.................................................................................................
______________________________________________________
أخس من لا شيء ، وأي قلة أقل من العدم المحض ، ثم صار بالله شيئا وإنما خلقه من التراب الذليل ، والنطفة القذرة بعد العدم المحض ، ليعرف خسة ذاته فيعرف به نفسه ، وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ، ويعلم بها عظمته وجلاله ، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به ، ولذلك امتن عليه فقال تعالى : « أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (١) وعرف خسته أولا فقال : « أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً » (٢) ثم ذكر مننه فقال : « فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده ابتداء بالاختراع ، فمن كان هذا بدؤه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء ، وهو على التحقيق أخس الأخساء وأضعف الضعفاء ، نعم لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطفئ وينسى المبدأ والمنتهى ، ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة والأسقام العظيمة ، والآفات المختلفة ، والطبائع المتضادة من المرة والبلغم ، والريح والدم ، ليهدم البعض من أجزائه البعض ، شاء أم أبي ، رضي أم سخط ، فيجوع كرها ويعطش كرها ويمرض كرها ويموت كرها ، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا يريد أن يعلم الشيء فيجهله ، ويريد أن يذكر الشيء فينساه ، ويريد أن ينسى الشيء فيغفل عنه فلا يغفل ، ويريد أن ينصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوسواس والأفكار بالاضطرار ، فلا يملك قلبه قلبه ولا نفسه نفسه ، يشتهي الشيء وربما يكون هلاكه فيه ، ويكره الشيء وتكون حياته فيه ، يستلذ الأطعمة فتهلكه وترديه ، ويستبشع الأدوية وهي تنفعه وتحييه ، لا يأمن في لحظة من ليله ونهاره أن يسلب سمعه وبصره وعلمه وقدرته ، وتفلج أعضاؤه ، ويختلس عقله ، ويختطف روحه ، ويسلب
__________________
(١) سورة البلد : ٨ ـ ٩.
(٢) سورة القيامة : ٣٨.