ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

شأنهم يوم القيامة (١) ، ولا محالة أنّ من كان فيه مثل هذا ليس بفاسد العقيدة ، هذا ، مع أنّ في أخبار الأئمّة عليهم‌السلام أيضاً ما يدلّ على كون تلك النسبة إليهم تهمة ، كما سيظهر .

ثمّ إنّه لا شكّ ثالثاً : في أنّ أكثر أعيان علماء الرجال وأرباب السير نصّوا فيهم أيضاً بكمال حسن الحال وبرئهم عن مثل هذا المقال ، بل ذكروا ما يدلّ على أنّ أصل ما نُسب إليهم فرية من كلام الحُسّاد عليهم ، لا سيّما المخالفين لهم في الدين .

قال الصدوق ابن بابويه في مفتتح كتابه في التوحيد : إنّ الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا أنّي وجدت قوماً من المخالفين لنا ينسبون عصابتنا إلى القول بالتشبيه والجبر تهمة (٢) ، إلى آخر كلامه .

ويؤيّده ما ذكره بعض أئمّة الزيديّة في كتابه المسمّى بـ : «البحر الزاخر» وهو من الجاروديّة ، حيث قال ـ بعد أن استدلّ على مذهبه بحديث التمسّك بالثقلين ، ثمّ اعترض بأنّ دلالته على مذهب الإماميّة أظهر ـ : إنّ الإماميّة حيث قالوا بالجبر والتشبيه خرجوا عن الحقّ .

بل قد ذكر مثله من المخالفين (٣) ، وكفى ما ذكره الشهرستاني ، حيث قال : إنّ الإماميّة صارت بعضها معتزلة إمّا وعيديّة ، وإمّا تفضيليّة ، وبعضها إخباريّة إمّا مشبّهة ، وإمّا سلفيّة ، ثمّ قال : ومن ضلّ الطريق وتاه لم يبال اللّه‏

__________________

(١) انظر رجال الكشّي : ٧٠ / ٢٠ ، و٢٧٣ / ٣٥٧ و . . .

(٢) التوحيد للصدوق : ١٧ .

(٣) لم نعثر عليه .

٤٠١

في أيّ واد (أهلكه) (١) ، ثمّ شرع في نقل تفصيل ما نسب إلى الجماعة المذكورين ، ـ كما (ذكرنا ـ بل زاد) (٢) أيضاً بعض الزيادات فيهم ممّا لم يذكره غيره من سائر مخالفيهم (٣) .

وروى الكشّي وغيره عن الحسن بن خالد البرقي أنّه قال للرضا عليه‌السلام : إنّ الناس ينسبونا إلى القول بالتشبيه والجبر ؛ لما رُوي من الأخبار في ذلك . فقال عليه‌السلام بعد كلام له : « من قال بالجبر والتشبيه فهو كافر مشرك ، ونحن منه برآء . . . وإنّما وضع الأخبار عنّا في ذلك الغُلاة الذين صغّروا عظمة اللّه‏ تعالى » (٤) ، الخبر .

وكذا غيره من الأخبار الصريحة في أنّ أمثال هذه النسبة إلى العلماء الأجلّة سيّما خصوص هؤلاء من الحسد والعداوة الدينيّة أو الدنيويّة ، كما صرّح به الرضا عليه‌السلام ، حيث سأله بعض أصحابه عن هشام بن الحكم ، فقال : « رحمه اللّه‏ ، كان عبداً ناصحاً أُوذي من قِبَل أصحابه ، حسداً منهم له » (٥) .

وكذلك حين قال له عليه‌السلام جعفر بن عيسى بن يقطين (٦) : يا سيّدي ،

__________________

(١) في «م» : «إهلاكه» ، وفي المصدر : «هلك» ، انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦٥ .

(٢) بدل ما بين القوسين في «م» : «ذكرناه سابقاً» ، وفي «ن» : «أراد» بدل «زاد» .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦٥ .

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤٢ / ٤٥ ، التوحيد : ٣٦٣ / ١٢ ، الاحتجاج ٢ : ٣٩٩ / ٣٠٦ ، روضة الواعظين ١ : ٣٥ وفيها عن الحسين بن خالد ، ولم نعثر عليه في اختيار معرفة الرجال للكشّي .

(٥) رجال الكشّي : ٣٤٠ / ٤٨٦ .

(٦) هو جعفر بن عيسى بن عبيد بن يقطين ، من أصحاب الرضا عليه‌السلام ، كان من أجلاّء الأصحاب ، وممدوحاً.

انظر : رجال الكشّي : ٥٤٨ / ٩٥٦ ، تنقيح المقال ١ : ٢٢٠ / ١٨٢٤ .

٤٠٢

نشكو إلى اللّه‏ وإليك ممّا نحن فيه من أصحابنا ، فقال : « وما أنتم فيه منهم ؟» فقال جعفر : هم واللّه‏ ، يا سيّدي يزندقونا ويكفّرونا ويبرّؤن منّا ، فقال عليه‌السلام : « هكذا كان أصحاب آبائي ، ولقد كان أصحاب زرارة يكفّرون غيرهم ، وكذلك غيرهم كانوا يكفّرونهم » ، ثمّ قال عليه‌السلام : «أرأيتك لو كنت زنديقاً فقيل لك : هو مؤمن ما كان ينفعك ذلك ، ولو كنت مؤمناً فقيل : إنّه زنديق ما كان يضرّك » (١) .

وكذلك حين بكى يونس بن عبد الرحمن عنده لمّا سمع بوقيعة بعض الناس فيه بمجلسه وسكوته عنهم ، فقال : جعلني اللّه‏ فداك ، إنّي اُحامي عن أصحابي ، وهذا حالي عندهم ، قال له الإمام عليه‌السلام : « يا يونس ، ما عليك ممّا يقولون إذا كنت على الصواب وكان إمامك عنك راضياً ! يا يونس ، حدّث الناس بما يعرفون » (٢) ، وفي رواية اُخرى أنّه قال له : « دارهم يا يونس فإنّ عقولهم لا تبلغ » (٣) .

