معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٧

المنافقين ، وهم أولياؤه من كفّار قريش ؛ فالمفعول الثانى على هذا محذوف.

(فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ)(١) : بالتاء وفتح الباء خطابا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالياء وضمّ الباء ، أسند الفعل للذين يفرحون ؛ أى لا يحسبون أنفسهم.

(فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً)(٢) : الخطاب لأولياء الأيتام أن يدفعوا إليهم أموالهم إذا رشدوا ، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله ؛ وإن لم يكن من أهل الدّين. واشترط قوم الدين ، واعتبر مالك البلوغ والرشد. وحينئذ يدفع المال. واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفه. وقوله مخالف للقرآن.

(فَلْيَسْتَعْفِفْ)(٣) : أمر الوصىّ الغنىّ أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف من غير إسراف. وقيل : المراد أن يكون له أجرة بقدر عمله وخدمته. وقيل نسخها : ((٤) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً). قال عمر بن الخطاب : لا بأس للوصيّ الفقير أن يستسلف من مال محجور له ، فإذا أيسر ردّه.

(فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٥) ؛ أى ما حلّ ؛ وإنما قال (ما) ولم يقل «من» ؛ لأنه أراد الجنس. وقال الزمخشرى (٦) : لأنّ الإناث من العقلاء يجرى مجرى غير العقلاء. ومنه قوله تعالى (٧) : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٨) : إباحة للأزواج أو للأولياء على ما تقدم من الخلاف ـ أن يأخذوا ما دفعه النساء من صدقاتهن عن

__________________

(١) آل عمران : ١٨٨

(٢) النساء : ٦

(٣) النساء : ٦

(٤) النساء : ١٠

(٥) النساء : ٣

(٦) الكشاف : ١ ـ ١٨٦

(٧) النساء : ٣

(٨) النساء :

٤١

طيب أنفسهن. وقد قال بعضهم : من أصابه ألم فليأخذ من صداق زوجته أربعة دراهم ، ويشترى بدرهمين عسلا وبدرهمين زيتا ويشربها بماء مطر ؛ فإنّ الله يعافيه ؛ لأن الله قال فى الزيت مباركا ، وفى المطر مباركا ، وفى العسل شفاء ، وفى الصداق الهناء. وإن أضاف إليها آية من كتاب الله ففيه الشفاء أيضا.

(فَإِنْ كُنَّ نِساءً)(١) ؛ إنما أنّث ضمير الجماعة فى (كُنَّ) ، لأنه قصد الإناث. وأصله أن يعود على الأولاد ، لأنه يشمل الذكور والإناث. وقيل : يعود على المتروكات. وأجاز الزمخشرىّ (٢) أن تكون كان تامة ، والضمير مبهم ، ونساء تفسير.

(فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)(٣) : ظاهره أكثر من اثنتين ؛ ولذلك جمع (٤) على أنّ للثلاث فما فوقهن الثلثين ، وأما البنتان فاختلف فيهما ؛ فقال ابن عباس : لهما النصف كالبنت الواحدة وقال الجمهور : لهما الثلثان. وتأوّلوا فوق اثنتين فما فوقهما. وقال قوم : إن فوق زائدة كقوله (٥) : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ). وهذا ضعيف. وقال قوم : إنما وجب لهما الثلثان بالسنّة لا بالقرآن. وقيل بالقياس على الأختين.

(فَلَهَا النِّصْفُ)(٦) : نصّ على أنّ للبنت النصف إذا انفردت ؛ ودليل على أن للابن جميع المال إذا انفرد ؛ لأن للذكر مثل حظّ الانثيين.

(فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)(٧) : لم يجعل الله للأم الثلث إلا بشرطين :

أحدهما عدم الولد. والآخر إحاطة الأبوين بالميراث ؛ ولذلك دخلت الواو

__________________

(١) النساء : ١١

(٢) الكشاف : ١ ـ ١٩٢

(٣) النساء : ١١

(٤) فى قوله ـ فى الآية نفسها : كن نساء.

(٥) الأنفال : ١٢

(٦) النساء : ١١

(٧) النساء : ١١

٤٢

لتعطف [٢٢٤ ب] أحد الشرطين على الآخر. وسكت عن حظ الأب استغناء بفهمه ؛ لأنه لا يبقى بعد الثلث إلا الثلثان ولا وارث إلا الأبوان ؛ فاقتضى ذلك أنّ الأب يأخذ بقيّته وهو الثلثان.

(فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)(١) : أجمع العلماء على أن ثلاثة من الإخوة يردّون الأم إلى السّدس. واختلفوا فى الاثنين ؛ فمذهب الجمهور أنهما يردّ انها إلى السدس. ومذهب ابن عباس أنهما لا يردانها إليه ؛ بل هما كالأخ الواحد. وحجّته أنّ لفظ الإخوة لا يقع على الاثنين ؛ لأنه جمع لا تثنية. وأقلّ الجمع ثلاثة. وقال غيره : إن لفظ الجمع قد يقع على الاثنين ، كقوله (٢) : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ). و ((٣) تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ). ((٤) وَأَطْرافَ النَّهارِ).

واحتجّوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " الاثنان فصاعدا جماعة".

وقال مالك : مضت السنّة أن الإخوة اثنان فصاعدا. ومذهبه أن أقلّ الجمع اثنان ؛ فعلى هذا يحجب الأخوان فصاعدا الأم عن الثلث إلى السدس ، سواء كانا شقيقين ، أو لأب ، أو لأم ، أو مختلفين ؛ وسواء كانا ذكرين أو انثيين ، أو ذكرا وأنثى ؛ فإن كان معهما أب ورث بقيّة المال ، ولم يكن للإخوة شىء عند الجمهور ، فهم يحجبون الأمّ ولا يرثون.

وقال قوم : يأخذون السدس الذى حجبوا عنه الأم ، وإن لم يكن أب ورثوا.

(فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ)(٥) : يعنى إن كان الإخوة للأم اثنين فأكثر

__________________

(١) النساء : ١١

(٢) الأنبياء : ٧٨

(٣) ص : ٢١

(٤) طه : ١٣٠

(٥) النساء : ١٢

٤٣

فلهم الثلث بالسواء بين الذكر والأنثى ؛ لأن قوله : (شُرَكاءُ) يقتضى النسوية بينهم ؛ ولا خلاف فى ذلك.

ولما وقع النزاع بين فقيهين فى أقل الجمع ، هل هو اثنان أو ثلاثة؟ رأى أحدهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاشتكى إليه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلّ منكم مصيب ؛ فإن أقلّ جمع التثنية اثنان. وأقل جمع الأفراد ثلاثة. فانظر كيف أرضاهما صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله.

(فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)(١) ؛ إنما جعل شهداء الزنى أربعة تغليظا على المدّعى ، وسترا على عباده ؛ ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلّا سترته بردائك. وفى حديث آخر : من ابتلى بشيء من هذه القاذورات فليستتر عنّا بستر الله ، ومن أبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه الحدّ. وقيل : ليكون شاهدان على كل واحد من الزانيين.

(فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ)(٢) : كانت عقوبة الزنى الإمساك فى البيوت ، ثم نسخ ذلك بالإيذاء المذكور والتوبيخ. وقيل إن الإمساك فى البيوت للنساء والإيذاء للرجال ، فلا نسخ بينهما. ورجّحه ابن عطية والزمخشرى وابن الفرس بقوله فى الإمساك : من نسائكم ، وفى الإيذاء : منكم ، ثم نسخ الإمساك والإيذاء بالرّجم للمحصن ، وبالجلد لغير المحصن. واستقر الأمر على ذلك ؛ فأما الجلد فمذكور فى سورة النور ، وأما الرجم فقد كان فى القرآن ثم نسخ لفظه ، وبقى حكمه. وقد رجم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماعزا الأسلمى وغيره.

(فَأَعْرِضُوا عَنْهُما)(٣) : لما أمر بالإيذاء للزانى أمر بالإعراض عنه إذا تاب ،

__________________

(١) النساء : ١٥

(٢) النساء : ١٥

(٣) النساء : ١٦

٤٤

وهو ترك الإيذاء ، وفيه ترجية للتائب. وقد أخبرنا الله فى أربع آيات من كتابه أنه يتوب على المؤمنين ؛ قال تعالى (١) : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ ...) الآية. ((٢) وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). ((٣) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ). ((٤) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ). وأخبرنا فى ثلاث آيات أنه يقبل توبتهم ؛ قال تعالى (٥) : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ). ((٦) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ). ((٧) قابِلِ التَّوْبِ).

وذكر لنا أنه يغفر لهم فى ثلاث آيات ؛ قال تعالى (٨) : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...) الآية. و ((٩) مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ...) الآية. ((١٠) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ...) الآية.

وأخبرنا فى آيتين أنّا إن رجعنا إليه قبلنا ؛ قال تعالى (١١) : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ). وقال (١٢) : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ).

وقد قدمنا أن فى هاتين الآيتين إشارة إلى فلاح التائب ومحبته له. وقال تعالى (١٣) : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ؛ فقدم محبة التائب على المتطهر ؛ وما ذلك إلّا أنّ التائب تقع ندامته واستغفاره ، وطلب العذر والدعاء [٢٢٥ ا] من مولاه ؛ ولذلك كان المعصوم على الإطلاق يستغفر الله ويتوب إليه فى اليوم أكثر من مائة مرة.

