ضياء العالمين - ج ١

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد للّه‏ الذي خلق العباد وأمرهم بعبادته ؛ ليدخلهم الجنّة التي خلقها لهم ، وأوجب عليهم طلب ما كلّفهم به من فنون طاعته ؛ لكي يكونوا من الذين عرّفها لهم ، فأرسل لتعليمهم الرسل والأنبياء ، وأنزل لبيان ذلك الكتب من السماء ، وعيّن للتبيين (١) لهم الأوصياء ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٢) ؛ حيث لا حجّة بعد تبيان الحقّ لهم ، فمنهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي قرن الاعتراف بنبوَّته بالاعتراف باُلوهيّته ، واختصّه من تكريمه بما لم يصل إليه أحد من بريّته ، أعني : سيّدنا ومولانا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أرسله اللّه‏ رحمةً لخليقته ، وإعلاءً لكلمته ، وإعلاناً لحجّته ، وتبياناً للوصلة إلى طاعته ، والوسيلة إلى عبادته ، فأنزل عليه الكتاب فيه تبيان كلّ شيء ؛ لئلاّ يضلّوا كما ضلّ من كان قبلهم .

__________________

(١) في نسخة «ح» و«م» و«ن» : للنبيين وما أثبتناه من نسخة «ش» .

(٢) سورة النساء ٤ : ١٦٥ .

٣

فصلوات اللّه‏ وسلامه عليه وعلى آله الأوصياء في الدين والراسخين في العلم ، خلفاء اُمّته ، وحلفاء حكمته ، وعلماء ملّته ، الذين جعلهم اللّه‏ الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبيَّة ، ولرسوله بالسلطنة (١) النبويّة ، فاصطفى منصب ولاية الأمر لهم ، وعلى أصحابه الموفين بعهده ، المسلّمين لأمره ، الذين حفظوا وصيّته من بعده في الثقلين ، وتمسّكوا بولاية عترته المصطفين ، ولم يكونوا من الذين أعمى اللّه‏ أبصارهم ، وأضلّ أعمالهم فلا ناصر لهم .

وبعد :

فهذا تنميق (٢) أنيق ، وتأليف أليف ، رقّمته في تحقيق أمر الإمامة ، وتنقيح الإمارة الإيمانيّة ، وبيان حصرها في أئمّة الفرقة المحقّة الإماميّة ، أعني : الطائفة الناجية الإثنى عشريّة ، رضوان اللّه‏ عليهم أجمعين .

فإنّه لمّا تبيّن لي أنّ مناط كلام جمهور المؤلّفين في هذا المبحث المتين على نهج أطوار المخالفين من أنواع المناظرات والمجادلات الدائرة على ألسنة المتكلّمين ، ومن محض اتّباع الخلف السلف في كثير ممّا صوّبه الأكثر وزيّف ، من غير ملاحظة طريقة سلوك الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام في الاستدلال على أعداء الدين من التمسّك بالبراهين الموجبة لليقين ، الناشئة من محكمات كتاب اللّه‏ المبين ، والمعتمدات الواردة عن سيّد المرسلين ، ووجدت أكثر المؤلّفات أيضاً مشحونة بالمطاعن التي توجب تنفّر طباع الخصوم عن النظر فيها ، وقد قال اللّه‏ عزوجل : ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٣) وقال أيضاً :

__________________

(١) في «م» : بالسلطة .

(٢) في «م» : تبيان .

(٣) سورة النحل ١٦ : ١٢٥ .

٤

( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) وقال سُبحانه لموسى عليه‌السلام : ( فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ) (٢) .

وكنت قد ظفرت أيضاً في خزائن علوم أهل بيت العصمة والطهارة ، وكنوز رموز حكمهم على دليل متين ، وأصل أصيل ما سمحت به أفكار السلف ، ولا أتت بمثله أبكار (٣) الخلف ، فائح العلم ، واضح الفهم ، بيّن الدلالة ، مسلّمة مقدماته ، بل معلومة بالبداهة ، مطابقاً لما ورد في محكمات القرآن وما نقله الفريقان عن منابع العلم والعرفان ، مع كونه مشتملاً على اُمّهات سائر الدلائل ، كاشفاً عن مشكلات كثير من المسائل .

هذا ، مع أنّي كنت أيضاً قد اطّلعت على كثير من الأشياء التي ذكرها المخالفون في كتبهم ، وهي من شواهد صحّة ما ادّعاه الإماميّة على سلفهم ، وكأنّهم ذكروها غفلة من غير تفطّنهم بكونها حجّة عليهم .

