معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٧

الإسلام يحبط ما قبله. وردّ بأنه يلزم صدق الذنوب على الماضى والمستقبل ، لأن الخطاب للكفار ، فيلزم المجاز ؛ لأن الآنى لم يعملوه ، فكيف يصدق عليه أنه ذنوب قبل الفعل. ونقل عن ابن عصفور أنه قال : يغفر لكم جملة من ذنوبكم. ورد بأن تلك الجملة بعض الذنوب ، فلا حاجة إلى تقديرها ، ولفظة من النائبة مناب بعض يغنى عنها.

فتأمل يا محمدىّ هذه العناية الربّانية بك حيث خاطب هذه الأمّة ؛ قال فى حقهم : يغفر لكم ذنوبكم ، وحيث خاطب الأمم [٣١٣ ب] المتقدمة أنبياؤهم خاطبوهم بالبعض ، لتعلم الفرق بين خطاب المولى الكريم من خطاب عبيده.

((١) يَقُولُ : سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) : هذا من كلام الجنّ ، والمراد بالسفيه أبوهم إبليس. وقيل هو اسم جنس لكلّ سفيه منهم ، وهو المختار عند ابن عطية.

((٢) يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) : الضمير يعود على العرب ، لأنهم كانوا إذا حلّ أحدهم بواد صاح بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادى ؛ إنى أعوذ بك من السفهاء الذين فى طاعتك ، ويعتقد أن ذلك الجنى الذى بالوادى يحميه ، وهذا جهل منهم وإنكار للربوبية ، ولذلك قال الله : ((٣) فَزادُوهُمْ رَهَقاً).

((٤) يَدْعُوهُ) : الضمير لعبد الله (٥) المتقدم. وقد قدمنا مرارا أنّ الله

__________________

(١) الجن : ٤

(٢) الجن : ٦

(٣) الجن : ٦

(٤) الجن : ١٩

(٥) فى الآية نفسها.

٥٤١

سمّاه هذا لإضافته للتشريف والتكريم. وقال الزمخشرى : إنما لم يقل الرسول أو النبى لأن هذا وقع فى كلام رسول الله عن نفسه ، لأنه مما أوحى إليه ، فذكر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه على ما يقتضيه التواضع والتذلل ؛ وهذا بعيد مع أنه إنما يتمكن على قراءة أنه لما قام بفتح الهمزة فيكون عطفا على أوحى إلىّ أنه استمع. وأمّا على القراءة بالكسر على الاستئناف فيكون إخبارا من الله ، ومن جملة كلام الجن ، فيبطل ما قاله.

((١) يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) : يحتمل أن يكون الضمير للكفار من الناس ، أى كادوا يجتمعون على الردّ إليه وإبطال أمره ، أو يكون للجن الذين استمعوا ؛ أى كادوا يجتمعون عليه لاستماع القرآن للتبرّك به.

((٢) يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) ؛ أى لا أدرى أقريب ما توعدون من قتلكم يوم بدر أو موتكم بعد ، ولذلك قال : ((٣) عالِمُ الْغَيْبِ) ، يعنى هذا أمر مغيب.

((٤) يَوْمَ تَرْجُفُ) : العامل فى يوم معنى الكلام المتقدم ، وهو ((٥) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً).

((٦) يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) : يعنى أن الأطفال يشيبون يوم القيامة من شدّة الهول ، فقيل إن ذلك حقيقة ، وقيل إنه عبارة عن هول ذلك اليوم ، وأخذ من الآية أنّ الهمّ يسرع الشيب ، وهذا مشاهد فى كثير من الأشخاص فى كل عصر. وقد رأينا من شاب من همّ ساعة ، ورأينا حكايات شتّى أنهم

__________________

(١) الجن : ١٩

(٢) الجن : ٢٥

(٣) الجن : ٢٦

(٤) المزمل : ١٤

(٥) المزمل : ١٢

(٦) المزمل : ١٧

٥٤٢

شابوا من ذلك ، فإذا كان هذا فى الدنيا المنقرضة همومها ، لا خيرها يدوم ولا شرها يبقى ، فمالك بيوم تذهل فيه كلّ مرضعة عمّا أرضعت ، ويفرّ المرء من أخيه! اللهم لا محيص من هوله إلّا بك ، ولا مفرّ منه إلا بعفوك ، فاجعله لنا يوم رحمة لا يوم نقمة ، إليك المشتكى ، وبك المستغاث ، وعليك التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بك.

((١) يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) : أى يطمع فى الزيادة على ما أعطاه الله ، ويظنّ أنّ حرصه واجتهاده يوصّله لمراده ، وهذا غاية الجهل ، ولذلك قال مهدّدا له : ((٢) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً).