__________________

(١) التوبة : ١١٧

(٢) الأحزاب : ٧٣

(٣) النساء : ٢٧

(٤) النساء : ١٧

(٥) التوبة : ١٠٤

(٦) الشورى : ٢٥

(٧) غافر : ٣

(٨) آل عمران : ١٣٥

(٩) النساء : ١١٠

(١٠) الزمر : ٥٣

(١١) الزمر : ٥٤

(١٢) الذاريات : ٥٠

(١٣) البقرة : ٢

٤٥

وقال الصحابى : إن كنّا لنعدّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المجلس الواحد : رب اغفر لى وتب علىّ ـ أكثر من سبعين مرة ؛ فكيف بك أيها الغريق! ولا يخلصك من ذلك إلا بكثرة الاستغفار ، والصلاة على النبى المختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنهما يمحقان الذنوب محقا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له".

وإذا تأمّلت الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، تجد فيها محبة الله للتائب والمستغفر ؛ ألا ترى أن الله قدّمه فى آيات من كتابه ، كقوله تعالى (١) : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ). ((٢) فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ). وفى الحديث : طوبى لمن وجد فى صحيفته استغفارا كثيرا.

وقد قرن الله صحبة التائبين مع الصابرين ، والمجاهدين والمحسنين ، والمتوكلين والمتّقين والمقاتلين فى سبيله ، والمتّبعين لنبيه ؛ فما أشرفها من خصلة إن وفّقك الله إليها! ويا لها من نعمة يجب عليك شكرها! وكيف لا تشكره عليها والشكر نعمة أخرى؟ لكنه سبحانه يعطى الكثير ، ويرضى باليسير ؛ فاللسان ترجمان القلب. ولو جعل الله فى قلبك رؤبة هذه النعم لحركته فيما يدفع عنك النّقم ؛ أعجبتك نفسك ، فرضيت أفعالها! ألم تعلم أنّ أصل كلّ معصية الرضا عن النفس. سرحت لسانك فى أعراض إخوانك ، وهل خلقه لك إلا لتسبّحه ، أو تذكر نعمه ، أو تستغفر من ذنوبك الصادرة منك! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون على مصابنا وعدم اهتبالنا بما كسبته جوارحنا ، نسأله سبحانه السلامة والعافية فى ديننا ودنيانا ، بجاه نبينا وحبيبنا.

__________________

(١) التوبة : ١١٢

(٢) التوبة : ١١٢

٤٦

(فاحِشَةً وَمَقْتاً)(١) : قد قدمنا أن الفاحشة معناها الزنى ، وزاد فى هذه الآية (مَقْتاً) ؛ لأنّ تزوّج الرجل زوجة أبيه أشدّ من الزنى.

(فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ)(٢) : هنّ الإماء. ويجوز نكاحهنّ إذا لم يجد طولا للمحصنات.

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)(٣) ؛ أى ساداتهنّ المالكين لهن.

(فَإِذا أُحْصِنَّ ...)(٤) الآية. معناها إذا زنت الأمة بعد أن أحصنت فعليها نصف حدّ الحرة.

(فَتِيلاً)(٥) : هو الخيط الذى فى شقّ نواة التمرة. وقيل : ما يخرج بين إصبعيك وكفّيك إذا فتلتهما ؛ وهو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء ؛ فيدل على الأكثر بطريق الأولى.

(فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(٦) : الردّ إلى الله هو النظر فى كتابه. والرد إلى الرسول هو سؤاله فى حياته ، والنظر إلى سنّته بعد وفاته.

(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ...)(٧) الآية. معناها أنّ من اليهود من آمن بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو بالقرآن المذكور فى قوله (٨) : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ). أو بما ذكر من حديث إبراهيم. فهذه الضمائر فى (بِهِ). وقيل منهم ؛ أى من آل إبراهيم ، ومنهم من كفر كقوله (٩) : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

__________________

(١) النساء : ٢٢

(٢) النساء : ٢٥

(٣) النساء : ٢٥

(٤) النساء : ٢٥

(٥) النساء : ٤٩

(٦) النساء : ٥٩

(٧) النساء : ٥٥

(٨) آية ٤٧ من السورة نفسها.

(٩) الحديد : ٢٦

٤٧

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ (١) ...) الآية. معناها : كيف يكون حالهم إذا عاقبهم الله بذنوبهم ، ويقولون : لم نرد إلا موافقتك يا محمد ، مع أنهم كاذبون فى قولهم ، فانظر هذه الملاطفة الواقعة من أمر الله لرسوله فى شأنهم.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)(٢) : لا هنا مؤكدة للنفى الذى بعدها. ومعنى الآية أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا. وقيل بسبب خصام الزبير مع الأنصارىّ فى الماء الذى قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أن كان (٣) ابن عمتك". وحكمها عام.

(فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ...)(٤) الآية. أشار بها إلى أنّ من أطاع الله ورسوله يحشر معهم. وهى مفسرة لقوله : صراط الذين أنعمت عليهم.