فعزمت حينئذٍ مستعيناً بتوفيق اللّه‏ وحسن تأييده على تأليف هذا الكتاب المسطور على غير النهج الذي ذكرنا أنّه عادة الجمهور ، مشتملاً على الدليل المذكور ، بحيث يتضمّن سائر الأدلّة ممّا هو المشهور ، فجعلت هذا الدليل أصل مبنى وضع الكتاب ، ومناط الاستدلال فيه ، لكن بحيث يمكن إلحاق غيره من الأدلّة به ، ورتّبت بعض مقدماته على بعض ، بحيث يستلزم ثبوت كلّ مقدّمة سابقة ثبوت اللاّحقة ، وترتّبها عليها ، ومع هذا جعلت لكلّ مقدّمة منه مقالة ذكرتها فيها مع ما يشهد بصحّة ما في متونها ،

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ٩٦.

(٢) سورة طه ٢٠ : ٤٤ .

(٣) الأحداث ، وأبكار النحل : أفراخها ، وبِكر الرجل : أوّل وَلَده . انظر النهاية لابن الاثير ١ : ١٤٩ ـ بكر.

٥

ويوضّح حقّيّة (١) مضمونها من محكمات الآيات والروايات الموافقة لها ، ونقلت معظم تلك الروايات من كتب القوم ؛ ليكون أتمّ في الحجّة عليهم ، ولوجوه (٢) اُخرى أيضاً .

وقد شفعت بعض ذلك بشيء من المقدّمات العقليّة من البراهين القطعية والمسلّمات اليقينيّة ، وبيّنت كثيراً من مكالمات الفريقين في تحقيق ما ذكروه من أدلّة الطرفين ، بحيث تبيّن الرشد من الغيّ والزين من الشين ، واندفع كثير من الشبه والشكوك ، بحيث ارتفع المين من البين ، وسمّيته بـ : «ضياء العالمين» ، راجياً من فضل اللّه‏ العظيم أن يجعله كاسمه في النشأتين هادياً لمن أراد متابعة من اختاره اللّه‏ من المصطفين ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، موجباً لثوابه العظيم .

وقد بذلت جهدي ـ مهما أمكنني في كلّ مقام ـ أن يكون في الوضوح بحيث ينتفع منه الخاصّ والعامّ ، ويحكم بصحّته كلّ منصف متّصف بكون قصده تحقيق الحقّ لا محض الجدال والإلزام .

وقد انتظم تمام الكلام من المبدأ إلى الختام في ضمن بيان فاتحة ومقدّمة ، ومقصدين ، وخاتمة ، وختام فيه تمام الكلام ، مع اشتمال بعض منها على مقالات ، وبعض منها (٣) على أبواب وفصول ، بل على مباحث ومطالب بل على غيرها أيضاً من متمّمات الكلام .

__________________

(١) في «ن» : حقيقة .

(٢) منها : أنّ نقل المدّعي ما ينفع خصمه قرينة صدقه فيما نقله ، كما تحكم به العادة بديهة .

ومنها : أنّ المقصود ما يوافق كتاب اللّه‏ من أيّ جهة جاء .

ومنها : أنّ نقلهم ما يوافق الإماميّة ومنقولاتهم يجعل المنقول من المتّفق عليه بين الفريقين ، بل يدلّ على أنّ نقل خلاف ذلك ممّا فيه ما فيه ، فافهم . منه ، رحمه‌الله .

(٣) في «ش» زيادة : (حتّى بعض المقالات أيضاً) .

٦

أمّا الفاتحة :

فلنذكر (١) فيها قبل الشروع في بسط المقال خلاصة الدليل الذي أشرنا إليه على سبيل الإجمال ، مع نقل فهرست المقدّمة وغيرها من المقاصد والمقالات والخاتمة والختام والأبواب والفصول على نهج لا يكون خالياً عن نوع من الاستفصال ، حتّى يكون الناظر في كتابنا هذا على زيادة بصيرة في أصل المقال من مبدأ الحال ، بحيث يسهل عليه استخراج كلّ ما احتاج إليه عند الاشتغال بتصحيح المقصود على وجه الكمال . فنقول وباللّه‏ التوفيق :

لا يخفى أنّ من أجلى الضروريات الدينيّة والمسلّمات اليقينيّة عند جميع الطوائف الملّية ، لاسيّما كافّة هذه الفِرَق الإسلاميّة ، أنّ العباد مكلّفون ـ إيجاباً ـ بعبادة اللّه‏ عزوجل والتزام طاعته ـ التي هي بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ـ بمعنى أنّ الواجب عليهم أن يكون ما صدر منهم على وفق أمره وإرادته ، دون نهيه وكراهته .

ومن الواضحات أيضاً : أن لا مجال للكلام حينئذٍ في وجوب معرفة طريق ذلك ، ولزوم تحصيل العلم به ، وتشخيص ما يتعلّق به من تعلّم المأمورات والمناهي بشرائطها وآدابها وحدودها وسائر ما يتعلّق بها ، بحيث يتبيّن أنّها على ما هي عليه عند اللّه‏ ، أي : على وفق إرادته وكراهته وأمره

__________________

(١) في «م» : فنذكر .

