معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٧

فإن قلت : النصب فى إذا معضل ، لأنك لا تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها فتخير فى العطف على عاملين ، وفى نحو مررت أمس بزيد واليوم عمرو ، وإما أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه؟

والجواب فيه : إنّ واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحا كلّيا ، فكان لها شأن حيث أبرز معها الفعل ، وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادّة مسدّهما جميعا ، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو ، فحقيقته : أن تكون عوامل على الفعل والجار جميعا ، كما تقول : ضرب زيد عمرا وبكر خالدا ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذى هو عاملها.

(وَالتِّينِ (١) وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ) : هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة. وقال الزمخشرى : يجوز أن يعرب إعراب الجمع المذكر بالواو والياء ، وأن يلزم الياء ويحرك النون بحركات الأعراب ، وهذه أقسام ؛ أقسم الله بالتين والزيتون وبجبل الطور الذى كلّم عليه موسى. والبلد الأمين ؛ من الأمانة أو الأمن ، لقوله (٢) : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً). وقد استجاب الله دعاءه فجعله آمنا من كل شىء ، لقوله تعالى (٣) : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).

(وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(٤) ؛ أى نقرّب إلى الله بالسجود ، وهذه الآية موضع سجدة عندنا خلافا لمالك.

(وَالْعادِياتِ (٥) ضَبْحاً) : اختلف فى العاديات والموريات والمغيرات ؛

__________________

(١) التين : ١ ، ٢

(٢) البقرة : ١٢٦

(٣) العنكبوت : ٦٧

(٤) العلق : ١٩

(٥) العاديات : ١

٤٤١

هل يراد بها الخيل؟ وعلى هذا فهل هى خيل المجاهدين أقسم الله بها ، أو الخيل على الإطلاق. وعلى القول بأنها الإبل [٢٩٦ ب] اختلف هل هى إبل غزوة بدر ، أو إبل المجاهدين مطلقا ، أو إبل الحاج ، أو الإبل على الإطلاق. ومعنى العاديات التى تعدو فى مشيها.

والضّبح : هو تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ، وهو مصدر منصوب على تقدير : يضبحن ضبحا ، أو هو مصدر فى موضع الحال ، تقديره العاديات فى حال ضبحها. والموريات من قولك : أوريت النار ، إذا أو قدتها. وقد قدمنا أن القدح صكّ الحجارة فيخرج منها شعلة نار ، وذلك عند ضرب الأرض بأرجل الخيل أو الإبل. وإعراب قدحا كإعراب ضبحا.

والمغيرات من قولك : أغارت الخيل إذا خرجت للاغارة على أعدائها.

و (صُبْحاً)(١) : ظرف زمان ، لأن عادة أهل الغارة فى الأكثر أن يخرجوا فى للصباح.

(وسطن (٢) بِهِ جَمْعاً) ؛ أى توسطن. واختلف هل المراد بالجمع جمع الناس ، أو المزدلفة ؛ لأن اسمها جمع. والضمير المجرور للوقت ، أو للمكان ، أو للعدو ، أو للنقع. وقد قدمنا معناه فى حرف النون.

(وَإِنَّهُ (٣) عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) : معطوف على الإنسان ، يعنى هو شهيد على نفسه بكنوده. وقيل : هو الله تعالى ، على معنى التهديد.

والأول أرجح ؛ لأنّ الضمير الذى بعده للانسان باتفاق ، فيجرى الكلام على نسق واحد.

__________________

(١) العاديات : ٣

(٢) العاديات : ٥

(٣) العاديات : ٧

٤٤٢

(وَإِنَّهُ (١) لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) : المعنى إنّ الانسان شديد الحبّ للمال ، فهو ذمّ لحبّه والحضّ عليه. وقيل الشديد البخيل. والمعنى على هذا إنه لبخيل لأجل حبّ المال. والأول أظهر.

(وَحُصِّلَ (٢) ما فِي الصُّدُورِ) ؛ أى جمع فى الصحف وأظهر محصّلا ، أو ميّز خيره من شرّه.

(وَآمَنَهُمْ (٣) مِنْ خَوْفٍ) ؛ أى من خوف أصحاب الفيل ، أو آمنهم فى بلدهم ، أو فى أسفارهم ؛ لأنهم كانوا فى رحلتهم آمنين لا يتعرّض لهم أحد بسوء لبركة البيت ، ويطلب منهم الدعاء لمجاورتهم له ، وكان غيرهم تؤخذ أموالهم وأنفسهم.

وقيل آمنهم من الجذام والطاعون والدجال. قال الزمخشرى (٤) : التفكير فى جوع وخوف لشدتهما ، ولا ترى مجذوما بمكة.

(وُسْعَها)(٥) ، بضم الواو : طاقتها ، وهذا إخبار من الله أنه لا يكلّف النفس إلا طاقتها ؛ ورفع تكليف ما لا يطاق جائز عقلا عند الأشعرية محال عقلا عند المعتزلة ، وانفقوا على أنه لم يقع فى الشريعة.