وفي رواية عن الكاظم عليه‌السلام أنّه قال له عند شكواه عنده من أصحابه : « يا يونس ، ارفق بهم ، فإنّ كلامك يدقّ عليهم ، وما يضرّك طعنهم عليك

يا يونس ، لا يضرّك إذا كان بيدك لؤلؤة فقيل : هي حصاة » (٤) .

وكما صرّح الصادق عليه‌السلام أيضاً ، حيث روى بعض أصحابه أنّه عليه‌السلام قال له : « ما تقول في مفضّل ؟» قلت : وما عسيت أن أقول فيه بعد

__________________

(١) رجال الكشّي : ٥٤٨ / ٩٥٦ .

(٢) رجال الكشّي : ٥٤٠ / ٩٢٤ ، بتفاوت .

(٣) رجال الكشّي : ٥٤٢ / ٩٢٩ .

(٤) رجال الكشّي : ٥٤١ / ٩٢٨ ، بتفاوت .

٤٠٣

ما سمعت منك ، فقال : « رحمه اللّه‏ ، ولكن عامر بن جذاعة (١) وحجر بن زائدة (٢) أتياني فعاباه عندي فسألتهما الكفّ عنه فلم يفعلا ، ثمّ سألتهما الكفّ عنه وأخبرتهما بسروري بذلك فلم يفعلا ، فلا غفر اللّه‏ لهما » (٣) .

وكذلك روى جميل بن درّاج (٤) قال : دخلت على أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام ، فاستقبلني رجل خارج من عنده من أصحابنا الكوفيّين ، فلمّا دخلت عليه قال [لي (٥) ] : « لقيت الرجل الخارج من عندي ؟ » قلت : بلى ، هو رجل من أصحابنا ، فقال : « لا قدّس اللّه‏ روحه و لا قدّس مثله ، إنّه ذكر أقواماً كان أبي ائتمنهم على حلال اللّه‏ وحرامه ، وكانوا عيبة علمه ، وكذلك اليوم هم عندي» ، وذكر لهم مناقب عظيمة ، ثمّ بكى ، فقلت ، مَنْ هم ؟ فقال : «مَنْ

__________________

(١) هو عامر بن جُذاعة ، عدّه الشيخ في رجاله في من لم يرو عن الأئمّة عليهم‌السلام ، وله كتاب .

انظر : رجال الطوسي : ٤٣٥ / ٦٢٢٧ ، والفهرست للطوسي : ١٩٥ / ٥٥٦ ، وتنقيح المقال ٢ : ١١٤ / ٦٠٣٥.

(٢) هو حجر بن زائدة الحضرمي الكوفي ، ثقة ، صالح ، صحيح المذهب ، من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، عدّه الإمام الكاظم عليه‌السلام من حواري الباقر والصادق عليهما‌السلام .

انظر : رجال النجاشي : ١٤٨ / ٣٨٤ ، تنقيح المقال ١ : ٢٥٥ / ٢٣٤٧ .

(٣) رجال الكشّي : ٣٨٨ / ٥٨٣ ، تنقيح المقال ١ : ٢٥٦ ، ضمن ترجمة حجر بن زائدة ، رقم ٢٣٤٧ .

(٤) جميل بن درّاج بن عبداللّه‏ النخعي ، يكنّى أبا الصبيح من فقهاء أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، ومن أصحاب الإجماع ، ثقة جليل القدر وعظيم المنزلة بالاتّفاق ، وجه الطائفة . قيل له : ما أحسن محضرك وأزين مجلسك ؟! فقال : إي واللّه‏ ، ما كنّا حول زرارة بن أعين إلاّ بمنزلة الصبيان في الكتاب حول المعلّم ، وعمى في آخر عمره ، توفّي في أيّام الرضا عليه‌السلام .

انظر : رجال النجاشي : ١٢٦ / ٣٢٨ ، تنقيح المقال ١ : ٢٣١ / ١٩٣٣ ، الكنى والألقاب ١ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ .

(٥) أضفناها من المصدر .

٤٠٤

عليهم صلوات اللّه‏ ورحمته أحياءً وأمواتاً : بُريد العجلي (١) ، وزرارة ، وأبو بصير ، ومحمّد بن مسلم ، أما إنّه يا جميل ، سيستبين لك أمر هذا الرجل عن قريب » ، قال جميل : فو اللّه‏ ، ما كان إلاّ قليلاً حتّى رأيت ذلك الرجل ينسب إلى أصحاب أبي الخطّاب ، فقلت : اللّه‏ يعلم حيث يجعل رسالته ، قال جميل : وكنّا نعرف أصحاب أبي الخطّاب ببغض هؤلاء (٢) .

وقال الحسين بن زرارة (٣) : قلت لأبي عبداللّه‏ عليه‌السلام : إنّ أبي يقرأ عليك السلام ويقول لك : جعلت فداك إنّه لا يزال الرجل والرجلان يقومان فيذكران أنّك ذكرتني وقلت فيّ ، فقال لي : « إقرأ أباك السلام ، وقل له : أنا واللّه‏ ، اُحبّ لك الخير في الدنيا والآخرة ، وأنا واللّه‏ ، عنك راضٍ ، فما تبالي ما قال الناس بعد هذا » (٤) .

وفي رواية اُخرى عن عبداللّه‏ بن زرارة (٥) أنّ الصادق عليه‌السلام قال له

__________________

(١) بُريد بن معاوية العجلي ، يكنّى أبا القاسم ، من ثقات أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، فقيه ، له محلّ عند الأئمّة عليهم‌السلام ، ويكفي في جلالته ما ورد عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام أنّه قال : « أربعة أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً : بريد العجلي ، وزرارة ابن أعين ، ومحمّد بن مسلم ، والأحول» ، توفّي في حياة أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام ، أو سنة ١٥٠ هـ .

