معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٧

فالجواب أنه أراد جنس مطلعها كلّ يوم وليلة. وهى كثيرة ؛ قاله [١٣٨ ا] الزمخشرى وقال الغزنوى : أراد الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة ؛ وعبّر عنها بضمير الجماعة العقلاء فى قوله : يسبحون ، لأنه وصفهم بفعل العقلاء ، وهو السبح.

فإن قلت : كيف قال فى ملك وهى أفلاك كثيرة؟

والجواب أنه أراد كلّ واحد يسبح فى فلك ، وذلك كقولك : كساهم الأمير حلة ، أى كسى كلّ واحد منهم حلّة.

ومعنى الفلك جسم مستدير. وقال بعض المفسرين : إنه مذموم ، وذلك بعيد. ومعنى يسبحون ؛ أى يجرون أو يدورون ، وهو مستعار من السبح بمعنى العوم فى الماء. وقد قدمنا أن مجارى القمر ثمانية وعشرون ؛ لأنه يقطع الفلك فى شهر ، ومجارى الشمس مائة وثمانون لأنها تقطع الفلك فى سنة. ووجهه أنّ السنة ثلاثمائة وستون يوما ونصفها مائة وثمانون فهى تقطع فى نصف السنة ستة بروج ، ثم ترجع صاعدة أو هابطة فتمشى فى نظائر تلك البروج ، فما مجاريها فى الحقيقة إلا ستة بروج ، فسبحان من دبّر الأشياء كيف شاء وأتقنها بحكمته ، فلا يعلم أحد بحقيقتها إلا من اطّلع عليها.

(وَكُنَّا (١) لَهُمْ حافِظِينَ) ؛ أى حفظنا أمر سليمان وما صنع من الفساد. وقيل معناه : عالمين بعددهم.

(وَكَذلِكَ (٢) نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ؛ أى مطلقا من همومهم ، أى إذا دعوا بدعاء يونس : لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين. وقد قدمنا فى

__________________

(١) الأنبياء : ٨٢

(٢) الأنبياء : ٨٨

٤٠١

قصة الحديث : «دعوة أخى ذا النون ما دعا بها مكروب إلا استجيب له ومن دعا بها فى مرضه أربعين مرة فمات غفر له».

(وَالَّتِي (١) أَحْصَنَتْ فَرْجَها) : ضمير التأنيث يعود على الصديقة المطهرة ، لقولها : لم يمسسنى بشر ، فأحصنته عن الحلال والحرام ، حتى أراد الله فيها ما أراد ، وقد قدمنا قصتها.

(وَحَرامٌ (٢) عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) : قرئ بكسر الحاء (٣) بمعنى حرم. واختلف فى معنى الآية ؛ فقيل حرام بمعنى ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا ، ولا زائدة فى الوجهين. وقيل حرام بمعنى حتم لا محالة ، ويتصور فيه الوجهان ، وتكون لا نافية فيهما ؛ أى حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتّوبة ، أو حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا. وقيل المعنى ممتنع على قرية أهلكها الله أنهم لا يرجعون إليه فى الآخرة ، (ولا) على هذا نافية أيضا ؛ ففيه ردّ على من أنكر البعث.

(وَلَقَدْ (٤) كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) : فيه قولان : أحدهما أنه كتاب داود ، والذّكر هنا التوراة التى أنزل الله على موسى ، أو ما فى الزبور من حكم الله تعالى. والقول الآخر أنّ الزبور جنس الكتب التى أنزلها الله على جميع الأنبياء ؛ وذلك خمسين صحيفة على شيث ، وثلاثين لإدريس ، وعشرين لإبراهيم ، والتوراة لموسى ، والزبور لداود ، والإنجيل لعيسى ، والفرقان لمحمد صلوات الله عليهم أجمعين. والذكر على هذا اللوح المحفوظ ؛ أى كتب الله هذا فى الكتاب الذى أفرد له بعد ما كتبه فى اللوح المحفوظ ، حين كتب

__________________

(١) الأنبياء : ٩١

(٢) الأنبياء : ٩٥

(٣) أى وسكون الراء كما فى القرطبى (١١ ـ ٣٤٠)

(٤) الانبياء : ١٠٥

٤٠٢

الأمور كلها. والأول أرجح ؛ لأن إطلاق الزبور على كتاب واحد أظهر وأكثر استعمالا ، ولأن الزّبور مفرد فدلالته على الواحد أرجح من دلالته على الجمع ، ولأن النصّ قد ورد فى زبور داود بأنّ الأرض يرثها الصالحون ، والأرض على الإطلاق فى مشارق الأرض ومغاربها. وقيل الأرض المقدسة. وقيل أرض الجنة : والأول أظهر.