((٣) يقول الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ) : المراد بالأولين المنافقون ؛ لأنه وصفهم بمرض قلوبهم.

فإن قلت : ذلك فى البقرة ، وهذه الآية مكية ، فكيف يصحّ اطلاقها عليهم وليسوا بها؟

والجواب : أن معناه يقول المنافقون إذا حدثوا ، ففيه إخبار بالغيب ، أو يريد من كان بمكة من أهل الشك.

((٤) يفجر أَمامَهُ) ؛ أى يفعل أفعال الفجور. وفى معنى (أَمامَهُ) ثلاثة أقوال : أحدها أنه عبارة عما يستقبل من الزمان ، أى يفجر بقية عمره. الثانى أنه عبارة عن اتباع أغراضه وشهواته ؛ يقال : مشى فلان قدّامه إذا لم يرجع عن شىء يريده ، والضمير على هذين القولين يعود على الإنسان. الثالث أن

__________________

(١) المدثر : ١٥

(٢) المدثر : ١٦

(٣) المدثر (٣١) : وليقول ...

(٤) القيامة : ٥

٥٤٣

الضمير يعود على يوم القيامة. والمعنى يريد الإنسان أن يفجر قبل يوم القيامة.

((١) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) ؛ أى يسأل الإنسان على وجه الاستخفاف والاستهزاء متى يوم القيامة. وهذا لجهله إما على أنّ من مات فقد قامت قيامته وهو يشاهد الموت بغتة ، فكيف يستبعدها وليس الخبر كالمعاينة ، لكن الجاهل أعمى ، ولا يقال لهذا جاهل بل أحمق.

((٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) ؛ أى بجميع أعماله المقدمة فى عمره ، وما أخر منها بعد مماته هل سنّ سنّة حسنة أو سيئة أو صلة أوصى بها تضره أو تنفعه ، أو ما قدم من المعاصى وأخّر من الطاعات ؛ أو ما قدم لنفسه من ماله [٢١٤ ا] وما أخّره منه. أو ما قدم فى أول عمره وما أخّر فى آخره ويحتمل أنه ينبّأ عن مجموعها. وفى الحديث : يدنو أحدكم من ربه ليس بينه وبينه ترجمان ، فيقول عبدى خلقتك بتدبيرى ، وصوّرتك بحكمنى ، وأتممت عليك نعمتى ، فلم عصيتنى؟ فأىّ جواب لك أيها العبد؟ وفى حديث آخر : لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس : عمره فيم أفناه ، وشبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، وعن علمه ما عمل فيه ؛ أتدرون من المفلس؟ قالوا : لا ، يا رسول الله. قال لمفلس من يأتى يوم القيامة وله أمثال الجبال من الحسنات ، ويأتى قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، وأكل مال هذا ، فهذا يأخذ من حسناته وهذا من حسناته ، فإذا فنيت حسناته طرحت عليه سيئاتهم ، ثم طرح فى النار. اللهم ارحمنا إذا صرنا إليك ، والطف بنا يوم الوقوف بين

__________________

(١) القيامة : ٦

(٢) القيامة : ١٣

٥٤٤

يديك ، أقست عليك بأكرم الخلق عليك وأرفعهم مكانة لديك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

((١) يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) : مصدر من السوق ، كقوله تعالى : (إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

((٢) يَتَمَطَّى) : الضمير يعود على أبى جهل ، وذلك أنه كان يتبختر فى مشيته ويتعجّب من نسمته ، ويرى أنه أفضل قومه ؛ فردّ الله عليه بقوله : ((٣) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ...) الآية ؛ أى من كانت هذه حاله كيف يتبختر ، وكانت هذه المشية معروفة فى بنى مخزوم ، وختم هذه الآية بقدرته تعالى على إحياء الموتى ، لأن من لازم خلق الإنسان وتطويره على هذه الهيئة المشاهدة القدرة على إحياء الموتى من باب أولى.

(يَتِيماً) : قد قدمنا أنّ اليتيم من فقد أباه من الآدميين ؛ ومن الحيوان من فقد أمّه ، وسلّى الله نبيه بقوله تعالى : ((٤) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ...) إلى آخرها. وذلك أنه قال ليلة الإسراء : يا رب ، اصطفيت آدم ، وسلمت على نوح ، ورفعت إدريس ، وكلمت موسى ، فقال له : ((٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ...) إلى آخر ألم نشرح.

وهذا الاستفهام على ذكر المنة والتسلية بما أعطاه الله وفضّله على سائر الرسل ، هذا ما أعطاه الله فى الدنيا والآخرة وأعظمها قوله : ((٦) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ؛ ففي إبهام هذا العطاء ما لا يوصف.