انظر : رجال الكشّي : ٢١٨ / ٢١٥ ، و٤٣٨ ، تنقيح المقال ١ : ١٦٤ / ١٢٥٩ ، رجال النجاشي : ١١٢ / ٢٨٧ .

(٢) رجال الكشّي : ٢١٩ / ٢٢٠ .

(٣) في النسخ : حسين بن زرارة ، وهو الحسين بن زرارة بن أعين ، من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، دعا الإمام له ولأخيه ، وروى عنه صفوان بن يحيى ، والبرقي ، وابن بكير وغيرهم .

انظر : تنقيح المقال ١ : ٣٢٨ / ٢٩١٥ .

(٤) رجال الكشّي : ٢٢٢ / ٢٢٢ .

(٥) عبداللّه‏ بن زرارة بن أعين الشيباني ، من أصحاب أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام ، ثقة بالاتّفاق ،

٤٠٥

ما خلاصته : « إقرأ منّي على أبيك السلام وقل له : إنّي إنّما أعيبك دفاعاً عنك ؛ لأنّ الناس يريدون الأذى على من يحبّنا ونحبّه ويكون مقرّباً عندنا ، وأنّك رجل اشتهرت بنا ، ولميلك إلينا أنت مذموم عند الناس غير محمود الأثر ، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين ، فيكون عيبي لك دافع شرّهم عنك ، وقد قال اللّه‏ تعالى : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ) (١) الآية ، فواللّه‏ ، ما أعابها إلاّ لكي تسلم من الملك، وإنّك واللّه‏، أحبّ الناس إليّ وأحبّ أصحاب أبي حيّاً وميّتاً، وإنّك من أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر ، وأنّ من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كلّ سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليغصبها وأهلها » (٢) .

وفي رواية اُخرى عن حمزة بن حمران (٣) ، قال : قلت لأبي عبداللّه‏ عليه‌السلام : بلغني عنك أنّك برئت من عمّي زرارة ولعنته ؟ ، فقال : «لا واللّه‏ ، ما قلت ، ولم أبرأ من زرارة ، ولكنّهم يجيؤون ويذكرون ويروون عنه (٤)

__________________

وهو ممّن لقي أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وله كتاب يرويه عنه عليّ بن النعمان وغيره .

انظر : رجال النجاشي : ٢٢٣ / ٥٨٣ ، تنقيح المقال ٢ : ١٨٣ / ٦٨٥٨ ، رسالة أبي غالب الزراري (ضمن تاريخ آل زرارة) : ٨ .

(١) سورة الكهف ١٨ : ٧٩ .

(٢) رجال الكشّي : ٢٢٠ / ٢٢١ .

(٣) هو حمزة بن حمران بن أعين الشيباني الكوفي ، من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، وروى عنه الأجلّة منهم : صفوان بن يحيى ، وابن مسكان ، وابن بكير وغيرهم ، له كتاب يرويه عدّة من أصحابنا .

انظر : رجال النجاشي : ١٤٠ / ٣٦٥ ، تنقيح المقال ١ : ٣٧٤ / ٣٣٦٠ .

(٤) في « م » و« س » زيادة : «ويأتون عنه» .

٤٠٦

بأشياء ، فلو سكت ألزمونيه فأقول : من قال هذا فأنا إلى اللّه‏ منه بريء » (٥) .

وأمثال هذه الأخبار ، وما نُقل أيضاً عن العلماء الأخيار كثيرة ، وأكثرها ـ كما هو ظاهر ـ صريحة في أنّ عمدة مناط نسبة السوء إلى أكثر العلماء الحسد والافتراء حتّى من أهل مذهبهم .

وفي بعضها ـ كما مرّ (٦) من قول الرضا عليه‌السلام ليونس وغيره ـ دلالة على أنّ مناط ذلك قد يكون ما أشرنا إليه سابقاً من عدم فهم كلام ذلك العالم كما يُرى (٧) كثيراً أنّه قد يجيء رجل فيسأل عالماً عن شيء ، فيتوهّم في فهم جوابه فيروح ويحكي عنه مثل ما فهمه توهّماً إلى أن يصل ذلك إلى سائر العلماء ، فيجعلوا ذلك مناط الطعن عليه من غير تحقيق الحال ، لا سيّما من كان في قلبه بعض شيء على ذلك العالم ؛ ولهذا قال الإمام عليه‌السلام ليونس : « حدّث الناس بما يعرفون » (٨) ، وفي الأخبار : « نحن نكلّم الناس على قدر عقولهم » (١) .

مثلاً فيما نحن فيه يمكن أنّ جماعة من هؤلاء ـ بناءً على ما هو الحقّ الذي بيّنّاه من عينيّة صفات الذات ـ نطقوا في بيان العينيّة بكلام توهّم منه غيرهم التشبيه ، كقولهم مثلاً : إنّه شيء بحقيقة الشيئيّة ، موجود عينيّ ثابت ؛ إذ لا يخفى أنّ أمثال الذين ذكرنا أنّهم أفرطوا في نفي التشبيه ، بحيث

__________________

(١) رجال الكشّي : ٢٢٦ / ٢٣٢ ، بتفاوت .

(٢) انظر : ص ٤٠٣ .

(٣) في « م » زيادة : ذلك .

(٤) تقدم تخريجه في ص ٤٠٣ هامش ٢ .

(٥) انظر : الكافي ١ : ١٨ / ١٥ (كتاب العقل والجهل) ، الأمالي للصدوق : ٥٠٤ / ٦٩٣ ، الأمالي للطوسي : ٤٨١ / ١٠٥٠ .

٤٠٧

وصلوا إلى حدّ التعطيل ، لا يفهمون من مثل هذا الكلام غير التشبيه ، مع أنّه ليس من التشبيه في شيء ، كما مرّ بيانه ، وأمثلة هذا كثيرة ، ومثل هذا التوهّم شائع جدّاً ، بل أكثر مواقع طعن الصلحاء المتورّعين من هذا الباب .