(والْمُوسِعِ (٦)) : الغنى ؛ أى واسع الحال ، وهو ضد المقتر ، (وَإِنَّا (٧) لَمُوسِعُونَ) : قيل أغنياء ، وقيل قادرون.

(وارى) يوارى ؛ أى ستر. ومنه : ((٨) يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ).

__________________

(١) العاديات : ٨

(٢) العاديات : ١٠

(٣) قريش : ٤

(٤) الكشاف : ٢ ـ ٥٦٢

(٥) البقرة ٢٣٣ ، ٢٨٦

(٦) فى سورة البقرة (٢٣٦) : على الموسع قدره.

(٧) الذاريات : ٤٧

(٨) المائدة : ٣١

٤٤٣

و (ما (١) وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) وتوارى ، أى استتر واستخفى.

(وعى) العلم يعنى حفظة ومنه : (وَتَعِيَها (٢) أُذُنٌ واعِيَةٌ). قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت : اللهم اجعلها أذن علىّ ، فاستجاب الله له ، وجعله الباب لمدينة العلم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أنا مدينة العلم وعلىّ بابها." هذا ما خصّ به من الفضائل ، وقد شهد الله فى كتابه بإبراهيم فى قوله : (وَإِبْراهِيمَ (٣) الَّذِي وَفَّى) ، وقال فيه : (يُوفُونَ (٤) بِالنَّذْرِ) وبالخوف بالملائكة : (يَخافُونَ (٥) رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ).

وقال فيه : (وَيَخافُونَ (٦) يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً). وبالصبر بأيوب : (إِنَّا (٧) وَجَدْناهُ صابِراً) وقال : (وَجَزاهُمْ (٨) بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً). وذكر الله أنه يطعم ولا يطعم ، وقال فيه : (وَيُطْعِمُونَ (٩) الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ). ولما نزلت : (يا أَيُّهَا (١٠) الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال على : كانت لى عشرة دراهم فتصدقت بها ، وسألت النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عشر كلمات ، ولم يعمل بهذه الآية غيرى ، ورفق الله بالأمة. قلت : يا رسول الله ، كيف أدعو؟ قال : بالصدق والوفاء. قلت : ما أسأل الله؟ قال : العافية فى الدارين. قلت : ما أصنع لنجاتى؟ قال : كل حلالا وقل صدقا. قلت : فما الحيلة؟ قال : ترك الحيلة. قلت : فما أمر الله ورسوله؟ قال : الحق. قلت : فما الحقّ؟ قال : الإسلام والقرآن وولاية من انتهى إليك. قلت : فأين الراحة؟ قال : فى الجنة. قلت : فما السرور؟ قال :

__________________

(١) الأعراف : ٢٠

(٢) الحاقة : ١٢

(٣) النجم : ٣٧

(٤) الإنسان : ٧

(٥) النحل : ٥٠

(٦) الانسان : ٧

(٧) ص : ٤٤

(٨) الانسان : ١٢

(٩) الانسان : ٨

(١٠) المجادلة : ١٢

٤٤٤

الرؤية. قلت : فما العبودية؟ قال : إظهار الوفاء. قلت : فما الوفاء؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله.

وأما [٢٩٧ ا] أوعى بالألف يوعى فجمع المال فى وعاء ، ومنه : (وَجَمَعَ (١) فَأَوْعى).

(وُجْدِكُمْ)(٢) ، بضم الواو وفتحها : سعيكم ، والضمّ أكثر وأشهر ، وبكسر الواو لكنه قليل ، ومعناه أسكنوا المرأة مسكنا تقدرون عليه. وإعرابه عطف بيان ، لقوله : (حَيْثُ (٣) سَكَنْتُمْ) وقعت بالواو والألف بمعنى جمعت لوقت ، وهو يوم القيامة.

(وَجْهُ) : قد قدمنا تقسيم الوجه على أوجه ، ووجه الله طلب رضاه ، وقدمنا أنه من المتشابه ، ويراد به الجهة ، ومنه : وجهه (٤) ترضاها ، ولم تحذف الواو لأنه ظرف مكان وقيل إنه مصدر ثبتت فيه الواو على غير قياس.

(وِرْداً)(٥) : مصدر : عطاشا ، لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش.

(وِزْرَ) ، بكسر الواو واسكان الزاى له معنيان : الذنب ، ومنه : (لا تَزِرُ (٦) وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). والحمل الأصل ، ومنه : (أَوْزاراً (٧) مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) ، أى أحمالا.

(وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ)(٨) : الولدان صغار الخدم. وقد قدمنا أن «المخلدون» الذين لا يموتون أو المقلّدون بالخلدات ، وهى ضرب من الأقراط. وقد

__________________

(١) المعارج : ١٨

(٢) الطلاق : ٦

(٣) الطلاق : ٦

(٤) فى سورة البقرة (١٤٤) : قِبْلَةً تَرْضاها.

(٥) مريم : ٨٦

(٦) الأنعام ١٦٤ ، وغيرها.