(فَانْفِرُوا ثُباتٍ)(٥) ؛ أى اخرجوا للجهاد جماعات متفرقين ، أو جماعات. وفيها إشارة إلى السرايا ، وأنّ من خرج بها فهو كالمجاهد ، ولا يقال إنّ المجاهد لا يكون إلّا مع الإمام ؛ وقد صحّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو لا أن أشقّ على أمتى ما قعدت خلاف (٦) سريّة. وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعث السرايا ويحرّض عليها ؛ وقد وصف من تخلّف [٢٢٥ ب] عنها بأنه من المستهزئين.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(٧) : ما زائدة للتأكيد ، والباء تتعلق بمحذوف

__________________

(١) النساء : ٦٢

(٢) النساء : ٦٥

(٣) فى القرطبى (٥ ـ ٢٦٦) أراك تحابى ابن عمتك.

(٤) النساء : ٦٩

(٥) النساء : ٧١

(٦) خلاف سرية ، أى خلفها وبعدها (صحيح مسلم : ١٤٩٦)

(٧) النساء : ١٥٥

٤٨

تقديره : بسبب نقضهم فعلنا ما فعلنا ، والباء (١) تتعلق بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) ، ويكون (فَبِظُلْمٍ) على هذا بدلا من قوله فيما نقضهم.

(فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ)(٢) : انتصب خيرا هنا ، وفى قوله (٣) : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) ـ بفعل مضمر تقديره : وأتوا إيمانا خيرا لكم. هذا مذهب سيبويه ، وعلى هذا فنصبه على النعت لمصدر محذوف. وقال بعض الكوفيين : هو خبر كان المحذوفة ، تقديره يكن الإيمان خيرا لكم.

(فَمَنِ اضْطُرَّ)(٤) : راجع إلى المحرمات المذكورة قبل هذا ، أباحها الله عند الاضطرار.

(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(٥) : ذكر الله فى هذه الآية صفة الوضوء ، وذكر فيها أربعة أعضاء : اثنان محدودان وهما اليدان والرجلان ، واثنان غير محدودين وهما الوجه والرأس. فأما المحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين ، والرّجلان إلى الكعبين وجوبا بإجماع ؛ فإنّ ذلك الحد هو الذى جعل الله لهما.

واختلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين وغسل الرجلين مع الكعبين أم لا؟ وذلك مبنى على معنى إلى؟ فمن جعل إلى بمعنى مع فى قوله : إلى المرافق وإلى الكعبين ـ أوجب غسلهما ، ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غسلهما.

واختلف فى الكعبين : هل هما اللذان عند معقد الشّراك لذكرهما بلفظ الجمع ، كما ذكر المرافق ؛ لأنه على ذلك فى كل رجل كعب واحد.

__________________

(١) فى ا : له ـ تحريف.

(٢) النساء : ١٧٠

(٣) النساء : ١٧١

(٤) المائدة : ٣

(٥) المائدة : ٦

٤٩

وأما غير المحدودين فاتّفق على وجوب إيعاب الوجه ، وحدّه طولا من أوّل منابت الشعر إلى آخر الذقن واللحية ، وحدّه عرضا من الأذن إلى الأذن. وقيل من العذار إلى العذار.

وأما الرأس فمذهب مالك وجوب إيعابه كالوجه. ومذهب كثير من العلماء جواز الاقتصار على بعضه ؛ لما روى فى الحديث أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على ناصيته ؛ ولكنهم اختلفوا فى القدر الذى يجزئ على أقوال كثيرة.

وسرّ الأمر فى غسل هذه الأعضاء فى الوضوء أن الله أكرم هذه الأمة فى الجنة بالخواتم والخلاخل والأسورة والتّيجان والنظر إلى الله ؛ فأمرهم بغسل هذه الأعضاء ، ليطهرهم من الذنوب الواقعة منها ، فيلقوه ولا ذنب عليهم ؛ ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى لأعرف أمتى يوم القيامة ؛ لأنهم غرّ محجّلون من آثار الوضوء ؛ فلا يحافظ عليه إلا مؤمن ؛ لأنّ مفتاح الجنّة لا إله إلا الله ، ومفتاح الصلاة الوضوء : قال الله تعالى (١) : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ، وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ).

فانظر كيف سوّاهم مع رسول الله ، لقوله (٢) : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ). ((٣) وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ).

فإن قلت : لم منع المتيمم من مسح رأسه؟

والجواب أنّ وضع التراب على الرأس علامة الفراق من الحبيب ؛ والله تعالى لا يحب فراقهم ، فلم يجعل لهم ما يتفاءلون به على الفراق.

__________________

(١) المائدة : ٦

(٢) الأحزاب : ٣٣

(٣) يوسف : ٦

٥٠

(فَاطَّهَّرُوا)(١) : هذا أمر بالغسل لمن وجب عليه ؛ وفيه إجمال ، بخلاف الوضوء ، فإنما فصّله لأنه من خصائص هذه الأمة ، ولم يكونوا يعرفونه ، بخلاف الغسل ، فإنما علموه مما تقدم. وبهذا أمر الله الأمم المتقدمة ، وسرّه ليذوق الإنسان وبال ما أصابه من اللذة فى الوقاع ، وأن الدنيا لا تخلو من كدر ، وفيه معنى النظافة ؛ ولهذا لا ينبغى للانسان أن تمرّ عليه جمعة إلا ويغتسل فيها مرة ، مع أنه يكفّر السيئات ، ويرفع الدرجات ؛ وقد صحّ أنه يكفّر بعدد شعر جسده من السيئات.