ثمّ قد بيّنّا (١) سابقاً أيضاً أنّه قد يكون المناط في نسبة السوء إلى شخص كونه قائلاً به ، أو متّصفاً به وقتاً ما وإن كان قد رجع عنه أخيراً .

وممّا يدلّ على قرب هذا الاحتمال هاهنا ما يدلّ على أنّ أكثر هؤلاء الجماعة كانوا أوّلاً من غير الإماميّة ، ثمّ حصل لهم الاستبصار ببركة التشرّف بخدمة الأئمّة عليهم‌السلام .

فمن ذلك ما رواه الكشّي عن عمر بن يزيد (٣) وكان ابن أخي هشام ابن الحكم ، وخلاصته أنّه قال : كان هشام يذهب في الدين مذهب الجهميّة خبيثاً فيهم ، فسألني أن اُدخله على أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام ليناظره ، فاستأذنت أبا عبداللّه‏ عليه‌السلام فيه ، فأذن لي حتّى نقلت له رداءته وخبثه ، فقال عليه‌السلام : « تتخوّف عليَّ » ، فأعلمت هشاماً بالإذن ، فبادر واستأذن ودخل ودخلت معه ، فسأله الإمام عليه‌السلام عن مسألة فحار هشام ، فاستمهله في الجواب فأمهله ، وبقي هشام أيّاماً في طلب الجواب فلم يقف عليه ، فرجع إلى الإمام عليه‌السلام واعترف بالعجز عنده ، فأخبره الإمام عليه‌السلام ، وسأله عن مسألة اُخرى ، فيها فساد أصله وعقيدته ، فاغتمّ هشام لذلك وبقي متحيّراً في الجواب أيّاماً ، ثمّ انصرف إلى الإمام عليه‌السلام وترك مذهبه ودان بدين الحقّ ،

__________________

(١) انظر ص ٣٩٦ وما بعدها .

(٢) لعلّه عمر بن يزيد بن ذبيان الصّيقل ، يكنّى أبا موسى ، من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، ثقة ، له كتاب ، أخبر بذلك عدّة من الأجلّة .

انظر : رجال النجاشي : ٢٨٦ / ٧٦٣ ، تنقيح المقال ٢ : ٣٤٩ / ٩٠٦٢ .

٤٠٨

وفاق أصحاب أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام كلّهم (١) .

فعلى هذا يمكن أن يكون ما نُسب إليه قوله في ذلك الوقت ، ثمّ تركه بعد استبصاره ، وبعض الناس حسداً أو جهلاً أو تجاهلاً نسبوا ذلك إليه على وجه الإطلاق ، وهلمّ جرّاً في غيره ، فتأمّل ولا تغفل عمّا ظهر أيضاً من الأخبار التي ذكرناها أخيراً من أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا قد يقدحون في شخصٍ أيضاً ، لكن دفاعاً عنه وعنهم ومداراةً ، حتّى أنّه كان قد يكون جمع ينسبون عندهم رجلاً إلى سوءٍ كانوا يعلمون أنّه بريء من ذلك ، ومع هذا لم يُظهروا براءته ، بل كانوا يبرؤون من القائل به من قبيل التورية إذا لم يكن تقتضي المصلحة ردعهم بالتكذيب .

وعلى هذا ، فليس لأحد من المعاندين أو القاصرين أن يتشبّث لإثبات صدق ما نُسب إلى بعض هؤلاء بعدم تكذيب الإمام عليه‌السلام من ذُكر له تلك النسبة .

وإذ قد أحطت خبراً بما ذكرناه وحقّقناه ، تبيّن لك أنّ أكثر ما نسب المخالفون إلى الإماميّة بعضهم أو كلّهم تشنيعاً عليهم ، أم بمحض النقل عنهم من الأقوال والعقائد والأعمال التي لا تخلو من نقص على دينهم أو نقص على طريقتهم ، فمبناه على أحد هذه الوجوه المذكورة ، لا سيّما التوهّم في النسبة والتعمّد في الفرية ، كما ينادي بذلك ما يظهر عند تتبّع كتبهم على كلّ ماهر بمذهب الإماميّة من الجزم بأنّ شدّة حنقهم في العداوة ، وتوهّمهم في النسبة بحيث إنّهم كثيراً ما نسبوا إلى هذه الطائفة ما هو معلوم على أدنى متتبّع أنّه من مذاهب غيرهم ، كالزيديّة مثلاً ، أو الإسماعيليّة ، أو

__________________

(١) رجال الكشّي : ٣٣٠ / ٤٧٦ .

٤٠٩

الغُلاة وأمثالهم ، حتّى أنّ جمعاً منهم نسبوا إليهم ما لا أصل له مطلقاً ، كما هو المشهور إلى اليوم عندهم ، والجاري على ألسنتهم شائعاً ذائعاً بينهم من كون هذه الطائفة من أتباع الحسن الكاشي (٢) ، وأنّه الذي ابتدع لهم هذا المذهب بدعاً ، حتّى أنّ عند بعض منهم بياناً غريباً وحكايةً عجيبةً في هذه الدعوى ، مع أنّه من أجلى البديهيّات : أنّ الحسن لم يكن له كمال غير أنّه كان شاعراً جيّداً في الشعر ، لا سيّما فيما مدح فيه عليّاً عليه‌السلام ، وكذا ما ذمّ به الثاني ، ولم يكن معدوداً عند الإماميّة ولا غيرهم من أهل العلم مطلقاً فضلاً عن التقدّم في المذهب ، حتّى أنّ أحداً منهم ولا من غيرهم لم يتوجّه إلى ذكر اسم هذا الرجل ، لا بالزين ولا بالشين ؛ حيث إنّه لم يكن بوجه ممّن يعبأ بشأنه .