(٧) طه : ٨٧

(٨) الواقعة : ١٧

٤٤٥

يرد فى الحديث : إن الوالدان يطوفون على أهل الجنة بكأس من معين ، وهو الإناء الواسع الفم الذى ليس له مقبض سواء كان فيه خمر أم لا.

(الواو) : جارة وناصية وغير عاملة :

فالجارة واو القسم ، نحو : (وَاللهِ (١) رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

والناصبة واو «مع» فتنصب المفعول معه فى رأى قوم ، نحو : (فَأَجْمِعُوا (٢) أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ). ولا ثانى له فى القرآن. والمضارع فى جواب النفى أو الطلب عند الكوفيين ، نحو : (وَلَمَّا (٣) يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). (يا لَيْتَنا (٤) نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وواو الصرف عندهم ، ومعناها أنّ الفعل كان يقتضى إعرابا فصرفته عنه إلى النصب ، نحو : (أَتَجْعَلُ (٥) فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)(٦) ـ فى قراءة غير النصب.

وغير العاملة أنواع : واو العطف ، وهى لمطلق الجمع ، فتعطف الشيء على مصاحبه ، نحو : (فَأَنْجَيْناهُ (٧) وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) ، وعلى سابقة ، نحو : (أَرْسَلْنا (٨) نُوحاً وَإِبْراهِيمَ). ولا حقه ، نحو : (يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ).

وتفارق سائر حروف العطف فى اقترانها بإما ، نحو (٩) : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً). وبلا بعد نفى ، نحو (١٠) : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى).

__________________

(١) الأنعام : ٢٣

(٢) يونس : ٧١

(٣) آل عمران : ١٤٢

(٤) الانعام : ٢٧

(٥) البقرة : ٣٠

(٦) العنكبوت : ١٥

(٧) الحديد : ٢٦

(٨) الشورى : ٣

(٩) الانسان : ٣

(١٠) سبأ : ٣٧

٤٤٦

و (لكِنْ) ، نحو (١) : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ). وتعطف العقد على النّيّف ، والخاص على العام ، وعكسه ؛ نحو : (وَمَلائِكَتِهِ (٢) وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ). (رَبِ (٣) اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ).

والشيء على مرادفه ؛ نحو : (صَلَواتٌ (٤) مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). (إِنَّما (٥) أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ). والمجرور على الجوار ؛ نحو (٦) : (بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ).

وقيل : وترد بمعنى أو ، وحمل عليه مالك (٧) : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) الآية. وللتعليل ، وحمل عليه الخوارزمى (٨) الواو الداخلة على الأفعال المنصوبة.

ثانيها : واو الاستئناف ؛ نحو : (ثُمَ (٩) قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ). (وَنُقِرُّ (١٠) فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). (وَاتَّقُوا (١١) اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)(مَنْ (١٢) يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) ـ بالرفع ؛ إذ لو كانت عاطفة لنصب ونقر. ولجزم ما بعده ونصب (أَجَلٌ).

ثالثها : واو الحال الداخلة على الجملة الاسمية ، نحو : (وَنَحْنُ (١٣) نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ). (يَغْشى (١٤) طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ). (لَئِنْ (١٥) أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ).

__________________

(١) الأحزاب : ٤٠

(٢) البقرة : ٩٨

(٣) نوح : ٢٨

(٤) البقرة : ١٥٧

(٥) يوسف : ٨٦

(٦) المائدة : ٦

(٧) التوبة : ٦٠

(٨) فى الاتقان (٢٥٧) : الخارزنجى.

(٩) الأنعام : ٢

(١٠) الحج : ٥

(١١) البقرة : ٢٨٢

(١٢) الأعراف : ١٨٦

(١٣) البقرة : ٣٠

(١٤) آل عمران : ١٥٤

(١٥) يوسف : ١٤

٤٤٧

وزعم الزمخشرى أنها تدخل على الجملة الواقعة صفة ، لتأكيد ثبوت الصفة للموصوف ، ولصوقها به ، كما تدخل على الحالية ، وجعل من ذلك : (وَيَقُولُونَ (١) سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).

رابعها : واو الثمانية ، ذكرها جماعة كالحريرى وابن خالويه والثعلبى ، وزعموا أن العرب إذا عدّوا يدخلون الواو بعد السبعة إيذانا بأنها عدد تام ، وأنّ ما بعده مستأنف ، وجعلوا من ذلك قوله : (سَيَقُولُونَ (٢) ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ، رَجْماً بِالْغَيْبِ ، وَيَقُولُونَ) [٢٩٧ ب] (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). وقوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ (٣) ...) إلى قوله : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ؛ لأنه الوصف الثامن. وقوله (٤) : (مُسْلِماتٍ ...) إلى قوله : (وَأَبْكاراً). والصواب عدم ثبوتها ، وأنها فى الجميع للعطف.

خامسها : الزائدة ، وخرج عليه واحدة فى قوله (٥) : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ).