__________________

(١) القيامة : ٣٠

(٢) القيامة : ٣٣

(٣) القيامة : ٣٧

(٤) الضحى : ٦

(٥) الضحى : ٦

(٦) الضحى : ٥

٥٤٥

((١) يَوْماً عَبُوساً) : قد قدمنا أنه عبوس على الكافر ، لأنه يعبس يومئذ حتى يسيل الدم من عينيه ، مثل القطران ، وأما المؤمن فيسرّ بما يلقى من الرحمة الخاصة به ، جعلنا الله منهم.

((٢) يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) : هذا من قول الكافر لما يرى من اقتصاص البهائم بعضها من بعض ، ثم ترجع ترابا فيقوله ليسلم من العذاب كما سلمت الحيوانات ، وأنّى له ذلك! وقيل المراد به إبليس ، لأنه احتقر التراب فى قوله : ((٣) خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، فيتمنى حينئذ أن يكون مثل آدم وأولاده لما رأى ما أنعم الله على المؤمنين منهم.

(يَوْمَ تَرْجُفُ (٤) الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) : العامل فى (يَوْمَ) محذوف ، وهو الجواب المقدر ، تقديره لتبعثن يوم ترجف الراجفة ... وإن جعلنا يوم ترجف الجواب فالعامل فى يوم معنى قوله : ((٥) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) ؛ أى شديدة الاضطراب كما قدمنا فى حرف الواو ، ويكون تتبعها الرادفة فى موضع الحال.

ويحتمل أن يكون العامل فيه تتبعها ، وقد قدمنا أن هذين الاسمين من أسماء القيامة ، فقيل الراجفة النفخة الأولى فى الصّور ، والرادفة الثانية لأنها تتبعها ، وبينهما أربعون عاما. وقد قدمنا فى حرف الثاء أنّ الراجفة الأرض ، والرادفة السماء ؛ لأنها تنشقّ يومئذ. وقيل الراجفة الموت ، والرادفة القيامة. وقد قدمنا أنّ النفخ على ستة أوجه : لآدم ، ((٦) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي).

__________________

(١) الإنسان : ١٠

(٢) النبأ : ٤٠

(٣) الأعراف : ١٢

(٤) النازعات : ٦

(٥) النازعات : ٨

(٦) الحجر : ٢٩

٥٤٦

ولذى القرنين : ((١) قالَ انْفُخُوا). ولريم : ((٢) فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا). ولعيسى عليه‌السلام : ((٣) فَأَنْفُخُ فِيهِ). وفى هاتين النفختين : (يَقُولُونَ : أَإِنَّا (٤) لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ).

هذه حكاية قول الكفار فى الدنيا ، ومعناه على الجملة إنكار البعث ، فالهمزة فى قولهم أئنّا لمردودون للانكار ؛ ولذلك انفق القرّاء على قراءته بهمزتين إلا أنّ منهم من سهّل الثانية ، ومنهم من حقّقها. واختلفوا فى ((٥) أَإِذا كُنَّا) [٣١٤ ب] (عِظاماً) ؛ فمنهم من قرأه بهمزة واحدة ، لأنه ليس موضع استفهام ولا إنكار ، ومنهم من قرأه بهمزتين تأكيدا للانكار المتقدم.

((٦) يَقْضِ ما أَمَرَهُ) : مجزوم بلما ، ومعناه أنه لا يقضى الإنسان على تطاول عمره ما أمره الله ؛ إذ لا بدّ للعبد من تفريط ، وإذا كانت الأنبياء والرسل والملائكة المقرّبون يقولون يوم القيامة : سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك ، فكيف يقضى العاصى لربه حقّه؟ أو كيف تقضى العبودية حقّ الربوبية!

((٧) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) : الظرف منصوب بقوله : (مَبْعُوثُونَ). وقيل بفعل مضمر ، أو بدل من (يوم عَظِيمٍ).

وقيام الناس يوم القيامة على حسب اختلافهم ؛ فمنهم من يقوم خمسين أنف سنة وأقل من ذلك على حسب أعمالهم ، ومنهم من يقوم من قبورهم إلى قصورهم ، ومنهم على قدر صلاة مكتوبة.

__________________

(١) الكهف : ٩٦

(٢) الأنبياء : ٩١

(٣) آل عمران : ٤٩

(٤) النازعات : ١٠

(٥) الإسراء : ٤٩ ، ٩٨

(٦) عبس : ٢٣

(٧) المطففين : ٦

٥٤٧

((١) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) : يعنى الملائكة لقرنهم من الله.

((٢) يَشْرَبُ بِهَا) : يعنى يشربها ، فالباء زائدة. ويحتمل أن تكون بمعنى يشرب منها ، أو كقولك : شربت الماء بالعسل.