وكذا ما هو المذكور في بعض كتب القوم ، بل المشهور عندهم أيضاً من كون عامّة أخبار هذه الطائفة من موضوعات ابن الراوندي (٢) ، مع أنّ

__________________

(١) هو المولى حسن بن . . . الكاشي ، فاضل ، عالم ، شاعر ، كان معاصراً للعلاّمة الحلّي ، وفي زمن السلطان محمّد خدابنده ، وللكاشي حقّ عظيم على الناس في هدايتهم وإلقاء الدين الحقّ عليهم ودعوتهم إلى التشيّع ، ولذلك كانت العامّة قديماً وحديثاً إلى الآن يعادونه ، بل يقولون : إنّه المبدأ لحدوث مذهب الشيعة في الدولة الصفويّة .

انظر : رياض العلماء ١ : ٣٠٨ .

(٢) أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي ، يكنّى أبا الحسين ، متكلّم مشهور ، ولم يكن في زمانه أحد أحذق منه بالكلام ، واتّهم بالزندقة ، ولعلّ هذا جاء من قِبَل المعتزلة ؛ لتحامله عليهم ، وله من الكتب المصنّفة نحو ١١٤ كتاباً ، منها : فضيحة المعتزلة . مات سنة ٢٤٥ أو ٢٥٠ هـ ، وقيل : سنة ٢٩٨ هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢١٦ ، الكنى والألقاب ١ : ٢٧٧ ، تاريخ الإسلام (حوادث سنة ٢٩١ ـ ٣٠٠) : ٨٤ ـ ٨٧ / ٨١ .

٤١٠

رواة الأخبار من هذه الطائفة لم يعرفوا هذا الرجل ، فإنّه كان من المتكلّمين الذين كانوا يناظرون المخالفين على طريقتهم التي هي عند المحدّثين غير متينة .

لكن كأنّه كان قاهراً على خصومه ، بحيث وجدوا عليه فاتّهموه بما نسبوا إليه ، وإلاّ فهو ليس معدوداً من رواة الحديث ، ولا من شيوخ الإجازة عند أرباب الحديث ، حتّى أنّ الحقّ أنّ هذا الرجل الذي هم ذكروه ـ أعني : من اسمه أحمد بن يحيى الراوندي ـ كان من المعتزلة لا من الشيعة ، بل ليس فيهم من يُنسب إلى هذه النسبة غير السيّد الجليل فضل اللّه‏ بن عليّ بن عبيداللّه‏ الحسني الراوندي (١) الذي هو من الفقهاء الذين كانوا بعد زمان الشيخ الطوسي ، وأين له هذا وقد صُنّف قبل ميلاده ما لا يحصى من كتب الحديث ، كما هو واضح من أنّ أخبارهم مُعنعنة مضبوطة أحسن من ضبط مخالفيهم ، بحيث لا يمكن دخول مدلّس فيهم كما هو من أوضح الواضحات عند كلّ من تصفّح كتبهم ، وتفحّص عن حال الأخبار المذكورة فيها ، بل من هذا يظهر أيضاً أنّ من هذا القبيل عياناً ما هو مدار أكثر المخالفين عليه من القدح في جملة أخبار الإماميّة مصرّحين بكونها موضوعةً عن الأئمّة مع وضوح اقتران أكثرها بقرائن الصحّة ، وتصريح

__________________

(١) فضل اللّه‏ بن عليّ بن عبيد اللّه‏ الحسني الراوندي، يكنّى أبا الرضا، الملقّب بـ : «ضياء الدين» ، علاّمة دهره واُستاذ أئمّة عصره ، جمع مع علوّ النسب كمال الفضل والحسب ، وهو من أساتيد ابن شهر آشوب، له كتب فائقة نافعة ، منها : ضوء الشهاب ، والأربعين في الأحاديث ، وأدعية السرّ وغيرها . مات سنة نحو ٥٦٠ هـ .

انظر : رياض العلماء ٤ : ٣٦٤ ، الدرجات الرفيعة : ٥٠٦ ، الكنى والألقاب ٢ : ٣٩٥ ، هدية الأحباب : ١٩٠ ، الأنساب ٤ : ٤٢٦ ، الأعلام ٥ : ١٥٢ .

٤١١

معظم علماء القوم بتوثيق عمدة رُواتها ، لا سيّما عن الأئمة عليهم‌السلام ، كزرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وجابر ، وأبان ، وأمثالهم ، كما سيأتي مفصّلاً في محلّه في المقالة العاشرة من المقصد الثاني .

وأمّا ما هو من هذا القبيل أيضاً من العقائد التي نسبوها إلى الإماميّة ولا أصل لها مطلقاً فكثيرة جدّاً ، كقولهم بأنّ الإماميّة يعتقدون بأنّ المهديّ غائب طول زمان غيبته عليه‌السلام في سرداب سامرّاء ، وأنّهم يعتقدون فيه صفات الاُلوهيّة ، وأنّهم يقذفون عائشة ، ويسبّون جملة الصحابة ، وأمثال ذلك من سائر فريتهم على هذه الطائفة ، وقد مرّ بعض منها سابقاً ، ويأتي كثير منها أيضاً ، كلّ واحدة فيما يناسبها من المقام .

ثمّ إنّ الذي هو خلاصة مذهب هذه الطائفة في الجبر والتفويض ـ الذي مرّ سابقاً أنّ الأوّل هو مذهب الأشاعرة ، والثاني مذهب المعتزلة ـ أن لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، بمعنى أنّ لهداية اللّه‏ تعالى وتوفيقاته مدخلاً تامّاً في أفعال العباد ، لكن بحيث لا يصل إلى حدّ الإلجاء والاضطرار .

( (١) ومجمل بيان ذلك : إنّ اللّه‏ تعالى لمّا خلق العباد وأمرهم بالعبادات والخيرات ، ونهاهم عن الشرور والسيّئات ، وقرّر للمطيع الثواب وللعاصي العقاب وأخبرهم بذلك جعل فيهم استطاعة الفعل والترك ، وهيّأ لهم أسباب ذلك ، بحيث يكون كلّ واحد قادراً على ما يختاره من الفعل والترك ، لئلاّ يبطل استحقاق الثواب والعقاب ، لا كما مرّ أنّه مآل كلام الجبريّة ، لكن لم يعزل أيضاً نفسه عن المدخليّة رأساً ، لا كما هو مآل قول المفوّضة ، بل

__________________

(١) من هنا إلى ص٤١٣ هامش (٣) مشطوب عليه في «س» .