سادسها : واو ضمير الذكور فى اسم أو فعل ؛ نحو : (الْمُؤْمِنُونَ). (وَإِذا (٦) سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ). (قُلْ (٧) لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ).

سابعها : واو علامة الذكرين فى لغة طىّ ، وخرّج عليه : (وَأَسَرُّوا (٨) النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا). (ثُمَ (٩) عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ).

ثامنها : الواو المبدلة من همزة الاستفهام المضموم ما قبلها ، كقراءة

__________________

(١) الكهف : ٢٢

(٢) الكهف : ٢٢

(٣) التوبة : ١١٢

(٤) التحريم : ٥

(٥) الصافات : ١٠٣ ، ١٥٤

(٦) القصص : ٥٥

(٧) إبراهيم : ٣١

(٨) الأنبياء : ٣

(٩) المائدة : ٧١

٤٤٨

قنبل : «وإليه (١) النّشور وأمنتم». «قال (٢) فرعون وآمنتم به».

(وَيْكَأَنَّ) : قال الكسائى : كلمة تندّم وتعجّب ، وأصله ويلك ، فالكاف ضمير مجرور. وقال الأخفش : وى اسم فعل بمعنى أعجب ، والكاف حرف خطاب ، وأنّ على إضمار اللام : والمعنى أعجب لأن الله. وقال الخليل : وى وحدها ، وكأنّ كلمة مستقلة للتحقيق لا للتشبيه. وقال ابن الأنبارى : يحتمل ويكأنّه ثلاثة أوجه : أن تكون ويك حرفا ، وأنه حرف. والمعنى ألم تر. وأن تكون كذلك ، والمعنى ويلك. وأن تكون وى حرفا للتعجب ، وكأنه حرف ، ووصلا خطّا لكثرة الاستعمال ، كما وصل يبنؤمّ.

(وَيْلٌ) : قال الأصمعى : ويل تقبيح. قال تعالى :

(وَلَكُمُ (٣) الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ). وقد توضع موضع التحسر والتفجيع ، نحو (يا وَيْلَتَنا) (٤). (يا وَيْلَتى (٥) أَعَجَزْتُ). أخرج الحربى فى فوائده من طريق إسماعيل بن عياش ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " ويحك" ، فجزعت منها ، فقال لى : يا حميراء ، إنّ «ويحك» أو «ويسك» ، رحمة ، فلا تجزعى منها ، ولكن اجزعى من (الْوَيْلُ).

__________________

(١) الملك : ١٥

(٢) الأعراف : ١٢٣

(٣) الأنبياء : ١٨

(٤) الكهف : ٤٩

(٥) المائدة : ٣١

٤٤٩

حرف اللام ألف

(لَأَعْنَتَكُمْ)(١) : لضيّق عليكم بالمنع من مخالطتهم. ابن عباس : لا هلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى.

(لا تَنْكِحُوا)(٢) ؛ أى لا تتزوجوا. والنكاح مشترك بين العقد والوطء لأمة ، أى أمة لله ، حرة كانت أو مملوكة. وقبل أمة مملوكة مؤمنة خير من حرة مشركة.

(لَأَوْضَعُوا (٣) خِلالَكُمْ) ؛ أى أسرعوا السير. والإيضاع : سرعة السير. والمعنى أنهم يسرعون بالفساد والنميمة بينكم.

(لَأَحْتَنِكَنَّ)(٤) : معناه لأميلنهم ولأقودنهم. وقيل : لأستأصلهم. يقال احتنك الجراد ، إذا أكله كلّه.

(لاهِيَةً (٥) قُلُوبُهُمْ) : الضمير للكفار ، يعنى أن قلوبهم غافلة مشغولة عن الحق وتذكّره ، لأن القلب إذا اشتغل بشيء لم يكن لشىء آخر فيه محل ؛ لقوله تعالى (٦) : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).

(لا يَسْبِقُونَهُ (٧) بِالْقَوْلِ) : الضمير للملائكة ؛ يعنى أنهم لا يتكلمون بشيء حتى يكلمهم الله تأدّبا معه ، وخوفا من سطوته ، ولا يشفعون لأحد من عباد الله حتى يستأذنوا ؛ فإن أذن لهم شفعوا وإلّا سكتوا.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٠

(٢) النساء : ٢٢

(٣) التوبة : ٤٧

(٤) الإسراء : ٦٢

(٥) الأنبياء : ٣

(٦) الأحزاب : ٤

(٧) الأنبياء : ٢٧

٤٥٠

(لازِبٍ)(١) ولازم : بمعنى واحد ، وهو الممتزج المتماسك الذى يلزم بعضه بعضا ، وأمر الله بهذه الآية سؤال المشركين عن خلق الله الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب : (أَهُمْ (٢) أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) ، ومن لازم جوابهم بأنهم أشدّ خلقا منهم تقوم عليهم به الحجة فى إنكارهم البعث فى الآخرة ، كأنه سبحانه يقول : هذه المخلوقات أشدّ خلقا منكم ، فكما قدرنا على خلقتكم كذلك نقدر على إعادتكم بعد فنائكم ؛ لأنكم أضعف خلقه ، وكيف لا وأنتم من طين لازب!