((٣) يَحُورَ) ؛ أو يرجع بلغة الحبشة ؛ قاله ابن عباس.

((٤) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) : الضمير للماء. وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون للانسان ، وهذا بعيد جدا.

((٥) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) : يعنى تنكشف سرائر العبد التى كانت فى قلبه من عقائد ونيّات ، وتالله لا يجد فيها فى هذا الزمان إلا ضغائن وحقائد وخبث طويّات. وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن السرائر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة.

وهذه معظمها ؛ ولذلك خصّها بالذكر ، والعامل فى (يَوْمَ) قوله (رَجْعِهِ) ، أى يرجعه (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ). واعترض بالفصل بينهما. وأجيب بقوة المصدر فى العمل. وقيل : العامل قادر. واعترض : بتخصيص القدرة بذلك اليوم ، وهذا لا يلزم ؛ لأن القدرة وإن كانت مطلقة فقد أخبر لله أن البعث إنما يقع فى ذلك اليوم.

((٦) يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) : يعنى كيف تنفعه حينئذ الذكرى ، وقد انقطعت علائقه. والإنسان جنس يشمل جميعه ، وتذكره إنما هو بندمه على تفريطه ، ويومئذ بدل من دكّت ، ويتذكر هو العامل ، وهو جواب دكت.

__________________

(١) المطففين : ٢١

(٢) المطففين : ٢٨

(٣) الانشقاق : ١٤

(٤) الطارق : ٧

(٥) الطارق : ٩

(٦) الفجر : ٢٣

٥٤٨

((١) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) ؛ أى قدمت عملا صالحا وقت حياتى ، فاللام على هذا كقولك : كتبت لعشر من الشهر.

وقيل الحياة فى الآخرة. والمعنى : يا ليتنى قدمت عملا صالحا للآخرة.

وكيف ينفعه هذا القول وقد أخبر الله بعذابه ووثاقه؟

((٢) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) : قد قدمنا أنّ النفوس ثلاثة : لوّامة ، وأمّارة ، ومطمئنة ، وهى المرادة هنا بالخطاب ، لأنها الموقنة بحيث لا يتطرق إليها شكّ فى الإيمان. وقيل المطمئنة التى لا تخاف حينئذ. ويؤيّد هذا قراءة أبىّ ابن كعب : يأيتها النفس الآمنة المطمئنة.

((٣) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) : بضم اللام وكسرها. بمعنى الكثرة. والقائل لهذا عند قوم الوليد بن المغيرة ، لأنه أنفق أموالا فى إفساد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

((٤) يَتَزَكَّى) : من أداء الزكاة ، أو من الزكاء ، أى يصير زاكيا عند الله ، أو يتطهر من ذنوبه. وهذا الفعل بدل من ((٥) يُؤْتِي مالَهُ) ، أو حال من الضمير. والمراد به أبو بكر الصديق رضى الله عنه ، ولو لم يكن له من الفضيلة إلا نزول هذه السورة فيه لكان فيها كفاية ، فكيف وقد شبّهه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآصف لما أتى ببركة من مكة إلى المدينة. وسمى صدّيقا لأنه صدّق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كذبه الناس ، وعتيقا لقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت عتيق من النار.

__________________

(١) الفجر : ٢٤

(٢) الفجر : ٢٧

(٣) البلد : ٦

(٤) الليل : ١٨

(٥) الليل : ١٨

٥٤٩

ولما نزلت : ((١) وَلَسَوْفَ يَرْضى) ـ قال : يا رسول الله ، لا يرضينى أنّ أحدا من أمّتك يدخل النار. فتبسّم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن الله يقول لك : إن شئت وقفت فى يوم القيامة تشفع فيمن أحببت وإن شئت مضيت.

وقد ألّفت تأليفا سميته الوثيق فى نصرة الصديق. وبالجملة فالصحابة كلهم عدول لا يجحد عدالتهم إلا منافق مبتدع ، وكيف لا والله يقول : ((٢) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...) الآية ، فرضى الله [٣١٤ ا] عنهم وعمّن رضى عنهم وأحبّهم.

((٣) يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) : الخطاب لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما نزلت قال : لا أرضى أن يبقى أحد من أمّتى فى النار. فقال الله له : لا بد من نفاذ الوعيد على طائفة. فطلب فيهم الشفاعة. والصحيح أنّ هذا وعد يعمّ كلّ ما أعطاه الله فى الدنيا من النصر ، والفتوح ، وكثرة المسلمين ، وغير ذلك ؛ وفى الآخرة من الوسيلة ، والدرجة الرفيعة ، والمقام المحمود الذى لا يناله أحد.