٤١٢

تفضّل عليهم بالتوفيق والهداية ، وسائر أنواع الإعانة على فعل الخير وترك الشرّ ، حتّى أنّه قرّر ملائكةً يحثّونه مع عقله ، بل مع روح الإيمان التي في المؤمن أيضاً إذا أراد خيراً ، ويعظونه وينصحونه عند إرادة الشرّ ، لكن كلّ ذلك بحيث لا يخرج عن حالة الاختيار ، ولا يصل إلى حد الاضطرار ، بل ما بين ذلك من قسم الإعانة (١) ، حتّى أنّه مهما لم يتأثّر فيه شيء ممّا ذُكر فحينئذٍ تُرك هو وهواه ، وهذا هو ما مرّ في (أوّل فصول الباب الثالث من معنى) (٢) الخذلان الذي عبّر عنه في الآيات بالإضلال ، بناءً على أنّه إذا تُرك إذاً توقّعه نفسه وهواه سيّما مع إغواء الشيطان فيما أراده من الضلال ؛ لارتفاع المانع ووجود الداعي ، فلا جبر حينئذٍ ولا التفويض الذي ذهب إليه من عزل اللّه‏ من سلطانه ، كما أنّه ) (٣) مثلاً : إذا أمر سيّد عبده بشيءٍ يقدر على فعله وفهّمه ذلك ، ووعده على فعله شيئاً من الثواب ، وعلى تركه شيئاً من العقاب ، فلو اكتفى من تكليف عبده بذلك ولم يزد عليه مع علمه بأنّه لا يفعل الفعل بمحض ذلك ، لم يكن ملوماً عند العقلاء لو عاقبه على تركه ، ولا يقول عاقل أنّه أجبره على ترك الفعل ، وكذا لو لم يكتف السيّد بذلك ، بل زاد في ألطافه ، والوعد بإكرامه ، والوعيد على تركه ، وأكّد ذلك ببعث من يحثّه على الفعل ويرغّبه فيه ، ولكن لا بحيث أن يجبره ، بل بحيث يتركه اختياراً عند جِدّه على المخالفة ، ثمّ فعل العبد حينئذٍ بقدرته واختياره ذلك الفعل ، فلا يقول عاقل بأنّه جبره على ذلك الفعل ، وكذا إن لم يفعل

__________________

(١) في «م» زيادة : «على فعل الخير» .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في « م » .

(٣) إلى هنا مشطوب عليه في «س» .

٤١٣

مع عدم نسبة عجزٍ إلى السيّد أيضاً .

قال الصادق عليه‌السلام : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين أمرين » ، فقيل وما أمر بين أمرين ؟ قال عليه‌السلام : « مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية » (١) .

وفي رواية اُخرى قال : « معنى الأمر بين أمرين : وجود السبيل إلى إتيان ما اُمروا به ، وترك ما نهوا عنه » (٢) .

وفي اُخرى كما مرّ في الخبر العاشر من فاتحة هذا الكتاب ، قال عليه‌السلام : « ما نهى اللّه‏ عبداً عن شيء إلاّ وقد علم أنّه يطيق تركه ، ولا أمره بشيء إلاّ وقد علم أنّه يستطيع فعله » (٣) .

وقال الباقر عليه‌السلام : « في التوراة مكتوب يا موسى ، إنّي خلقتك واصطفيتك وقوّيتك ، وأمرتك بطاعتي ونهيتك عن معصيتي ، فإن أطعتني أعنتك على طاعتي ، وإن عصيتني لم أعنك على معصيتي ، ولي المنّة عليك في طاعتك ، ولي الحجّة عليك في معصيتك لي » (٤) .

وسئل الرضا عليه‌السلام عن قوله تعالى : ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ

__________________

(١) الكافي ١ : ١٢٢ / ١٣ (باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين) ، التوحيد : ٣٦٢ / ٨ ، الاعتقادات للصدوق : ٢٩ /٧ ، وتصحيح اعتقادات الإمامية : ٤٦ (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، ج ٥) .

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٤ / ١٧ ، نزهة الناظر : ١٣١ ـ ١٣٢ / ٢٢ ، روضة الواعظين ١ : ٣٨ ـ ٣٩ ، الاحتجاج ٢ : ٣٩٨ / ٣٠٤ .

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٢٣ / ٢٢٣ .

(٤) التوحيد : ٤٠٦ / ٢ ، الاعتقادات : ٣٩ / ٩ (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، ج٥) .

٤١٤

لَّا يُبْصِرُونَ ) (١) ، فقال : « إنّ اللّه‏ تعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف ، وخلّى بينهم وبين اختيارهم » (٢) .

وقال عليه‌السلام : « إن اللّه‏ عزوجل لم يُطع بإكراه ، ولم يُعص بغلبة ، ولم يُهمل العباد سدىً في ملكه ، بل هو المالك لِما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعة لم يكن اللّه‏ لهم عنها صادّاً ولا منها مانعاً ، و إن ائتمروا بمعصية فشاء أن يمنّ عليهم فيحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحلّ وفعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه » (٣) .

وقد روي هذا الخبر عن الحسن المجتبى عليه‌السلام أيضاً ، وفي آخره بدل قوله : «وإن لم يحلّ» : «وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها إجباراً ، ولا ألزمهم بها إكراهاً ، بل احتجاجه سبحانه عليهم أن عرّفهم وبصّرهم وحذّرهم وأمرهم ونهاهم ، لا جبلاًّ لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة ، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه ، بل جعل لهم السبيل إلى فعل ما دعاهم إليه ، وترك ما نهاهم عنه وللّه‏ الحجة البالغة » (٤) .

وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن الاستطاعة ، فقال : « تملكها باللّه‏ الذي يملكها من دونك ، فإن ملّككها كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملّكك ، والمالك لما عليه

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٧ .

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٣ / ١٦ ، الاحتجاج ٢ : ٣٩٦ / ٣٠٣ .

(٣) الاختصاص : ١٩٨ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤٤ / ٤٨ ، التوحيد : ٣٦١ / ٧ .

(٤) تحف العقول : ٢٣١ ، كنز الفوائد ١ : ٣٦٦ ، بتفاوت .

٤١٥

أقدرك ، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوّة حيث يقولون : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏ » فقيل : وما تأويلها يا أمير المؤمنين ؟ قال : «لا حول بنا عن معاصي اللّه‏ إلاّ بعصمة اللّه‏ ، ولا قوّة لنا على طاعة اللّه‏ إلاّ بعون اللّه‏ » (١) .

والأخبار في هذا الباب لا تحصى .

ومنها يظهر أيضاً ما هو اعتقاد الإماميّة في القضاء والقدر ، والإرادة والمشيئة ، وأمثالها من أسباب الفعل كالإذن مثلاً ، فإنّ الذي هو مذهبهم في هذا الباب ـ كما هو صريح ما هو متواتر عندهم من أحاديث الأئمّة الأطياب ـ أنّه لا يكون شيء إلاّ بإرادة اللّه‏ تعالى ومشيئته وقضائه وقدره ، وغير ذلك من سائر أسباب الفعل ، وأنّ كلّ ذلك لا ينافي عدم الجبر ، فإنّ في صريح الأخبار الثابتة عندهم أنّ كلّ واحد من هذه المذكورات على نوعين : حتميٌّ ، وغير حتميٍّ يسمّى عزميّاً ، وهو الذي في الاُمور التكليفيّة ، وممّا لا ينافي اختيار العبد مطلقاً ، ولا يستلزم شيء من معانيه الجبر أصلاً .

وجملة بيان ذلك : أمّا في الإرادة والمشيئة ، فبأن يقال : كما أنّها وردت بنحو ما مرّ سابقاً ، أي : ما بمعنى الإحداث والإيجاد الذي هو من نوع الإرادة الحتميّة ، كذلك قد يراد بها ولو تجوّزاً ما بمعنى تهيئة أسباب أفعال العباد ، وخلق الآلات التي لها مدخل في صدور بعض الأشياء منهم لاقتضاء المصلحة التي في ذلك ، ويسمّى هذا بالعزميّة ، مثلاً : خلق اللّه‏ عزوجل القوّة الشهوانيّة وآلات الجماع ، وهيّأ جميع أسباب ذلك في الإنسان ، لكي يجامع حلاله ويحصل منه الولد والنسل ، فمهما جامع الإنسان أهله فذلك الذي صرفها في محلّها ، ويقال له : جامع بإرادة اللّه‏ ولو بهذا المعنى ،

__________________

(١) تحف العقول : ٤٦٨ بتفاوت ، الاحتجاج ٢ : ٤٩٤ / ٣٢٨ .

٤١٦

وكذا إذا لم يصرفها في محلّها ، كما إذا صرفها إنسان في الزنا ، فذلك أيضاً بإرادة اللّه‏ ومشيئته ، بمعنى أنّه هيّأ له أسباب ذلك ، لكن لا ليصرفها في الزنا ، بل ليصرفها في الحلال ، حتّى أنّه لو جعلها بحيث لم تؤثّر في الحرام لزم كون ذلك الإنسان على ترك الزنا حينئذٍ مضطرّاً مجبوراً غير مستحقٍّ لشيء ، كما أنّ رجلاً إذا أعطى عبده سيفاً من سيوفه وقال له : اُخرج إلى فلان صديقي وفلان عدوّي ، فاقتل ذلك العدوّ ولا تتعرّض لصديقي وإلاّ قتلتك ، فخرج العبد وقتل الصديق ، فحينئذٍ لا شبهة في أنّه لا يقول أحد إنّ المولى جبر العبد على هذا القتل أو له شركة فيه ، بل يحكم كلّ عاقل بأنّ العبد يستحق غاية العقوبة على فعله المذكور ، وأنّه عاصٍ لمولاه باختياره .

قال الرضا عليه‌السلام «قال اللّه‏ تعالى : يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قوّيت على معصيتي ، وجعلتك سميعاً بصيراً قويّاً ، فما أصابك من حسنة فمنّي ، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ، وذلك أنّي لا اُسأل عمّا أفعل وهم يُسألون » (١) الخبر ، فافهم ، وسيأتي بعض ما يدلّ عليه صريحاً فانتظر .

وكذلك قد يراد بها ولو تجوّزاً ما مرّ من الخذلان الذي ذكرنا أنّه هو بمعنى ترك الإنسان ونفسه ، والتخلية بينه وبين ما فيه هواه عند عدم تأثير النصائح التي ذكرناها فيه ، فيقال : إنّ فعل المعصية بإرادة اللّه‏ ، أي : بخذلانه المذكور ، ولعلّه بهذا المعنى ورد ما روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ للّه‏ إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر

__________________

(١) المحاسن ١ : ٣٨١ / ٨٤٠ ، قرب الإسناد : ٣٥٤ / ١٢٦٧ ، الكافي ١ : ١١٧ / ٦ (باب المشيئة والإرادة) و١٢٢ / ١٢ (باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين) ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤٤ / ٤٩ ، التوحيد : ٣٣٨ / ٦ .

٤١٧

ولا يشاء ، أَوَما رأيت أنّ اللّه‏ تعالى نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك ، ولو لم يشأ لم يأكلا ، ولو أكلا لغَلبت مشيئتهما مشيئة اللّه‏ ، وأمر إبراهيم بذبح ابنه وشاء أن لا يذبحه ، ولو لم يشأ أن يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة اللّه‏ تعالى » (١) الخبر .