فإن قلت : ما معنى الحديث : هذا وضوئى ووضوء الأنبياء قبلى لمّا غسل الأعضاء ثلاثا؟ مع قولكم : إنه من خصائص هذه الأمة؟

والجواب أنه كان من خصوصية الأنبياء لا أممهم ، لما قدمناه من أنّ الله أراد بذلك تطهيرهم ؛ ولهذا تقول الأنبياء والأمم يوم القيامة : كادت هذه الأمة أن تكون كلّها أنبياء ؛ فما أشرفها من أمة نبىّ كريم! (فَأَغْرَيْنا)(٢) ؛ أى أثبتنا وألصقنا ، وهو مأخوذ من (٣) الغراء.

(فَتْرَةٍ)(٤) : سكون وانقطاع ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث بعد انقطاع الرسل ؛ لأنها كانت متواترة ، كلّما جاء أمة رسولها عذّبوه إلى وقت رفع عيسى ، فانقطعت الرسل إكراما لهذا النبى الكريم.

(فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ)(٥) : ردّ عليهم ؛ لأنهم قد اعترفوا [٢٢٦ ا] أنهم أبناء الله وأحبّاؤه ، فردّ الله عليهم أنه يعذبهم وينتقم منهم ، والأب

__________________

(١) المائدة : ٦

(٢) المائدة : ١٤

(٣) وهو ما يلصق الشيء بالشىء ، كالصمغ وغيره (القرطبى : ٦ ـ ١١٧).

(٤) المائدة : ١٩

(٥) المائدة : ١٨

٥١

لا يعذّب ولده ، والحبيب لا يرضى بعذاب حبيبه ؛ ففيه تبكيت لهم ، وإشارة إلى أن من [أحبّه](١) يرفع درجته ، ولا يكون العبد محبوبا عند مولاه إلا بعد الإخلاص فى العبودية ، والقيام بحقوق الربوبية.

وأمّا من يدّعى المحبّة وهو عرىّ عنها فهو كاذب فى دعواه ، غير واصل لما يتمنّاه.

واعلم أن العبد مع الله على ثلاثة أوجه :

حال يكون للعبد عليه. وحال يكون لله على العبد. وحال يكون على رأس العبد شاء ذلك العبد أو أبى.

فأما الحال التى تكون للعبد على الله فهى حال الشدة والمحنة ، فللعبد على الله الأجر والعوض ؛ قال تعالى (٢) : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ).

وأما الحال التى تكون لله على العبد فهى حال النعمة والرخاء ، ولله على العبد الشكر والنعمة ؛ قال تعالى (٣) : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها). وقال (٤) : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).

وأما الحال التى تكون على رأس العبد فهى حال القضاء والقدر ؛ قال تعالى (٥) : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا).

وإذا علمت هذا فمراد الله منك فى حال النعمة ـ الشكر ، ويجازيك بالزيادة (٦) : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). وفى حال النقمة الصبر ، ويجازيك

__________________

(١) مكان ما بين القوسين كلمة غير مقروءة فى الأصلين.

(٢) التوبة : ١٢٠

(٣) إبراهيم : ٣٤

(٤) التكاثر : ٨

(٥) التوبة : ٥١

(٦) إبراهيم : ٧

٥٢

بالثواب الجزيل ((١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً). وفى حال الطاعة ـ الإخلاص ، ويجازيك بالقبول (٢) : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). وفى حال المعصية التوبة والرجوع إليه ، ويجازيك بالمغفرة.

فمن ادّعى محبّته تعالى وهو غير ممتثل لأمره فهو كاذب فى دعواه ، غير مدرك ما يتمنّاه. وهذه دعوى اليهود والنصارى وهم مخالفون فى أمره ؛ فإياك والتشبّه بهم ؛ فالتشبّه بأهل الخير فلاح.

وإذا كان سبحانه يسأل الصادقين عن صدقهم فكيف بمن لم يعمل ، وقد قالوا : عمل بلا إخلاص كحقيقة بلا روح ؛ فلا تكثروا العمل بالبهرج (٣) ، غدير صاف أنفع من خليج كدر. ما أشبه حجر المها (٤) بالجوهر ، لكن بين الثمنين بون بعيد. ربح المرائى منتن يشين القلوب الصافية.

(فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٥) : هو من الفرقة. وقيل من الفصل ؛ أى افصل بيننا وبينهم بحكم.

(فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً)(٦) : قد قدمنا أنّ الله حرّم على بنى إسرائيل الأرض المقدّسة أربعين سنة ، مدة عبادتهم العجل ، حتى مات كلّ من قال : إنا لن ندخلها ؛ ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكلاب (٧) ، ومات هارون فى التّيه ، ومات موسى بعده فى التّيه أيضا. وقيل

__________________

(١) الإنسان : ١٢

(٢) الكهف : ١١٠

(٣) البهرج : الباطل والردىء (القاموس).

(٤) المهاة : البلورة ، والجمع مها ومهوات (القاموس).

(٥) المائدة : ٢٥

(٦) المائدة : ٢٦

(٧) فى القرطبى (٦ ـ ١٣٠) وكالب.

٥٣

إنّ موسى وهارون لم يكونا فى التّيه ؛ لقوله : فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين. وخرج يوشع ببنى إسرائيل بعد الأربعين سنة ، وقاتل الجبّارين ، وفتح المدينة. والعامل فى أربعين محرّمة ـ على الأصح ؛ فيجب وصله معه. وقيل العامل فيه يتيهون ؛ فعلى هذا يجوز الوقف على قوله : " محرّمة عليهم". وهذا ضعيف ؛ لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا ، مع أنّ القول الأول أكمل معنى ؛ لأنه بيان لمدة التحريم والتّيه معا.

(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(١) ؛ أى لا تحزن على من فسق منهم يا محمد ، لإنكارهم هذه القصص فى كتابك ، مع علمهم بها فى كتبهم. وقيل الخطاب لموسى.

(فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)(٢) : تمثيل قاتل الواحد بقاتل الجمع يتصوّر من ثلاث جهات : إحداها : القصاص فى قتل الواحد والجمع سواء. والثانى : انتهاك الحرمة ، والإقدام على العصيان. والثالث : الإثم والعذاب الأخروىّ.

قال مجاهد : إنّ الله وعد قاتل النفس بجهنّم والخلود فيها ، والغضب واللعنة ، والعذاب العظيم. فإن قتل جميع الناس لم يزد على ذلك. وهذا الوجه هو الأظهر ؛ لأنّ القصد بالآية تعظيم قتل النفس ، والتشديد فيه ؛ ليزدجر الناس عنه. وكذلك الثواب فى إحيائها كثواب إحياء الجميع ، لتعظيم الأمر والترغيب فيه. وإحياؤها هنا إنقاذها من الموت ، كإنقاذ الغريق وشبهه. وقيل بترك قتلها. وقيل بالعفو إذا وجب القصاص.

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ)(٣) : توبة السارق [٢٢٦ ب] هى أن يندم على ما مضى ، ويقلع فيما يستقبل ، ويردّ ما سرق إلى من يستحقّه.

__________________

(١) المائدة : ٢٦

(٢) المائدة : ٣٢

(٣) المائدة : ٣٩

٥٤

واختلف إذا تاب قبل أن يصل إلى الحاكم ، هل يسقط عنه القطع؟ وهو مذهب الشافعى لظاهر الآية ، أو لا يسقط عنه؟ وهو مذهب مالك ؛ لأن الحدود عنده لا تسقط بالتوبة ، إلا المحارب ؛ للنصّ عليه.

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)(١) : هم المنافقون ، كعبد الله بن أبىّ بن سلول وأصحابه.

(فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)(٢) : لا يكون فيه تسبّب لمخلوق. وقيل أمر من الله لرسوله بقتل اليهود. والفتح : هو ظهور النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين.

(فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ)(٣) : من قصدهم الاستعانة باليهود على المسلمين ، وإضمار العداوة للمسلمين.

(فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(٤) : قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، وقال لهم : قوم هذا ، يعنى أبا موسى الأشعرى. والإشارة بذلك ـ والله أعلم ـ إلى أهل اليمن ؛ لأن الأشعريين من أهل اليمن. وقيل المراد أبو بكر الصدّيق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة. ويقوّى ذلك ما ظهر من أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه من الجد فى قتالهم ، والعزم عليه ، حتى خالف فى ذلك عزم الناس ، فاشتد عزمه ، ووافقوه ، وأجمعوا معه حتى نصرهم الله على أهل الردّة. ويقوّى ذلك أيضا أنّ الصفات التى وصف بها هؤلاء القوم هى فى أوصاف أبى بكر ؛ ألا ترى قوله تعالى (٥) : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ). وكان أبو بكر ضعيفا فى نفسه قويا فى الله ؛ وكذلك قوله (٦) : (يُجاهِدُونَ

__________________

(١) المائدة : ٥٢

(٢) المائدة : ٥٢

(٣) المائدة : ٥٢

(٤) المائدة : ٥٤

(٥) المائدة : ٥٤

(٦) المائدة : ٥٤

٥٥

فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) ؛ إشارة إلى من خالف أبا بكر ولامه فى قتال أهل الردّة ، ولم يرجع عن عزمه.