٧

ونهيه ؛ ضرورة لزوم تشخيص ما كلّف به .

ولا شكّ في استلزام ذلك لزوم التعليم ووجود المعلّم ؛ ضرورة امتناع تحقّق التعلّم بدون التعليم الذي لا يكون إلاّ بالمعلّم ، فظهر أنّه لابدّ في مدّة زمان التكليف وما دام وجب (١) التعلّم من المعلّم الذي يرشد إلى الأشياء التي وقع التكليف بها على وفق ما هي عليه عند اللّه‏ ؛ حيث ظهر أنّ المقصود تلك المعرفة الخاصّة ، ومنه يظهر لزوم كون المعلّم عالماً (بيّن العلم) (٢) بما يحتاج إليه المتعلّم ، بحيث لا يحتمل الخطأ والغلط ؛ ضرورة عدم إمكان تعلّم الشيء من الجاهل به ، وكذا لا اعتماد على ما يحتمل الخطأ والكذب ؛ ولهذا يلزم أيضاً كونه صدوقاً ثابت الصدق ، موثوقاً به في جميع الأقوال والأحوال (٣) ، وكذلك يظهر وجوب التعليم والتبليغ عليه ؛ لئلاّ يلزم التقصير عليه ، ويتمّ الحجّة على المقصّر في التعلّم .

وحيث ظهر أنّ ذلك كلّه إنّما هو لتشخيص ما كلّف اللّه‏ به ، ومعرفته على ما هو عند اللّه‏ ، ظهر أنّ أصل التعليم لابدّ أن يكون من اللّه‏ عزوجل؛ ضرورة أنّ ما عند اللّه‏ لا يعلم به غير اللّه‏ ، إلاّ بإعلام من اللّه‏ ولو بالواسطة الثابتة وساطتها ، وأنّها منه [ عزوجل ] ، مع أنّ الجزم بموافقة أمر اللّه‏ لا يحصل إلاّ بالأخذ من اللّه‏ ، فظهر أنّ اللّه‏ سبحانه هو المرجع في معرفة جميع ما كلّف به طول مدّة التكليف ، وأنّه هو المعلّم الذي علم ما يحتاجون إليه فيها ؛ ضرورة لزوم تشخيص الجميع ، وتعليمه للمكلّف ما دام الاحتياج وهو في طول المدّة ، كما تبيّن ممّا ذكرنا .

__________________

(١) في «م» : وجوب .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

(٣) في «م» : الأفعال .

٨

هذا ، مع ما سنذكره في المقالات من الآيات المصرّحة بأنّ اللّه‏ عزوجل هو المعلّم لما لا يعلمون ، وأنّه علّم الكتاب والحكمة ونحو ذلك ، ومن الآيات المشتملة صريحاً على بيان صنوف الأحكام الكثيرة حتّى الجزئيّات الصغيرة ، ومن الآيات المتضمّنة صريحاً بأنّ اللّه‏ عزوجل أكمل الدين وأتمّ النعمة والحجّة (١) ، وأنّه رؤوف بالعباد (٢) ، لم يرض لهم بجهالة (٣) ، ولا البقاء على ضلالة (٤) ، وأنّه لم يفرّط في الكتاب من شيء (٥) ، وأن لا رطب ولا يابس إلاّ فيه (٦) ، وأنّه أحصى كلّ شيء فيه (٧) ، وأنّ فيه تبيان كلّ شيء (٨) ، وأمثالها من الآيات الكثيرة الآتية.

ثمّ إنّ من الواضحات قطعاً : أنّ حكمة اللّه‏ اقتضت وعادته جرت ـ من بدو الزمان إلى هذا الأوان ، ومن زمن آدم إلى عصر الخاتم ـ على عدم مخاطبته ومكالمته بنفسه مع عامّة العباد في هذا العالم ، أي بدون واسطة أصلاً ، عند بيان الأشياء بل مطلقاً ، كما أنّه لم يكتف بتديّنهم بما يدركون بعقولهم أيضاً ، بل مداره على اختياره من خلقه وسائط وسفراء وهداة واُمناء ، من الأنبياء والأوصياء ، والكتب والعلماء ، متمّماً بهم الحُجّة على غيرهم بالمعاجز الباهرة ، والبراهين الوافرة من الفضائل الفاخرة ، والعلوم المتكاثرة ، الذين أفضلهم وأكملهم كان نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أرسله إلى

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٣ .

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٠٧ .

(٣) سورة الأنعام ٦ : ٣٥ .

(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٧ .

(٥) سورة الأنعام ٦ : ٣٨ .

(٦) سورة الأنعام ٦ : ٥٩ .

(٧) سورة يس ٣٦ : ١٢ .

(٨) سورة النحل ١٦ : ٨٩ .

٩

كافة الإنس والجان ، وأنزل عليه القرآن ( هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) (١) .