(لا (٣) هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) : عن هنا سببية ؛ كقوله : فعلته عن أمرك. والنزف : السكر ، يعنى أنّ شارب خمر الآخرة لا يسكر منها ، لأنها حلوة طيبة ، بخلاف خمر الدنيا.

والعجب ممّن يكون فى عقله ويذهبه بشربها ، وأقل ما فيه من الوعيد الحديث : من شرب الخمر فى الدنيا لم يشربها فى الآخرة.

فإن قلت : هل هذا الوعيد يتناول من تاب من شربها أم لا؟

والجواب : أنّ هذا فيمن لم ينب ، وأما التائب فيبدّل الله سيئاته حسنات ، كما قدمنا فى غير ما موضع.

(لا تَسْمَعُ (٤) فِيها لاغِيَةً) : هو من لغو الكلام ، ومعناه الفحش وما يكره ، فيحتمل أن يريد كلمة لا غية ، أو جماعة لاغية.

__________________

(١) الصافات : ١١

(٢) الصافات : ١١

(٣) الصافات : ٤٧

(٤) الغاشية : ١١

٤٥١

(لِإِيلافِ (١) قُرَيْشٍ) لإيلاف : آلفت إيلافا. وقيل هذه اللام موصولة بما قبلها. المعنى : (فَجَعَلَهُمْ (٢) كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) لإيلاف قريش ، وكانت لهم رحلتان فى كل عام [٢٩٨ ا] : رحلة فى الشتاء إلى اليمن ، ورحلة فى الصيف إلى الشام. وقيل : كانت الرحلتان جميعا إلى الشام. وقيل : كانوا يرحلون فى الصيف إلى الطائف حيث الماء والظلّ فيقيمون بها ، ويرحلون فى الشتاء إلى مكة لسكناهم بها. واختلف فى تعلق قوله : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) على أقوال : قيل إنه متعلق بقوله (٣) : (فَلْيَعْبُدُوا) ؛ والمعنى فليعبدوا الله من أجل إيلافهم للرحلتين ؛ فإن ذلك نعمة من الله عليهم. وقيل : إنه يتعلق بمحذوف تقديره : اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل : إنه يتعلق بسورة الفيل. والمعنى إن الله أهلك أصحاب الفيل لإيلاف قريش ؛ فهو يتعلق بقوله : (فَجَعَلَهُمْ)(٤) كما قدمنا. ويؤيّد هذا أنّ السورتين فى مصحف أبىّ بن كعب سورة واحدة لا فصل بينهما ، وقد قرأهما فى ركعة واحدة من المغرب ، وذكر الله الإيلاف أو لا مطلقا ، ثم أبدل منه الإيلاف المقيد بالرحلتين تعظيما للأمر ؛ ونصب (رِحْلَةَ) لأنه مفعول بإيلافهم ، وقال : (رِحْلَةَ) وأراد رحلتين ، فهو كقول الشاعر : كلوا فى بعض بطنكم تعفوا».

وقد قدمنا من هذا الحرف أشياء عند حرف اللام ، والحرف الذى قبل هذا فلا فائدة فى الإعادة.

__________________

(١) قريش : ١

(٢) الفيل : ٥

(٣) قريش : ٣

(٤) الفيل : ٥

٤٥٢

حرف الياء

(يَحْيى) بن زكرياء عليهما‌السلام ، ولد قبل عيسى بستة أشهر ، ونبىء صغيرا ، وهو اصمّ أعجمى ، وقيل عربى. قال الواحدى : وعلى القولين لا ينصرف. قال الكرمانى : وعلى الثانى أنه سمى به لأنه أحياه الله بالإيمان ؛ وقيل لأنه حيى به رحم أمه ، وقيل لأنه استشهد ، والشهداء أحياء ، وسببه أنّ ملك زمانه كان له زوجة ولها بنت من غيره ، فأرادت المرأة تزويجها منه غيرة وخوفا من تزويج غيرها ، فزينتها وعرضتها عليه ، وقالت له : أتريد أحسن منها؟ فقال لها : لا أحبّ غيرها. فاتخذت وليمة ، ودعت إليها يحيى ، وعرضت عليه الأمر ، فقال : معاذ الله من ذلك ، فسقت زوجها الخمر ، وقالت : أما علمت أنّ يحيى يأبى من زواجك لهذه الشابة ، فدعا به وقتله بين يديها ، فبكت الملائكة فى السموات ، وقالت : إلهى ، بأىّ ذنب قتلوا يحيى؟ فقال تعالى : لم يذنب ، ولم يهمّ بذنب ، ولكن أحبّنى فأحببته ، ولا بد فى الحب من القتل ، وسلّط الله على قاتله بخت نصر فقتله ، وأخرب ملكه ، وسبى حريمه ، وملك رعيته.