فإن قلت : ما فائدة الامتنان عليه باليمّ؟

والجواب : لئلا يكون عليه حقّ لمخلوق ، ولما مات أبوه تركه فى بطن مولاتنا آمنة ، ثم ماتت وهو ابن خمسة أعوام. وقيل ثمانية ، فكفله جدّه عبد المطلب ، ثم مات وتركه ابن اثنتى عشرة سنة ، فكفله عمّه أبو طالب ، ورام المعاندون قتله وخموده فلم يقدروا عليه لحفظ الله له صبيّا وكهلا ، فلهذا عدّد نعمه عليه سبحانه كما قدمنا.

__________________

(١) الليل : ٢١

(٢) الفتح : ٢٩

(٣) الضحى : ٥

٥٥٠

((١) يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) : الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنه يتلو القرآن فى صحف مطهرة. وقد قدمنا معناها.

((٢) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) : هذه عبارة عما يحدث الله فيها من الأهوال ، فهو مجاز وحديث بلسان الحال. وقيل : هو شهادتها على الناس بما عملوا على ظهرها ، فهو حقيقة. وتحدّث يتعدّى إلى مفعولين ، حذف الأول منها. والتقدير تحدث الخلق أخبارها. وانتزع بعض المحدثين من قوله : تحدث أخبارها أن قول المحدث : حدثنا ، وأخبرنا سواء. وهذه الجملة فى جواب : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) ، وتحدث هو العامل فى إذا ، ويومئذ بدل من إذا ، ويجوز أن يكون العامل فى إذا مضمر وتحدث عامل فى يومئذ.

((٣) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) ؛ أى مختلفين فى أحوالهم ، وصدر الناس هو انصرافهم من موضع وردهم. فقيل الورد هو الدفن فى القبور والصدر هو القيام للبعث وقيل الورد القيام للمحشر ، والصدر الانصراف إلى الجنة أو النار ، وهذا أظهر. وفيه يعظم التفاوت بين أحوال الناس ، فيظهر كونهم أشتاتا.

((٤) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) : العامل فى الظرف محذوف دلّ عليه القارعة. تقديره فى يوم.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)(٥) ؛ أى يظنّ بفرط جهله واغتراره أنّ ماله يخلّده فى الدنيا. وقيل : يظن أنّ ماله يوصّله إلى دار الخلد.

واختلف على من يعود الضمير من الكفار على أقوال.

__________________

(١) البينة : ٢

(٢) الزلزلة : ٤

(٣) الزلزلة : ٦

(٤) القارعة : ٤

(٥) الهمزة : ٣

٥٥١

((١) يَدُعُّ الْيَتِيمَ) ؛ أى يدفعه بعنف ، وهذا يحتمل أن يكون عن إطعامه والإحسان إليه ، وعن ماله وحقوقه ، وهذا أشدّ.

((٢) يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) : هذه الجملة فى جواب أرأيت (٣) ؛ لأنّ معناها أخبرنى ، فكأنه سؤال وجواب.

والمعنى انظر الذى يكذب بالدين تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة والأعمال السيئة ؛ وإنما ذلك لأنّ الدين يحمل صاحبه على الحسنات ، وترك السيئات ، فمقصود الكلام ذمّ الفاعل لذلك. قال الجنيد : عرضت نفسى ليلة على هذه السورة ، فلم أجد فيها ذلك ، ثم عرضت عليها (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله : أولئك فى جنات مكرمون ، فقلت : سبحانك لا من هؤلاء ولا من هؤلاء ، فسمعت هاتفا يقول : من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم. هذا الجنيد فكيف حالك يا خويد.

((٤) يُراؤُنَ) الناس ، فكانت صلاتهم للناس لا لله ، فلذلك ذمّهم الله فى الدنيا وعذّبهم فى الآخرة ، وفى هذا تحذير لمن اتّصف بصفتهم ، فالأحمق من يعمل لرضا الناس ، وهو لا يدرك ، وأجهل الناس من طلب ما لا يدرك ، وعن قريب يظهر له فعله. وهذا يختلف باختلاف المقاصد ، لأن من عمل لإظهار الله جميله وستره قبيحه ، أو لأنه يفعل به ذلك فى الآخرة ، أو لقدوتهم به أذلّه مثل أجورهم أو فرح بثنائهم لحبهم الطاعة والمطيع وسلامتهم من أضدادها ، أو ليعرف حبّ ربه تعالى إذا أحبه حبّبه إلى عباده ، أو لئلا يشغله ذمهم ونحوه فحسن.