فباليقين رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن واسطتان ثابتتان ، وحجّتان قائمتان ، ومعلّمان مبلّغان من طرف اللّه‏ عزوجل وبأمره واختياره ، بالبيان والعلم والبُرهان ، فيجب الرجوع إليهما مطلقاً ، وترك مخالفتهما رأساً ، وعدم الاعتماد على ما لم يكن منهما أصلاً ، ما لم يثبت كونه ممّا هو حجّة ثابتة من اللّه‏ أيضاً .

وحيث لا شكّ في عجز الناس عن فهم جميع القرآن ، وأنّ اللّه‏ الحكيم ـ المصرّح بإتمام النعمة والحجة ـ لم يكن لينزل شيئاً لم يُفهّمه لأحد ، ومن الواضحات أيضاً : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ترجمان القرآن ، وقيّمه ، وعالمه ، وحافظه ، ومبيّن تفسيره وتأويله ؛ إذ قد أنزله اللّه‏ له وإليه ، فهو المُختصّ بفهم كلّ ما فيه ، وأمّا (٢) فهم غيره لا يدانيه ، وما لا يمكن استنباط المراد منه إلاّ بتعليم من اللّه‏ ، فالبيقين كان هو المعلّم حقيقة من اللّه‏ تعالى قطعاً ، وحجّةً على الاُمّة قاطبة ؛ ولهذا كان عالماً بكلّ ما تحتاج إليه الاُمّة ؛ بحيث لا يجهل شيئاً ، وكان بنصّ من اللّه‏ مطاعاً ، آمراً ، ناهياً ، مفروض الطاعة على الكافّة ، لم يكن يجوز مخالفته ، ولم يسغ معارضته ، ولا الاعتماد على ما لم يكن منه ، بل كان يجب على الجميع الرجوع إليه ، والتسليم له ، ومتابعة أمره في كلّ مقال ، وعلى جميع الأحوال ، ولم يجز لأحد إلاّ الأخذ منه ، ولو بالواسطة المعلومة حقيقتها ، دون غير ذلك ؛ لما هو ثابت من كثرة الكذّابة عليه .

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٨٥ .

(٢) في «س» و«ن» و«ش» : ما .

١٠

فقد ظهر من هذا كلّه أنّه لم يكن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا لغيره الاعتماد على ما لم يكن من اللّه‏ ، لاسيّما ممّا لم يكن مصوناً عن الإيقاع في الخطأ والتأدية إلى خلاف ما عند اللّه‏ ؛ ضرورة أنّه بعد ما ظهر من ورود الأشياء كلّها من اللّه‏ مع تعيين المعلّم ، لا يبقى احتمال اختيار للمعلّم ولا لغيره ما سوى التسليم .

(هذا ، مع أنّ) (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يحتاج إليه ؛ إذ لا حاجة إلى البُرهان فيما يكون معلوماً بالبيان ، لاسيّما إذا كان في حكم العيان ، ولا يتصوّر الظنّ والتخمين فيما يكون معلوماً باليقين ، وكذلك حال الاُمّة ، لما ظهر من انحصار طريق التعلّم من اللّه‏ في الأخذ من المعلّم من اللّه‏ دون غير ذلك .

ثمّ إنّ من الواضحات البيّنة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبق طول زمان التكليف حتّى يوفي لجميع اُمّته جميع ما يحتاجون إلى تعليمه بنفسه إلى آخر الزمان ، ومعلوم أيضاً أنّه لم يُعلّم في حياته جميع الأشياء ـ لاسيّما الذي يحتاجون إليه فيما بعد ـ لسائر الاُمّة ، وأنّ كلّ أحد لا يفهم جميع ما في القرآن .

وهذا ـ مع إضافة ما هو ثابت من عدم تقصيره في التبليغ ، وما تبيّن صريحاً من انحصار طريق التعلّم في الأخذ من المعلّم من اللّه‏ ـ ينادي بأن لابدّ ومن الواجبات اللازمة : أن يكون بعده إلى آخر الزمان في كلّ عصر ـ بل في كلّ آنٍ ـ مَن ينوب منابه ويقوم مقامه في هذا الأمر ، يكون إماماً للخلق ، وهادياً إلى الحقّ ، ولو رجلاً بعد رجل ، وأن يكون كلّ واحد بخصال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لاسيّما في الصفات اللازمة في التعليم من كونه

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في «ن» : لأنّ .

١١

معصوماً عن الخطأ والشك والجهل ، عالماً بالكتاب كلّه ، غير عاجز عمّا يحتاج إليه أهل عصره ، آخذاً كلّ علمه من اللّه‏ ورسوله ؛ ضرورة أن لا اعتماد عليه ، ولا على علمه ما لم يكن كذلك قطعاً .