فاسمع يا مدّعى الحب ، أما علمت أن المحبة أولها فكرية وآخرها بليّة ، وإذا كان الحبّ بين الخلق يذهب النفوس فكيف بمحبة الله! ولذلك قال تعالى : (وَالَّذِينَ (١) آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ). ولذلك قال الجنيد : كم تقتل من الأحباب؟ وكم تريق من دم الأصحاب؟ فسمع هاتفا يقول : أقتل النفس ،

__________________

(١) البقرة : ١٦٥

٤٥٣

وأعطى ديتها. فقال : يا رب ، ما ديتها؟ فقال : دية مقتول الخلق الدنيا ودية مقتول الحق رؤية الجبّار.

(يُوسُفُ) بن يعقوب بن إبراهيم خليل الرحمن ، ألقى فى الجب وهو ابن ثنتى عشرة سنة ، ولقى أباه بعد الثمانين ، وتوفى وله مائة وعشرون سنة. وفى الصحيح أنه أعطى شطر الحسن ؛ قال بعضهم : وهو من المرسلين ، لقول موسى : (وَلَقَدْ (١) جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ). وقيل : ليس هو يوسف ابن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب.

ويشبه هذا ما فى العجائب للكرمانى فى قوله ((٢) وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) إن الجمهور على أنه يعقوب بن ماثان ، وإن امرأة زكرياء كانت أخت مريم بنت عمران ؛ قال : والقول بأنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم غريب وما ذكره أنه غريب هو المشهور ، والغريب الأول ؛ ونظيره فى الغرابة قول نوف البكاليّ إن موسى المذكور فى سورة الكهف فى قصة الخضر ليس هو موسى بنى إسرائيل بل موسى بن منشا بن يوسف. وقيل ابن إفراثيم بن يوسف ، وقد كذّبه ابن عباس فى ذلك. وأشدّ من ذلك غرابة ما حكاه النقّاش والماوردى أن يوسف المذكور فى سورة غافر من الجن ، بعثه الله رسولا إليهم ، وما حكاه ابن عسكر إن عمران المذكور فى آل عمران هو ولد موسى لا والد مريم. وفى يوسف من اللغات تثليث السين مع الياء والهمزة [وبتركه](٣) ، [٢٩٨ ب] والصواب أنه أعجمى لا اشتقاق له.

فإن قلت : أين يوسف من فرعون فى مخاطبة موسى له؟

__________________

(١) غافر : ٣٤

(٢) مريم : ٦

(٣) تهذب الأسماء واللغات : ١ ـ ١٦٧

٤٥٤

والجواب : ما قدمناه لك من أنّ ملك مصر يسمى فرعون ، وإنكارهم لبعث الرسالة لا يدلّ على أنهم مؤمنون برسالة يوسف ، وإنما مرادهم أن يأتى أحد يدّعى الرسالة بعد يوسف ؛ قاله ابن عطية. وقال الزمخشرى : إنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته.

(يونس) بن متّى ، بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور. ووقع فى تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمّه. قال ابن حجر : وهو مردود بما فى حديث ابن عباس فى الصحيح ، ونسبه إلى أبيه ؛ قال : فهد أصحّ. قال : ولم أقف فى شىء من الأخبار على اتصال نسبه ، وقد قيل : إنه كان فى زمان ملوك الطوائف من الفرس ، فبعثه الله إلى أحدهم فأعرضوا عنه ، ووعدهم بالعذاب ، فخاف منهم وهرب فالتقمه الحوت كما قدمنا أنه مكث فى جوفه أربعين يوما. وقيل التقمه ضحى ولفظه عشيّة. وفى يونس ست لغات : تثليث النون مع الياء (١) والهمزة ، والقراءة المشهورة بضم الياء مع النون قال أبو حيان : وقرأ طلحة ابن مصرّف بكسر يونس ويوسف ، أراد أن يجعلهما عربيين مشتقين من أنس وأسف وهو شاذّ.

(يَسُومُونَكُمْ (٢) سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ ...) الآية : قد قدمنا أنّ الخطاب لبنى إسرائيل قبل هذا الحرف.

فإن قلت : أى فائدة لخطاب المعاصرين بهذا؟ وتعبيره فى سورة الأعراف (٣) بالقتل؟

والجواب : لأنهم من ذرّيتهم وعلى دينهم ومتّبعون لهم ، وهم راضون

__________________

(١) فى الاتقان : مع الواو.

(٢) البقرة : ٤٩

(٣) الأعراف (١٤١) : يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ...

٤٥٥

بذلك ؛ فعدّد عليهم بما منّ على آبائهم وهم عالمون بذلك. وورد فى آية البقرة مضعّفا ؛ لأن المقصود فيها كما قدمنا تعديد وجوه الإنعام عليهم ، وبيان المنّة ، ومقابلتهم لهذه النعمة بالكفر من الأمر الشنيع ، ألا ترى أنه لما ذكر دعوة الناس عموما ، وذكر مبدأهم دعا بنى إسرائيل خصوصا. وأيضا لما كان الذبح منبئ عن القتل وصفته ، ولا يفهم من الفتل غير إعدام الحياة بتناول من غير المقتول فى الغالب عبّر هنا بما يوفى المقصود من الإخبار بالقتل وصفته ، مع إحراز الإيجاز ؛ إذ لو ذكر القتل وأتبع بالصفة لما كان إيجازا ، فعدل إلى ما يحصل منه المقصود مع إيجاز ، فقال يذبّحون. وعبّر فى سورة الأعراف بالقتل ؛ لأنه أوجز من لفظ يذبحون ، لأجل التضعيف ؛ إذ لفظ يذبحون أثقل لتضعيفه. وقد حصلت صفة الفعل فى سورة البقرة.