فإن قيل : أين الراجع من الجزاء إلى الشرط؟

والجواب أنه محذوف ، تقديره : من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم (١).

(فَعَمُوا وَصَمُّوا)(٢) : عبارة عن تماديهم على المخالفة والعصيان.

(فَاجْتَنِبُوهُ)(٣) : نصّ فى التحريم. والضمير يعود على الرّجس (٤) الذى هو خبر عن جميع الأشياء المذكورة.

(فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ)(٥) ؛ أى يقول الله للرسل يوم القيامة : ما ذا أجابكم الأمم من إيمان وكفر ، وطاعة ومعصية. والمقصود بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم ، وإقامة الحجة عليهم. وانتصب ما ذا بأجبتم بانتصاب مصدره. ولو أراد الجواب لقال : ما ذا أجبتم؟

فإن قلت : يفهم من قوله تعالى : فيقول للمرسلين ما ذا أجبتم أنه يخاطبهم هناك ، وكذا الخطاب منه سبحانه حيث وقع ؛ كقوله لعيسى (٦) : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)؟ وقد قلتم إنّ كلامه تعالى قديم ملازم للذّات القديمة ، وقول الرسل : (لا عِلْمَ لَنا) ما معناه؟ لأنهم علموا بمجاوبة قولهم وإنكارهم.

والجواب أنّ الله يسمعهم خطابه حينئذ ، لا أنه يحدثه ؛ لأنه قديم قائم بذات ؛

__________________

(١) قوله : محذوف غير واضح لأن هذا الذى قدره هو نص الآية. وفى الكشاف (١ ـ ٢٦٢) : فسوف يأتى الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم ، أو ما أشبه ذلك.

(٢) المائدة : ٧١

(٣) المائدة : ٩٠

(٤) فى الآية نفسها.

(٥) المائدة : ١٠٩

(٦) المائدة : ١١٦

٥٦

وهكذا نداؤه سبحانه للرسل والأمم يومئذ ، كقوله (١) : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ). والرّسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يذهلوا عن جواب قومهم لهم فى الدنيا ؛ لأنهم آمنون يومئذ ؛ وإنما تأدّبوا مع الله سبحانه لردّ العلم إليه سبحانه. قال ابن عباس رضى الله عنه : المعنى لا علم لنا إلا ما علّمتنا. وقيل معناه علمنا ساقط فى جنب علمك. ويقوّى هذا قولهم (٢) : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ؛ لأن من علم الخفيّات لم تخف عليه الظواهر. وسؤال الله لهم مع علمه توبيخ واحتجاج على المخالفين.

وانظر الصحابة رضى الله عنهم كيف تأدّبوا بهذا الخلق العظيم فى آخر حجّة الوداع لما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أىّ يوم هذا؟ أى شهر هذا؟ أى مكان هذا؟ فأجابوا بقولهم : الله ورسوله أعلم ، مع أنهم علموا الشهر واليوم والمكان ؛ لكنهم تأدّبوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوهموا لعله أن يريد غير هذا.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(٣) : هذه عادة الله سبحانه فى عقاب من طلب من الرسول آية فكفرها ؛ وأصحاب المائدة سألوها من عيسى ، فقال الله : إنى منزّلها عليكم ، فكفروا ، فمسخهم الله قردة وخنازير. قال عبد الله [٢٢٧ ا] بن عمر : أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، والمنافقون.

(فَانْظُروا)(٤) : أمر الله رسوله أن يأمر قريشا بالسير فى الأرض للاعتبار بمنازل الكفار الذين كانوا قبلهم.

__________________

(١) القصص : ٦٥

(٢) المائدة : ١٠٩

(٣) المائدة : ١١٥

(٤) آل عمران : ١٣٧

٥٧

فإن قلت : ما الفرق بين قوله (١) : فانظروا ، ثم (٢) انظروا؟

والجواب أنه جعل النظر مسبّبا عن السير فى قوله : فانظروا ؛ فكأنه قال : سيروا لأجل النظر. وأما قوله (٣) : قل سيروا فى الأرض ثم انظروا ـ فمعناه إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر فى الهالكين.

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)(٤) ، بتشديد الذال بمعنى لا يكذبونك معتقدين لكذبك ، وإنما هم يجحدون الحق مع علمهم به. ومن قرأه بالتخفيف قيل معناه لا يجحدونك كاذبا. يقال : أكذبت فلانا إذا وجدته كاذبا ، كما يقال أحمدته إذا وجدته محمودا. وقيل هى بمعنى التشديد ؛ يقال أكذب فلان فلانا ، وكذّبه بمعنى واحد. وهو الأظهر ؛ لقوله بعد هذا : يجحدون.