فظهر أنّه لابدّ أن يكون أيضاً متعيّناً من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مختاراً باختيار اللّه‏ ، مصطفىً من صَفوة اللّه‏ ، مفروض الطاعة بأمر اللّه‏ ؛ ضرورة كون تعيينه (١) من ألزم ما وجب تعليمه ، وأعظم ما تحتّم تعريفه من وجوه كثيرة تبيّن بعضها ممّا حرّرناه ، وسيتبيّن جميعها فيما سيأتي .

ولقد كفى في هذا أنّ النائب إذا كان بحيث لابدّ أن يكون مثل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أميناً من اللّه‏ على علمه وكتابه ودينه وشريعته ، ووساطة (٢) التبليغ والتعليم ، بحيث إنّ به يتمّ تبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما أنزله اللّه‏ عليه ، فكيف يمكن أن يعرف مثل هذا بدون إعلام من اللّه‏ ورسوله ؟ .

بل من الواضحات أنّ فرض سكوتهما عن إعلام مثل هذا الأمر العظيم ينافي ما ثبت من إكمال اللّه‏ الدين وإتمامه النعمة ، وتبليغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما تحتاج إليه اُمّته في زمانه .

وحينئذٍ لا يخفى ، بل لا كلام أيضاً في أنّ مثل هذا الرجل إنّما كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثمّ الحسنين ، ثمّ التسعة المعلومين (٣) من نسل الحسين عليهم‌السلام ؛ لوجوه كثيرة سنذكرها مفصّلة .

وكفى في هذا اعتراف الاُمّة جميعاً بعدم نصّ ، ولا عصمة ، ولا كمال علم في غير أهل البيت ، وأنّ كلاًّ من ذلك إن كان فهو في عليّ وذرّيته

__________________

(١) في «ن» : تعليمه ، وفي «م» : تعيّنه .

(٢) في «م» : ووساطته .

(٣) في «ش» : المعصومين ، أقول : دأب المؤلّف التعبير بالمعلومين .

١٢

المذكورين ، مع تسليمهم ـ كما سيأتي مفصّلاً ـ حديث الأمر بالتمسّك بالثقلين ، ووصاية عليّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصّه ، وكذا الحسن عليه‌السلام لأبيه والحسين عليه‌السلام لأخيه وهكذا كلّ لاحق لسابقه ، كما كان ذلك دأب من سلف من الأنبياء والأوصياء ، وكذا كونهم أعلم الناس بالكتاب والسنّة ، وأكملهم من كلّ جهة .

هذا كلّه ، مع ما سيأتي من نصوص الكتاب والسنّة التي منها حكاية الغدير .

فظهر أنّ حكاية السقيفة ، وادّعاء عدم تعيين أحد من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان توهّماً فاسداً ناشئاً من الأشياء التي سنذكرها ، موجباً للمفاسد العظيمة .

هذا خلاصة الدليل المذكور ، وسيأتي تفصيل بيان كلّ مقدّمة منه في مقامه (١) ، بحيث لا يبقى شبهة لمشكّك .

وإن أردت حاصله تلخيصاً ، ومحصوله تخليصاً ، فهو : أنّ اللّه‏ عزوجل خلق الخلائق لعبادته ، وكلّفهم بطاعته ، ولم يرض عنهم بإتيانها على أيّ نهج كان ، بل لم يجز عنده غير ما أمر به في صريح البيان ، كما ينادي به حكمه بالضلالة (٢) والبطلان على أهل الملل الذين كان تعبّدهم فيها على مقتضى الظنّ كالرأي والاستحسان من غير سماع ممّن أرسله بالبيان والتبيان .

ولا شكّ أنّه حينئذٍ لابدّ (٣) من العلم بها الموقوف على التعليم والمعلّم ، فعليه سُبحانه أن يعلّمهم إيّاها ، بحيث لا يحتاجون إلى ما لم يجز

__________________

(١) في «م» و«ش» : مقاله .

(٢) في «ن» و«س» و«ش» : بالضلال .

(٣) في «ن» : لابدّ له .

١٣

عنده ، وقد فعل ذلك ، حيث أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وعيّن الأوصياء ، حتّى انتهى إلى حبيبه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء ، فأرسله بالكتاب المبين ، وعلّمه ما احتاجوا إليه من اُمور الدين ، وحيث ثبت أنّه لم يبق طول مدّة التكليف ، ولم يُعلم جميع الاُمّة جميع ما احتاجوا إليه ، فلا جرم من وجود معلّم معيّن من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ عصر بنحو ما كان في سائر الاُمم ، يكون مثل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصفات عارفاً بجميع ما تحتاج الاُمّة إليه على ما هو الوارد من اللّه‏ ؛ حتّى لا يلزم التقصير في التبليغ ، ويُتمّ الحجّة والنعمة ، ولا شكّ في أنْ ليس في مثل هذه الصفات ولا ادّعى ذلك أحد غير عليّ بن أبي طالب والحسنين والتسعة المعلومين من ذريّة الحسين صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين .

وإذا تبيّن هذا ، فاعلم أنّ مضمون هذا الدليل ممّا يستفاد ـ ولو متفرّقاً ـ من المرويّات المعتبرة المتعدّدة عن أهل بيت الوحي والتنزيل ، وعلماء التفسير والتأويل ، فلا بأس إن ذكرنا ها هنا نبذاً من تلك الأخبار لمزيد البصيرة لمن أراد الاستبصار :

فالأوّل منها : ما رواه جماعة من أصحاب أهل البيت عليهم‌السلام في كتبهم بأسانيد ، منها:

ما ذكره الشيخ الجليل محمّد بن يعقوب الكليني (١) في كتاب الكافي

__________________

(١) محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي البغدادي ، يكنّى أبا جعفر ، المشتهر بثقة الإسلام ، من أئمّة الإماميّة وعلمائهم ، وأوثق الناس في الحديث وأثبتهم ، وله كتب كثيرة منها : كتاب الكافي ، صنّفه في عشرين سنة ، وتوفّي في بغداد سنة ٣٢٨ هـ .

انظر : رجال النجاشي : ٣٧٧ / ١٠٢٦ ، الفهرست للشيخ الطوسي ٢١٠ / ٦٠٢ ، الخلاصة : ٢٤٥ / ٨٣٥ ، أعيان الشيعة ١٠ : ٩٩ .

١٤

عن هشام بن الحكم (١) أنّه قال : أتى زنديق إلى أبي عبداللّه‏ جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام ، فسأله عن مسائل في التوحيد وصفات اللّه‏ عزوجل ، وفاز بأجوبة شافية ، حتّى انجرّ الكلام إلى أن سأله ، فقال : من أين أثبتّ الأنبياء والرسل ؟

فقال عليه‌السلام : «إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ويُلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ، وهم الأنبياء عليهم‌السلام وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدَّبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم ، مؤيَّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة .

ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهرٍ (٢) وزمان ممّا أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين ؛ لكيلا تخلو أرض اللّه‏ من حجّة يكون معه عِلم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته» (٣) الخبر .

__________________

(١) يكنّى أبا محمّد وأبا الحكم ، وأصله كوفي ، من أصحاب أبي عبداللّه‏ جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام ، كان فقيهاً وحاذقاً بصناعة الكلام ، وروى عنه أحاديث كثيرة ، وله كتب منها : كتاب الإمامة ، والدلالات على حدوث الأشياء ، والردّ على الزنادقة ، وتوفّي سنة ١٧٩ هـ بالكوفة في أيام الرشيد .

انظر : رجال الكشي : ٢٥٥ / ٤٧٥ ، أعيان الشيعة ١٠ / ٢٦٤ ، مجمع الرجال ٦ : ٢١٦ و٢٣٢ .

(٢) من هنا إلى صفحة ٢٠ هامش (٢) سقط في «م» .

(٣) الكافي ١ : ١٢٨ / ١ (باب الاضطرار إلى الحجة) .

١٥

ويتبيّن منه أشياء :

أحدها : أنّه لابدّ ما دام زمان التكليف أن يكون في كلّ عصر سفير بين اللّه‏ وبين خلقه من الأنبياء والأوصياء ؛ ليعبّر ما احتاجوا إليه عنه إليهم ، ويدلّهم على مصالحهم ممّا خلقوا لأجله .

وثانيها : أن يكون ذلك السفير كاملاً في العلم والعمل والتقوى وسائر الكمالات ، فائقاً على جميع أهل عصره من كلّ الجهات ، منزّهاً عن الجهل والرذالات ، مؤدّباً بآداب اللّه‏ ، مؤيّداً من طرف اللّه‏ ، بحيث لا يتطرّق إليه الخطأ والزلل ، ولم يصل إليه غيره في العلم والعمل .

وثالثها : أن يكون أصل بعثته وتعيينه من طرف اللّه‏ مستثنىً باصطفاء اللّه‏ ، ممتازاً بالاختيار من اللّه‏ .

ورابعها : أن يكون مدّعياً لذلك بالأدلّة والبراهين والآيات ، من النصّ والكرامات والمعجزات ، حتّى يُتمّ الحجّة على العباد ولا يكون لهم عذر عند العقاب في المعاد .

وممّا يدلّ على صدق هذا المقال ما سيظهر ـ إن شاء اللّه‏ تعالى ـ من أنّ جميع الأنبياء وأوصيائهم كانوا كذلك ، وأنّ الأرض لم تكن خاليةً ـ كما ورد التصريح به هاهنا أيضاً ـ من حجّة مفروض الطاعة .

نعم ، من ترك التمسّك بالعترة الأطهار اشتبه عليه الأمر فوقع في الإنكار ، وجاز عنده خرق هذه العادة فيما بعد النبيّ المختار ، فتأمّل .