(يَهْبِطُ (١) مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) : صفة للحجر ، وذلك أنّ الله تعالى جعل خوفه فى المتحرك والساكن ، فكلّ حجر يرمى من علو إلى سفل فمن حشية الله ، ومنهم من (٢) يتفجّر منه الأنهار ؛ كما قال تعالى ، هذا مع أنهم غير مخاطبين ولا مكلفين ؛ وأنت يا محمدىّ مكلّف مخاطب ، وقد قسا قلبك ؛ فهل هذا إلا من مخالفة أمر ربك ؛ تلين الأحجار ، ولا تلين القلوب! وأعظم من ذلك عدم الانكسار والخشوع! لو تليت هذه الآيات على الجماد لماد ، كما قال تعالى : (لَوْ (٣) أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). فلا حيلة لنا يا ربّ إلا إلقاء نفوسنا بين يديك ، والتفويض لما أردت بنا ، وإلّا

__________________

(١) البقرة : ٧٤

(٢) فى البقرة (٧٤) : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ..

(٣) الحشر : ٢١

٤٥٦

الصبر لنا على عذابك ، وكيف يصبر الجسم الضعيف على العذاب المقيم ، فصبّرنا إن قضيت علينا ، واجعلنا كالإسرائيلى الذى عبدك سبعمائة سنة ، فأوحيت إلى نبىء ذلك الزمان : قل لعبدى فلان تعبّد ما شئت ، فأنت من أهل النار. فلما بلغه وحيك قال : مرحبا بحكم ربى! ثم قال : إلهى ، عبدتك ، وأنا لا أظنّ أنى لا أزن عندك قليلا ولا كثيرا ، فإذا أنا أصلح لنارك ، وعزّتك ما زادنى هذا إلا حبّا وتلهّفا فيك ؛ فأوحى الله إلى دانيال عليه‌السلام : قل لعبدى المستحق لولائى بالصبر والرضا : رضيت عنى بأصعب حكم وقضاء ، وعزّتى وجلالى لو ملأت ذنوبك الأرض والسماء لغفرتها لك ، ولا أبالى. وأنت تعلم غربتى وذلّتى وشدة محنتى بذنوب اقترفتها وعظائم ارتكبتها ، وأنت تعلم أنه ليس لى من يتفقّدنى عند الموقف بين يديك غير رحمتك الواسعة التى أخبرتنا بها [٢٩٩ ا] ، فقيّض لى من يشفع عندك ، أقسم عليك بجاه نبيّك الكريم ، واسمك العظيم ، وعمدتنا على لسان نبيك أنه أعدّ شفاعته لكبائر أمته ، فأذن له فينا ، ولا تخيّبنا من فضلك العظيم وإحسانك العميم ، وأسألك أن تصلّى على نبيك الكريم ، وترضى عن أصحابه وذى الفضل والتكريم.

(يَسْتَفْتِحُونَ)(١) : يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم ؛ فالسّين على هذا للطلب ، يعنى أنهم كانوا يقولون : اللهم انصرنا بالنبىّ المبعوث فى آخر الزمان ؛ ويقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظلّ زمان نبىّ يخرج نقاتلكم معه قتل عاد وإرم. وقيل يستفتحون أى يعرفون الناس بالنبى صلى الله

__________________

(١) البقرة : ٨٩

٤٥٧

عليه وسلم ، فالسين على هذا للمبالغة ، كالسين فى استعجب واستسخر ، وعلى كلّ قول فبغضهم واجب وقتلهم جائز لجحدهم ما عرفوا فى كتبهم ؛ ولذلك قال الله فيهم : (فَلَعْنَةُ (١) اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

(يَتَمَنَّوْهُ (٢) أَبَداً) : الضمير يعود على الموت ، وذلك أنّ الله أمرهم أن يتمنّوا الموت إن كانوا صادقين فى قولهم على وجه التعجيز والتبكيت ؛ لأنّ من علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها ، ولو تمنّوه لماتوا من ساعتهم ؛ ولمّا علموا ذلك لم يتمنوه لذنوبهم ، لأنهم أرادوا الحياة الدنيوية.

فإن قلت : لم عبّر فى آية البقرة بلن بخلاف الجمعة (٣)؟

والجواب : أنه لما كان الشّرط فيها (٤) مستقبلا ، وهو قوله تعالى :

(وإِنْ (٥) كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً ...) الآية ـ جاء جوابه بأن التى تخلّص الفعل للاستقبال. ولما كان الشرط فى الجمعة حالا ، وهو قوله (٦) : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) جاء جوابه بلا التى تدخل على الحال ، وقد تدخل على المستقبل.