__________________

(١) الماعون : ٢

(٢) الماعون : ٣

(٣) الماعون : ١

(٤) الماعون : ٦

٥٥٢

((١) يَمْنَعُونَ الْماعُونَ) : قد قدمنا فى حرف الميم أن هذا وصف لهم بالبخل وقلّة المنفعة للناس ، ومن لا ينفع الناس لا ينفعه الله ، وأنفع الناس عند الله أنفعهم للناس [٣١٥ ب] إلا إن أوجب الله طردهم وبعدهم وهجرانهم ، فالبغض فى الله أوجب ؛ ولذلك اختلف الفقهاء فى التصدق على تارك الصلاة ؛ قال بعضهم : الحمد لله الذى قال : (عَنْ صَلاتِهِمْ) ، ولم يقل فى صلاتهم.

((٢) يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) : سبب نزول هذه السورة أنّ قوما من قريش منهم الوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاصى ابن وائل ، وأبو جهل ونظراؤهم ـ قالوا : يا محمد ، اتّبع ديننا ونتّبع دينك ، اعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة. فقال : معاذ الله أن نشرك بالله شيئا.

ونزلت السورة فى معنى البراءة من آلهتهم ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأها فقد برئ من الشرك. وفى هذا المعنى الذى عرضت عليه قريش نزل قوله : ((٣) أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) ، ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت السّورة بسببها.

فإن قلت : لم كرر قوله تعالى : ((٤) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ)؟

فالجواب فى تكرار هذه الآيات أقوال جمّة ومعان كثيرة ، وتلخيصها أنّ الله تعالى نفى عن نبيه عبادة الأصنام فى الماضى والحال والاستقبال ، ونفى عن الكفار المذكورين عبادة الله فى الأزمنة الثلاثة أيضا ، فاقتضى

__________________

(١) الماعون : ٧

(٢) الكافرون : ١ ، ٢

(٣) الزمر : ٦٤

(٤) الكافرون : ٤

٥٥٣

القياس تكرار هذه اللفظة ستّ مرات ، فذكر لفظ الحال ؛ لأن الحال هو الزمان الموجود ، واسم الفاعل واقع موقع الحال وهو صالح للأزمنة الثلاثة ، واقتصر من الماضى على المسند إليهم ، فقال : ولا أنا عابد ما عبدتم ، وكان اسم الفاعل بمعنى الماضى فعمل على مذهب الكوفيين. واقتصر من المستقبل على المسند إليه ، فقال : ولا أنتم عابدون ما أعبد ، وكان اسم الفاعلين بمعنى المستقبل.

((١) يُشْعِرُكُمْ) ؛ أى يدريكم ، وهو من الشعور بالشىء.

((٢) يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) : أى يجورون فى أسمائه ويشتقّون اللات من الإله ، والعزّى من العزيز ، وقيل تسميته بما لا يليق به ، ولما قال أبو جهل ما قال نزلت الآية.

((٣) يَوْمَ حُنَيْنٍ) : عطف على ((٤) مَواطِنَ) ، أو منصوب بفعل مضمر.

وهذا أحسن لوجهين : أحدهما أن قوله : ((٥) إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) : مختص بحنين ، ولا يصح فى غيره من المواطن ، فيضعف عطف أحدهما على الآخر ، إلا إن أريد بالمواطن الأوقات. وحنين اسم علم لموضع عرف باسم رجل اسمه حنين ، وانصرف لأنه مذكر ، وهى قرية قرب الطائف.

((٦) يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ؛ أى يخالفهما ويعاديهما. وقيل : اشتقاقه من الحد ، كقولك : يكون الله ورسوله فى حدّ ، وهو فى حدّ.

((٧) يُغاثُ النَّاسُ) : يحتمل أن يكون من الغيث ، أى يمطرون ،

__________________

(١) الأنعام ١٠٩

(٢) الأعراف : ١٨٠

(٣) التوبة : ٢٥

(٤) التوبة : ٢٥

(٥) التوبة : ٢٥

(٦) التوبة : ٦٣

(٧) يوسف : ٤٩

٥٥٤

أو من الغوث ؛ أى يفرج الله عنهم.

((١) يُحاوِرُهُ) ؛ أى يراجعه فى الكلام.

((٢) يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) : يصفّق بالواحدة على الأخرى كما يفعل المتندم المتأسّف على ما فاته.

((٣) يُغادِرُ) : يخلف ويترك.

((٤) يُضَيِّفُوهُما) : ينزلوهما منزلة الأضياف فى إطعامهما والإحسان إليهما.

((٥) يُعَقِّبْ) : يرجع على عقبه إلى خلف. وقيل يلتفت.

((٦) يُوزَعُونَ) : يكفّون ويحبسون. وجاء فى التفسير يحبس أولهم على آخرهم حتى يدخلوا النار. ومنه قول الحسن رضى الله عنه لما تولّى القضاء وكبر الناس عليه : لا بدّ للناس من وزيعة ، أى من شرطة يكفّون الناس عند القاضى.