الثاني : ما رواه هؤلاء المشايخ أيضاً عن يونس بن يعقوب (١) قال :

__________________

(١) يونس بن يعقوب بن قيس ، أبو علي الجلاب البجليّ الكوفي ، من أصحاب الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام ، ولا خلاف في وثاقته ، ولمّا توفّي في المدينة بعث

١٦

كان عند أبي عبداللّه‏ الصادق عليه‌السلام جماعة من أصحابه ، منهم : حمران بن أعين (١) ، ومحمّد بن النعمان (٢) ، وهشام بن سالم (٣) ، وجماعة فيهم هشام ابن الحكم وهو شابّ ، فقال أبو عبداللّه‏ عليه‌السلام : «ياهشام ، ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عُبيد (٤) ؟ وكيف سألته» ؟

__________________

مولانا الرضا عليه‌السلام بحنوطه وكفنه وجميع ما يحتاج إليه ، وأمر مواليه أن يحضروا جنازته ، وأن يدفن بالبقيع .

انظر رجال الكشي : ٣٨٥ / ٧٢٠ ، الخلاصة : ٢٩٧ / ١١٠٤ ، جامع الرواة ٢ : ٣٦٠ .

(١) حمران بن أعين الشيباني ، ثقة جليل بالاتفاق ، من أصحاب الإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام وعدّه الكاظم عليه‌السلام من حواريه ، وأحد حملة القرآن ، ومن أكابر الشيعة المفضّلين الذين لا يشك فيهم .

انظر : رجال الكشي ١٧٦ / ٣٠٣ و٣٠٤ ، رجال بحر العلوم ١ : ٢٢٢ ـ ٢٢٧ ، جامع الرواة ١ : ٢٧٨ ، أعيان الشيعة ٦ : ٢٣٤ ، مجمع الرجال ٢ : ٢٣٤ ـ ٢٣٨ .

(٢) محمّد بن علي بن النعمان البجلي الأحول ، يكنّى أبا جعفر ، ويلقّب بمؤمن الطاق ، من أصحاب السجّاد والباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام . ثقة جليل بالاتفاق ، وكان متكلّماً حاضر الجواب ، وله كتب منها : كتاب الإمامة ، والمعرفة ، والرّد على المعتزلة .

انظر : الفهرست للشيخ الطوسي ٢٠٧ / ٥٩٤ ، مجمع الرجال ٦ : ٧ ، جامع الرواة ٢ : ٢٠٨ .

(٣) هشام بن سالم الجواليقي الجعفي ، مولى بشر بن مروان أبو الحكم ، عدّوه من أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، ثقة جليل بالاتفاق ، وهو أوّل من دخل على موسى بن جعفر عليهما‌السلام بعد وفاة أبيه واطّلع على إمامته وأخبر أصحابه ، وصرف الناس عن عبداللّه‏ الأفطح ، وله كتب منها : كتاب الحج ، والتفسير ، والمعراج .

انظر : رجال الكشي : ٢٨١ / ٥٠١ ، رجال النجاشي ٤٣٤ / ١١٦٥ ، الفهرست للشيخ الطوسي ٢٥٧ / ٧٨٢ ، جامع الرواة ٢ : ٣١٤ ، معجم رجال الحديث ٢٠ : ٣٢٤ / ١٣٣٦١ .

(٤) عمرو بن عُبيد بن باب ، يكنّى أبا عثمان ، مولى بني تميم ، كان شيخ المعتزلة

١٧

قال هشام : يابن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اُجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك .

فقال أبو عبداللّه‏ عليه‌السلام : «إذا أمرتكم بشيءٍ فافعلوا» .

قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عُبيد ، فعظم ذلك عليّ فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة ، فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقةٍ كبيرةٍ فيها عمرو بن عبيد ، وعليه شملةٌ سوداء متّزر بها من صوف وشملة مرتدٍ بها والناس يسألُونه ، فاستفرجتُ الناس فأفرجوا لي ، ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتيّ ، ثمّ قلت : أيّها العالم ، إنّي رجل غريب ، أتأذن لي في مسألة ؟ فقال لي : نعم ، فقلت له : ألك عين ؟ فقال لي : يابُنيّ ، أيّ شيءٍ هذا من السؤال وشيء تراه كيف تسأل عنه ؟ فقلت : هكذا مسألتي ، فقال : يابنيّ ، سَلْ وإن كانت مسألتك حمقاء ، قلت : أجبني فيها ؟ قال لي : سَلْ ، قلت : ألك عين ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أرى بها الألوان والأشخاص ، قلت : فلك أنف ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به ؟ قال : أشمّ به الرائحة ، قلت : ألك فم ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به ؟ قال : أذوق به الطعم ، قلت : فلك اُذن ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أسمع بها الصوت ، قلت : ألك قلب ؟ قال : نعم ! قلت : فما تصنع به ؟ قال : اُميّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح والحواس ، قلت : أوَ لَيْس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟ فقال : لا ، قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟ قال : يابُنيّ ، إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته

__________________

في وقته ومفتيها ، وله خطب ورسائل وكلام كثير في العدل والتوحيد وغير ذلك ، مات في سنة ١٤٤ ، وقيل : ١٤١ هـ في أيام المنصور .