فإن قلت : ما النافية أخصّ بالحال فهى أنسب؟

قلت : قد يفهم من «ما» نفى مجرد الحال دون ما يتصل به ، فقد يقول القائل : ما يقوم زيد ـ يريد ما يقوم اليوم ، ولا يريد أنه ما يقوم غدا ، وما صالحة لهذا المعنى ، وهم إنما أرادوا أنهم أولياء مستمرون على ذلك ، وأنّ تلك صفتهم على

__________________

(١) البقرة : ٨٩

(٢) البقرة : ٩٥

(٣) الجمعة (٧) : ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم.

(٤) أى فى البقرة : ٩٤

(٥) أى فى البقرة : ٩٤

(٦) الجمعة : ٦

٤٥٨

الحال وما يليه إلى آخر حياتهم ؛ إذ ذاك هو الموجب أن تكون لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس كما زعموا ، فلما كان زعمهم هذا ناسبه نفى دعواهم وتكذيب زعمهم بحرف نص فى نفى ذلك ، وأنه لا يقع منهم التمنى فى حالهم ولا فيما بعده أبدا.

فإن قلت : إن قوله : (أَبَداً) قد أحرز هذا؟

قلت : تأكيد ذلك أبلغ ، فنفى بلا وأكّد بالتوكيد. فجاء على أعلى البلاغة.

(يَتْلُونَ (١) الْكِتابَ) ؛ أى يقرءونه ، والضمير عائد على اليهود والنصارى ، وهذا تقبيح لقولهم وذمّهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما جاء به ، مع تلاوتهم كتابهم.

(يَلْعَنُهُمُ (٢) اللَّاعِنُونَ) : قد قدمنا أنهم جميع من تقع منه اللعنة ، وإذا تلاعن اثنان ، وكان أحدهما غير مستحق للعن رجعت اللعنة على المستحق لها ، فإن لم يستحقها أحد منهما رجعت على اليهود.

(يَنْعِقُ)(٣) ؛ أى يصيح بالغنم فلا تدرى ما يقول لها إلا أنها تنزجر بالصوت ، وشبّه الله الكفار بالبهائم فى قلّة فهمهم وعدم استجابتهم لمن يدعوهم ، أو يكون تشبيها للكفار فى دعائهم وعبادتهم لأصنامهم بمن ينعق بما لا يسمع ؛ لأن الأصنام لا تسمع شيئا ؛ وفيه تفصيل قدمنا ذكره.

(يَطْهُرْنَ)(٤) : من الدم ، ويتطهّرن بالماء ، وقرى حتى يطهرن

__________________

(١) البقرة : ١١٣

(٢) البقرة : ١٥٩

(٣) البقرة : ١٧١

(٤) البقرة : ٢٢٢

٤٥٩

بالتشديد ، وهو حجة لمالك.

(يَتَسَنَّهْ)(١) ومعناه يتغير ، واللفظ يحتمل أن يكون مشتقا من السنة ، لأن لامها هاء فتكون الهاء فى «تسنه» أصلية ؛ أى لم تغيره الممنون. ويحتمل أن يكون مشتقّا من قولك : تسنّن الشيء إذا فسد ، ومنه الحمأ المسنون ، ثم قلبت النون حرف علة ، كقولهم : قصّيت أظفارى ، ثم حذف حرف العلة للجزم ؛ والهاء على هذا هاء السكت.

وقيل إن طعامه كان تينا وعنبا ، وإن شرابه كان عصيرا ولبنا ، فأراه الله أعجوبة فى بقائه هذه المدة الطويلة على حالته.

(يَؤُدُهُ)(٢) : يثقله ؛ من قولهم : ما آدك فهو بموئد ؛ أى ما أثقلك فهو لى مثقل.

(يَمْحَقُ (٣) اللهُ الرِّبا) ؛ أى يذهبه فى الدنيا بضياعه ، وفى الآخرة بالعقوبة. وقد قدمنا أنّ عقوبته فى الآخرة بقيامه من القبر كالمجنون يعرفه أهل المحشر بتلك العلامة ؛ وأىّ عقوبة أكبر من هذا. وحكى القاضى عياض فى مداركه : أنّ ترك ربع دانق ممّا حرم الله أفضل من سبعين ألف حجة ، وأفضل من سبعين ألف غزوة ، وسبعين ألف بدنة مقلّدة أهديت إلى بيت الله الحرام ؛ قال : فبلغ ذلك عبد الجبار ، فقال : نعم ، وأفضل من ملء الأرض إلى عنان السماء ذهبا وفضة اكتسبن من حلال وأنفقن فى سبيل الله ، ترك ربع دانق مما حرم أفضل من ذلك كله.

__________________

(١) البقرة : ٢٥٩

(٢) البقرة : ٢٥٥

(٣) البقرة : ٢٧٦

٤٦٠