((٧) يُؤْتُونَ ما آتَوْا) : من الزكاة والصدقة. وقيل إنه عامّ فى جميع أعمال البر ؛ أى يفعلون وهم يخافون ألّا نقبل منهم.

وقد روت عائشة هذا المعنى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنها قرأت يأتون ما أتوا بالقصر (٨) ، فيحتمل أن يكون الحديث تفسيرا لهذه القراءة ،

__________________

(١) الكهف : ٣٤

(٢) الكهف : ٤٢

(٣) الكهف : ٤٩

(٤) الكهف : ٧٧

(٥) النمل : ١٠

(٦) النمل : ١٧

(٧) المؤمنون : ٦٠

(٨) الحديث بتمامه فى القرطبى : ١٢ ـ ١٣٢

٥٥٥

وقيل : إنه عام فى الحسنات والسيئات ؛ أى يفعلونها وهم خائفون من الرجوع إلى الله.

فإن قلت : ما فائدة حذف الضمير فى هذه الآية المثبت فى الآيتين قبلها؟

فالجواب : أنه أكد فى الأولين بالضمير ، وفى هذه بقوله : وقلوبهم وجلة ؛ أى خائفة.

((١) يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) ؛ أى يلف هذا على هذا ، ككور العمامة ، وهو هنا استعارة على ما قال ابن عطية يعيد من هذا على هذا ، فكأنّ الذى يطول من النهار أو الليل يصير منه جزء على الآخر فيستره ، وكأن الذى يقصر يدخل فى الذى يطول [٣١٦ ا] فيستتر فيه. ويحتمل أن يكون المعنى أنّ كلّ واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه. فشبّه فى ستره له بثوب يلف على آخر.

((٢) يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) : ضمير التأنيث يعود على السفن ، يعنى يهلكها بما يكسب أهلها. وهذا عطف على ((٣) يُسْكِنِ الرِّيحَ) ، ومعناه لو شاء الله أغرق السفن من شدة الرياح العاصفة ، أو يسكنها فيظللن رواكد على ظهره لا يتحركن بالجرى.

((٤) لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) ؛ أى يزيلونك بعيونهم ، لأنهم غاروا من فصاحته ؛ فقال له قائل منهم فما أفصحك! وفصد أخذه بالعين ؛ لأنه أعياهم

__________________

(١) الزمر : ٥

(٢) الشورى : ٣٤

(٣) الشورى : ٣٣

(٤) القلم : ٥١

٥٥٦

أمره ، فلم يبق لهم من الحيل إلا هذا ، فأنزل الله عليه هذه الآية ، وحفظه منهم ؛ فلذلك لا تجد أنفع رقية منها لمن أصابه العين ، وقرئت ليزلقونك بضم الياء ؛ أى يستأصلونك من قولهم : أزلق رأسه إذا حلقه.

((١) يُوفِضُونَ) : يسرعون الخروج من القبور إلى المحشر ، كما يسرعون المشى إلى أصنامهم فى الدنيا ، لكنه خلاف إسراعهم إليها ؛ لأن الدنيا دار مهلة وتنعّم ، وهناك كما وصف الله حالهم (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ (٢) ذِلَّةٌ) ووجوههم مغبرة ترهقها قترة.

((٣) يُوعُونَ) ؛ أى يجمعون فى صدورهم من الكفر والتكذيب ، أو هو سبحانه عالم بما يجمعون فى صحائفهم من الأعمال ، يقال : أوعيت المال وغيره إذا جمعته.

ولنختم معانى هذه الحروف بذكر دخول من أورثه الله هذا الكتاب العظيم من الظالم والمقتصد والسابق ، وأن الله وعدهم بجنة عدن يدخلونها ، والضمير راجع إلى الثلاثة ؛ قال تعالى : ((٤) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها).

قالت عائشة رضى الله عنها : لو علموا ما تحت واو الجماعة لماتوا فرحا. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سابقنا سابق ، ومقتصدنا لا حق ، وظالمنا مغفور له.

__________________

(١) المعارج : ٤٣

(٢) القلم : ٤٣

(٣) الانشقاق : ٢٣

(٤) فاطر : ٣٢ ، ٣٣

٥٥٧

فإن قلت : ما فائدة تقديم الظالم؟ وهلّا جاءت الآية مثل الحديث؟

فالجواب : عادة المخلوق يقدّم الأفضل ، فخاطبهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عوائدهم ، ألا ترى قوله : زر غبّا تزدد حبّا. وقال الله : ((١) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). ويقولون : لا تعير فتبلى. وقول الله : ((٢) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) : ويقولون : أحسن إلى من أحسن إليك.

