما منية قاضية ، فلقد كدرت عليه العيشة إن عقل ، وأخبرته عن نفسها إن وعى.
ولو كان خالقها عزوجل لم يخبر عنها خبرا ، ولم يضرب لها مثلا ، ولم يأمر بالزهد فيها ، والرغبة عنها ، لكانت وقايعها وفجايعها قد أنبهت النائم ، ووعظت الظالم ، وبصرت العالم ، وكيف وقد جاء عنهامن الله تعالى زاجر ، وأتت منه
____________________
(١) الصب : الشوق في رقة وحرارة كالصبابة.
(٢) المعظمة : النازلة الشديدة ، والجائحة : المهلكة.