انظر : سفينة البحار ٦ : ٤٧٨ ـ ٤٧٩ ، مروج الذهب ٣ : ٣٠٢ ، تاريخ بغداد ١٢ : ١٦٦ / ٦٦٥٢ ، وفيات الأعيان ٣ : ٤٦٠ / ٥٠٣ .

١٨

أو رأته أو ذاقته أو سمعته ، ردّته إلى القلب فيستيقن اليقين ويُبطل الشكّ .

قال هشام : فقلت له : فإنّما أقام اللّه‏ القلب لشكّ الجوارح ؟ قال : نعم ، قلت : فلابدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟ قال : نعم ، فقلت له : يا أبا مروان ، فاللّه‏ تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يُصحّح لها الصحيح وتتيقّن به ما شكّت فيه ، ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟

قال : فسكت ولم يقل لي شيئاً ، ثمّ التفت إليّ ، فقال لي : أنت هشام ابن الحكم ؟ فقلت : لا ، قال : أمِنْ جلسائه ؟ قلت : لا ، قال : فمن أين أنت ؟

قال : قلت له : من أهل الكوفة ، قال : فإذن أنت هو ، ثمّ ضمّني إليه وأقعدني في مجلسه ، وزال عن مجلسه وما نطق حتّى قمت .

قال : فضحك أبو عبداللّه‏ [ عليه‌السلام ] وقال : «ياهشام ، من علّمك هذا» ؟ قال : شيء أخذته منك وألّفته .

فقال : «هذا واللّه‏ ، مكتوب في صحف إبراهيم وموسى عليهما‌السلام » (١) .

هذا آخر الحديث ، وفيه : من الدلالة على لزوم وجود إمام من اللّه‏ في كلّ عصر ، فائقاً على سائر الناس ، لا سيّما في العلم الذي يحتاجون إليه ، علماً مفيداً لليقين رافعاً للشكوك مزيلاً للخلاف ، وعلى عدم إتمام الحجّة وإكمال الدين والنعمة بدون ذلك ، وعلى أنّ هذا الأمر المذكور ـ بعد توجّه الذهن إليه والتفطّن به ـ مفاد صريح العقل وبداهة الفهم ما لا يخفى .

__________________

(١) الكافي ١ : ١٢٩ / ٣ (كتاب الحجة ـ باب الاضطرار إلى الحجة) ، أمالي الصدوق ٦٨٥ / ٩٤٢ .

١٩

وسيأتي في الفصل العاشر من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل حديث آخر عن هشام أيضاً ، أنّه تكلّم في مجلس بني العباس على علماء القوم في الإمامة بما يوافق دليلنا الذي ذكرناه تمام الموافقة ، فلا تغفل ، بل طالعه البتّة فإنّه كلام تامّ جيّد جدّاً .

الثالث : ما رووه أيضاً عن يونس بن يعقوب :

قال : كنت عند أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام فورد عليه رجل من أهل الشام ، فقال : إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت لمناظرة أصحابك . . . . فقال عليه‌السلام لي : «لو تُحسن الكلام كلّمته» فقلت : يا لها من حسرة ! فقال لي : أخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلّمين فأدخله ، قال : فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام ، وأدخلت الأحول (مؤمن الطاق) وكان يحسن الكلام ، وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام ، وأدخلت قيس بن الماصر (١) وكان عندي أحسنهم كلاماً ، وكان قد تعلّم من علي بن الحسين عليهما‌السلام ، فلمّا استقرّ بنا المجلس ورد هشام بن الحكم ، وهو أوّل ما اختطّت لحيته وليس فينا إلاّ من هو أكبر سنّاً منه .

قال : فوسّع له أبو عبداللّه‏ عليه‌السلام (٢) ، فقال : «ناصرنا بقلبه ولسانه ويده» .

ثمّ قال : «ياحمران ، كلّم الرجل» فكلّمه ، فظهر عليه حمران .

__________________

(١) هو من المتكلّمين تعلّمه من عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، وصحب الصادق عليه‌السلام ، وكان أحسن كلاماً من هشام بن سالم ، وحمران ، والأحول . قال الصادق عليه‌السلام لقيس : «أنت والأحول قفّازان حاذقان» ويظهر من كلام الصادق عليه‌السلام كونه من أجلاّء أصحاب الأئمّة الثلاثة عليهم‌السلام .

انظر : تعليقة الوحيد البهبهاني على منهج المقال : ٢٦٠ ، تلخيص المقال : ١٩٢.

(٢) من صفحة ١٥ هامش ٢ إلى هنا سقط في «م» .

٢٠