ولما كان السابق قريبا ، والظالم بعيد ، والقريب يحتمل ما لا يحتمل البعيد ، والظالم منكسر الرأس من حياء جرمه ومعصيته ، فلما نكس رأسه رفعه الله كما أنّ الجودىّ وطور زيتا لمّا لم يرفعا رءوسهما أكرمهما الله كما قدمنا ، والظالم ضعيف ، والسابق قوىّ ، والعادة فى القافلة تقديم الضعيف والرجالة ، ألا تراه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقدم الضعفة إلى منى قبل الفجر ، فقدم الظالم لئلا يفتضح ولا يعاب ، وأيضا الظالم غير مدع والسابق مدع ، ولو قدم السّابق وأخّر الظالم لبان منه العدل ، والظالم رفع قصته إلى الله فوقع له توقع الرحمة فى قوله تعالى : ((٣) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ، وللمقتصد توقع التوبة فى قوله تعالى : ((٤) آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً). وللسابق توقّع الرضوان ، قال تعالى : ((٥) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ).

فالمقامات على ثلاثة أسماء : الله الرّحمن الرّحيم ، فانظر كيف اصطفاهم كما قال فى إبراهيم : ((٦) وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

__________________

(١) الحجر : ٩٩

(٢) الملك : ٩١١

(٣) الزمر : ٥٣

(٤) التوبة : ١٠٢

(٥) التوبة : ١٠٠

(٦) البقرة : ١٣٠

٥٥٨

فإن قلت : ما الفرق بين الاصطفاء والإفضال؟ ولم لم يقل فضّلنا؟

والجواب : أن الاصطفاء كلّى بجميع الأشياء ، والإفضال بعض لبعض دون بعض ، والاصطفاء أخروى ؛ ((١) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ، وَمِنَ النَّاسِ) [٣١٦ ب] والإفضال دنيوى ، ((٢) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) ، والإفضال عام ، ((٣) وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ؛ أى على عالمى زمانهم ، والاصطفاء خاصّ ، والخاص مقدّم على العام.

فإن قلت : ما الحكمة فى أنّ الله أعطى القرآن بلفظ الميراث؟

والجواب : لأنه ليس شىء أطيب وألذّ وأجلّ من الميراث ، فذكره بلفظ الميراث أحلى وأطيب وأشهى. وأيضا الميراث لا ينزع من يد الوارث بخلاف العطايا والهبات ، فذكره بلفظ الميراث ليعلم أنه لا يريد أن ينزعه عنك. وأيضا الميراث يعمّ الأولاد عصاة أو مطيعين ، كذلك القرآن. وإذا أكرم الله المؤمن على الجملة باثنتى عشرة كرامة فكيف بمن اصطفاه بهذا القرآن ؛ قال تعالى : ((٤) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) ؛ (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا). (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا). (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا). (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً). (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)."(رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)". (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ). (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ). (يا أَيُّهَا (٥) الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).

__________________

(١) الحج : ٧٥

(٢) النحل : ٧١

(٣) البقرة : ٤٧ ، ١٢٢

(٤) الأنعام : ٨٢

(٥) الأحزاب : ٧٠

٥٥٩

فإن قلت : قد ذكرت لنا فضيلة الثلاثة فميّز لنا من هم؟

والجواب : قد قدمنا من هم ، وكثرت أقاويل الناس فيهم حتى أنهاه بعضهم إلى عشرين قولا ، وتلخيصهم أن السابق الذى يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ، والمقتصد الذى يدخلها بفضل الله. والظالم الذى يدخلها بشفاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل السابق المحافظ على الجماعة. والمقتصد الحافظ للوقت ، والظالم الغافل عنهما جميعا.

وقيل الظالم الذى خلط عملا صالحا وآخر سيئا. والمقتصد الذى لم يخلط. والسابق الذى لم تقع منه هفوة.

وقيل الظالم أهل الكبائر. والمقتصد أهل الصغائر. والسابق المجتنب لهما جميعا.

فإن قلت : لم وقعت الإشارة ((١) ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)؟

فالجواب أنه قد كثرت الأقاويل أيضا فى ذلك ؛ فقيل إشارة إلى الإرث والاصطفاء أو الظالم ، أو إلى إذنه ، أو إلى دخول الجنة أو إلى الله ، أى ذلك الذى فعل هذا هو الفضل الكبير.

اللهم بلغنا هذا الفضل ، ولا تعاملنا بالعدل ، وقد ابتدأنا بالفضل ، وفعلك مبنىّ على الابتداء كما بدأكم تعودون.

(يا) : حرف لنداء البعيد حقيقة أو حكما ، وهى أكثر حروفه استعمالا ،

__________________

(١) فاطر : ٣٢

٥٦٠