ويؤيد هذا ما روى أنها نزلت فى أبى جهل ؛ فإنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لا نكذّبك ، ولكن نكذب ما جئت به ، وإنه قال للأخنس ابن شريق : والله إن محمدا لصادق ، ولكنى أحسده على الشرف.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٥) ؛ أى من الذين يجهلون أنّ الله لو شاء لجمعهم على الهدى. وقد قدمنا أن قول الله : فلا تكوننّ ـ بالتأكيد ـ لرسوله لإفراط محبته فيه ، لأنّ العادة أن يكون الاجتهاد على قدر المحبة ، بخلاف قوله لنوح (٦) : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ؛ لأنه صفىّ ، ولا يبلغ قدر المحب.

(فَرَّطْنا)(٧) ؛ أى ضيّعنا وأغفلنا. والمراد بالكتاب فى الآية اللّوح المحفوظ. والكلام على هذا عامّ. وقيل القرآن ؛ ومعناه أن الله لم يفرط فيه من شىء ؛

__________________

(١) آل عمران : ١٣٧

(٢) الأنعام : ١١

(٣) الأنعام : ١١

(٤) الأنعام : ٣٣

(٥) الأنعام : ٣٥

(٦) هود : ٤٦

(٧) الأنعام : ٣٨

٥٨

فيه هداية الخلق ، والبيان لهم. وقد قدمنا أنّ جميع العلوم الدنيوية والدينية مستنبطة منه.

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا)(١) : فى هذه الآية عرض وتحضيض على التضرع ، ومدح لهم فى رجوعهم إلى الله ، ودليل على أن من أخذه الله بذنوبه فلم يرجع إليه يقسو قلبه ، كما ذكر فى هؤلاء الكذابين.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ)(٢) : أى من الشدائد ، ولم يتّعظوا بها ، فتح عليهم أبواب الرزق والنعم ، ليشكروا عليها فلم يشكروا ؛ فأخذهم الله.

(فَتَطْرُدَهُمْ)(٣) : هذا جواب النفى فى قوله (٤) : ما عليك.

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ)(٥) : استفهم عن المؤمنين والكافرين لعلهم يجيبون ؛ فأجاب عن السؤال بقوله (٦) : (الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية. وقيل إن الذين آمنوا استئناف ، وليس من كلام إبراهيم.

(فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ)(٧) : أى أهل مكة.

(فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ)(٨) : هم الأنبياء المذكورون وقيل الصحابة. وقيل كلّ مؤمن. والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك. ومعنى توكيلهم بها توفيقهم للإيمان بها ، والقيام بحقوقها.

(فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)(٩) : استدل به من قال إنّ شرع من قبلنا شرع لنا. وقد قدمنا أن الاختلاف إنما وقع فى الفروع. والخلاف : هل يقتدى النبى صلى الله

__________________

(١) الأنعام : ٤٣

(٢) الأنعام : ٤٤

(٣) الأنعام : ٥٢

(٤) الأنعام : ٥٢

(٥) الأنعام : ٨١

(٦) الأنعام : ٨٢

(٧) الأنعام : ٨٩

(٨) الأنعام : ٨٩

(٩) الأنعام : ٩٠

٥٩

عليه وسلم فيها بمن قبله أم لا؟ والهاء فى (اقْتَدِهْ) للوقف ؛ فينبغى الوقف عليها ، وتسقط فى الوصل ؛ ولكن من أثبتها فيه راعى ثبوتها فى خط المصحف.

(فَأَخْرَجْنا بِهِ)(١) : أى بالماء. ومنه (٢) : أى من النبات. وذكر الله الإخراج فى كتابه فى خمس آيات : إخراج القدرة ، وهو الصبيان. ((٣) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ). وإخراج النعمة كهذه ؛ وكقوله (٤) : (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ). ((٥) فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) ؛ كالحبّ والعنب. وإخراج العقوبة (٦) : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ). وإخراج الهيبة : ((٧) يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً). وإخراج الكرامات (٨) : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ؛ أى من الكفر إلى الإيمان ، ومن النكرة إلى المعرفة.

فإن قلت : لم جمع الظلمات ، وأفراد النور ، وجمع السموات وأفرد الأرض حيث وقع فى كلامه سبحانه [٢٧٧ ب]؟

والجواب لما شعّب سبحانه الكفر على شعب كثيرة جمعه بهذا الاعتبار ، والنّور واحد أفرده وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكما نشاهد السموات بعلامة الكواكب ، والمنّة لله علينا فيها ، لأن فيها منفعتنا ذكرهنّ بلفظ الجمع ، بخلاف الأرض ، لأنا لا نشاهد غير الأرض التى نحن عليها ، ولا منفعة لنا فى غيرها ، ولو كانت لنا فيها منفعة فالسماوات أعظم لخدمتهن ، والاستدلال بكواكبهن ، وخدمة أهلهن لنا كما قدمنا.

__________________

(١) الأنعام : ٩٩

(٢) الأنعام : ٩٩

(٣) النحل : ٧٨

(٤) البقرة : ٢٢

(٥) طه : ٥٣

(٦) البقرة : ٣٦

(٧) المعارج : ٤٣

(٨) البقرة : ٢٥٧

٦٠