فإنّ الأظهر أنّ معناه أنّه تعالى لم يصرف آدم وحوّاء عن إرادتهما ولو قسراً ، ووكلهما إلى اختيارهما للمصالح العظيمة ، فكأنّه شاء ذلك .

ويحتمل أيضاً على بُعدٍ كون المراد ما هو بمعنى تهيئة الأسباب ، بل التقدير أيضاً ؛ لأنّه قد يراد بها أيضاً ما بمعنى التقدير والكتابة في الألواح الإلهيّة ومراتب ذلك بنحو ما سيظهر ، فكلّ شيء بإرادة اللّه‏ ومشيئته ، أي : على وفق تقديره وما كتبه في اللوح .

ولا يخفى أنّه من كلّ هذه المعاني لا يلزم الجبر ، كما هو ظاهر فيما سوى الأخير ، وأمّا فيه ، فمعلوم أنّ تقديره ليس علّة للفعل ، بل الحقّ أنّه تعالى لمّا علم بعلمه الكامل الأزليّ أنّ العبد الفلاني ـ مثلاً ـ يفعل كذا وكذا باختياره وقدرته كتب ذلك في اللوح وبيّنه ، وأين (٢) هذا من الجبر ؟ ولهذا قال الصادق عليه‌السلام : « كما أنّ بادئ النعم من اللّه‏ عزوجل وقد نحلكموه ، كذلك الشرّ من أنفسكم وإن جرى به قدره » (٣) .

وأمّا في القضاء والقدر ، فنقول : إنّ القضاء مثل غيره أيضاً قد ورد صريحاً بمعاني عديدة ولو في بعضها يسمّى عزميّاً ويكون بالنسبة إلى الاُمور التكليفيّة .

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٧ / ٤ (باب المشيئة والإرادة) ، بتفاوت عن أبي الحسن عليه‌السلام .

(٢) في «م» : «فأين» .

(٣) التوحيد للصدوق : ٣٦٨ / ٦ .

٤١٨

فمنها : ما هو بمعنى الخلق والفعل ، كقوله تعالى : (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) (١) ، أي : خلقهنّ ، وقوله سبحانه : «فَاقْضِ مَآ أنْتَ قَاضٍ» (٢) ،

أي : إفعل ما أنت فاعل ، وأمثالهما عديدة ، ولا بُعْد في بعض المواضع كون المراد بالخلق ونحوه التقدير ، أو ما يعمّه والتكوين ، كما سيظهر .

ومنها : ما هو بمعنى الأمر ، بل الحكم والإلزام أيضاً ، والحتم والإيجاب ، كقوله تعالى : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) (٣) ، وقوله : (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) (٤) ، وقوله : ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ) (٥) ، ونحوها .

ومنها : ما هو بمعنى الإعلام والبيان ونحو ذلك ، كقوله تعالى : ( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (٦) ونحوه .

وكذلك القدر أيضاً كما يظهر من آيات .

منها : قوله تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) (٧) ، أي : خلقنا .

ومنها : قوله سبحانه في حكاية لوط : ( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ) (٨) ، أي : كتبنا وبيّنا وأخبرنا . وأمثال ذلك من سائر الآيات .

وقال الشاعر :

__________________

(١) سورة فصّلت ٤١ : ١٢ .

(٢) سورة طه ٢٠ : ٧٢ .

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٢٣ .

(٤) سورة غافر ٤٠ : ٢٠ .

(٥) سورة سبأ ٣٤ : ١٤ .

(٦) سورة الإسراء ١٧ : ٤ .

(٧) سورة فصّلت ٤١ : ١٠ .

(٨) سورة الحجر ١٥ : ٦٠ .

٤١٩

وَاعلَمْ بِأَنَّ ذَا الجَلاَل‏قدْقَــدَرْ

في الصُحُـفِ الأُولى التي كان سَطَـرَ (١)

بل قد تواتر في الأخبار أيضاً ، بحيث وصل إلى حدّ الضرورة الدينيّة وجود تقدير من اللّه‏ وكتابة في الألواح بالنسبة إلى كلّ شيء قبل كونه ، فعن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « قدّر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين بخمسين ألف عام » (٢) .

وأكثرها كالصريح في أنّ لذلك مراتب متفاوتة بحسب الكتابة والبيان والثبت والتشخيص ، وأنّ كلّ واحد من المشيئة والإرادة والقضاء والقدر بل الإذن وغيره أيضاً قد يطلق على مرتبة من تلك المراتب وإن لم نعلم تفاصيلها ، حيث لم نكلّف بذلك ، بل نُهينا عنه ، كما قال عليّ عليه‌السلام لمّا سئل عن القدر : « سرّ اللّه‏ فلا تفشوه » ، ثمّ سئل أيضاً ، فقال : « بحر عميق فلا تلجوه » ، ثمّ سئل ثالثاً ، فقال : « ما يفتح اللّه‏ للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له» (٣) ، وسأل جميل الصادقَ عليه‌السلام عن المشيئة ، فقال : « لا اُجيبك فيها » (٤) .

فمن تلك الأخبار ما مرّ ذكره ، ومنها : ما رواه جماعة عن الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ، قالوا : «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبع : بمشيئة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ، فمن زعم غير هذا فقد كذب على اللّه‏ » (٥) .

__________________

(١) قاله العجاج : انظر : ديوانه ١ : ٧٣ ، وفيه : فاعلم .

(٢) التوحيد للصدوق : ٣٦٨ / ٧ .

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٤٠٨ / ١١٨ ، بحار الأنوار ٥ / ١٢٣ وفيه : «تفتشوه» بتفاوت يسير .

(٤) بصائر الدرجات : ٢٦٠ / ١٧ .

(٥) الكافي ١ : ١١٦ / ١ (باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة) ، المحاسن ١ : ٣٧٩ / ٨٣٨ ، بتفاوت فيهما .

٤٢٠