والعباد الصالحون فى الآية أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ففي الآية ثناء عليهم ، وإخبار بظهور غيب مصداقه فى الوجود ؛ إذ فتح الله لهذه الأمّة مشارق الأرض ومغاربها.

(وَأَنَ (١) اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) : قال ابن عطية : أنّ فى موضع خبر الابتداء ، والتقدير الأمر أنّ الله ، وهذا ضعيف ، لأن فيه تكلف إضمار وقطعا للكلام عن المعنى الذى قبله. وقال الزمخشرى : التقدير أن الله يهدى من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات ، فجعل أن تعليلا للانزال ، وهذا ضعيف للفصل بينهما بالواو ، والصحيح عندى [٢٨٩ ب] أنّ قوله : وأن الله معطوف على آيات بينات ، لأنه مقدر بالمصدر ، فالتقدير أنزلناه آيات بينات ، وهذا لمن أراد الله أن يهديه.

(وَكَثِيرٌ (٢) مِنَ النَّاسِ) : إن جعلنا سجود من فى السموات والأرض بمعنى الانقياد للطاعة فيكون (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) معطوف على ما قبله من الأشياء التى تسجد ، ويكون قوله : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) مستأنف يراد به الانقياد للطاعة ، ويوقف على قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ؛ وهذا القول

__________________

(١) الحج : ١٦

(٢) الحج : ١٨

٤٠٣

هو الصحيح. وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره فلا يصحّ تفصيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد ، لأنّ جميعهم يسجد بذلك المعنى ، وقيل : إن قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) معطوف على ما قبله ، ثم عطف عليه (كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ، فالجميع على هذا يسجد ، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله : حقّ عليه العذاب يقتضى ظاهره أنه إنما حقّ عليه العذاب بتركه السجود. وتأوّله الزمخشرى على هذا المعنى بأن إعراب كثير من الناس فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد له كثير من الناس سجود طاعة ، أو مرفوعا بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب ، وهذا تكلّف بعيد.

(وَذُوقُوا)(١) : التقدير يقال لهم : ذوقوا.

(وَلُؤْلُؤاً)(٢) ـ بالنصب ـ مفعول بفعل مضمر ، أى يحلّون لؤلؤا أو معطوف على موضع من أساور ؛ إذ هو مفعول ، وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب.

(وَأَذِّنْ (٣) فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) : خطاب لإبراهيم. وقيل لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول أصح لوروده فى الصحيح أنه لما بنى البيت أمره أن ينادى الناس ، فقال : يا رب ، وأين يبلغ أذانى؟ فقال : يا إبراهيم ، منك الأذان وعلينا الإبلاغ ، فصعد على جبل أبى قبيس ، ونادى : أيها الناس ، إنّ الله أمركم بحج هذا البيت ، فحجّوا ، فسمعه كلّ من يحج إلى يوم القيامة ، وهم فى أصلاب آبائهم ؛ وأجاب فى ذلك الوقت كل شىء من جماد أو غيره : لبّيك اللهم لبّيك ، فجرت التلبية على ذلك. وقيل : من لبى مرة حجّ مرة ، ومن لبّى غير ذلك حجّ على عدد التلبية.

__________________

(١) الحج : ٢٢

(٢) الحج : ٢٣

(٣) الحج : ٢٧

٤٠٤

(وَجَبَتْ (١) جُنُوبُها) ؛ أى سقطت إلى الأرض عند موتها ، يقال وجب الحائط وغيره إذا سقط. وقد قدمنا أنّ هذه اللفظة تطلق على معان كثيرة.

(وَإِنْ (٢) يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) : بيّن الله فى هذه الآية عجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئا لم يقدروا على استنقاذه حال ضعفه. وقد صحّ أنهم كانوا يجعلون على أصنامهم الطيب وغيره من ألوان الأطعمة ، فيأتى الذباب فيخطفه ، ولا يقدرون على خلاصه منه ، وهو أقلّ الخلق.

وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله فى تجهيل قريش وركاكة عقولهم ، وكيف لا وقد وصفوا آلهتهم بالقدرة والعلم ، ولا يقدرون على هذا الخلق الضعيف ، ولا ينتبهون لعمايتهم وضلالهم ، فهم أضلّ من البهائم ؛ ولذا ورد الحديث : إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليلقه فإنّ فى أحد جناحيه داء وفى الآخر شفاء ، وإنه يتّقى بجناحه الذى فيه الداء.

فإن قلت : كيف يجتمع الداء والشفاء فى جناحى الدبابة؟ وكيف تعلم ذلك فى نفسها حتى تقدّم جناح الداء وتؤخّر جناح الشفاء؟ وما حملها على ذلك؟

والجواب : أن هذا غير منكر ، لأنا نجد فى أنفسنا وفى أنفس عامّة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، وهى أشياء متضادّة إذا تلاقت تفاسدت ، ثم إن الله تعالى قد ألّف بينها وقهرها على الاجتماع ،

__________________

(١) الحج : ٣٦

(٢) الحج : ٧٣

٤٠٥

وجعل منها قوى الحيوان التى فيها بقاؤها وصلاحها لجدير ألّا يذكر اجتماع الداء والشفاء فى جزءين من حيوان واحد ، وإن الذى ألهم النحلة لاتخاذ البيت العجيب الصنعة ، وألهم الذرة (١) أن تدّخر قوتها ، وتدخره لأوان حاجتها إليه هو الذى خلق الذّبابة وجعل لها الهداية إلى أن تؤخّر جناحا وتقدّم جناحا لما أراد من الابتلاء الذى هو مدرجة التعبّد ، والامتحان الذى هو مضمار التكليف ، وله فى كل شىء حكمة وعنوان. وما يتذكّر إلا أولو الألباب.

وقد تأملت الذباب فوجدته يتقى بجناحه الأيسر ، وهو مناسب للداء ، كما أنّ الأيمن موافق للدواء ، واستفيد من الحديث إنه إذا [٢٩٠ ا] وقع فى المائع أنه يموت فيه ولا يتنجس ، وفى ذلك يخرج أنّ ما يعم وقوعه كالذباب والبعوض لا ينجس ، وما لا يعمّ كالخنافس والعقارب تنجس ، وهو متّجه لا محيد عنه.

(وَحُرِّمَ (٢) ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ؛ أى حرم الزنى. وقيل حرم تزوّج الزانية لغير الزانى ، فإن قوما منعوا أن يتزوجها أحد ، وهذا على القول الثانى فى الآية قبلها ، وهو بعيد لجواز تزوّج الزانية. وروى كراهة تزوجها.

(وَأَنْكِحُوا (٣) الْأَيامى مِنْكُمْ) : معناه الذين لا أزواج لهم رجالا كانوا أو نساء أبكارا أو ثيبا. والخطاب هنا للاولياء والحكّام ؛ أمرهم الله بتزويج الأيامى ، فاقتضى ذلك النهى عن عضلهن من التزويج. وفى الآية دليل على

__________________

(١) الذرة : النملة.

(٢) النور : ٣

(٣) النور : ٣٢

٤٠٦

عدم استقلال النساء بالنكاح ، واشتراط الولاية فيه ، وهو مذهب الشافعى ومالك خلافا لأبى حنيفة.

(وَالصَّالِحِينَ (١) مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) : يعنى الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم ، والمخاطبون هنا ساداتهم. ومذهب الشافعى أنّ السيد يجبر على تزويج عبيده لهذه الآية خلافا لمالك. ومذهب مالك أنّ السيد يجبر أمته وعبده على النكاح خلافا للشافعى.

(وَأَعانَهُ (٢) عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ؛ هذا من قول الكفار ، ويعنون قوما من العبيد منهم عدّاس ويسار وأبو فكيهة الرومى.

(وَعْداً (٣) مَسْؤُلاً) ؛ أى سأله المؤمنون أو الملائكة فى قولهم : وأدخلهم جنات عدن. وقيل معنى وعدا واجب الوقوع لأنه قد حتمه.

(وَلكِنْ (٤) مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) : معناه متعتهم بالنعم فى الدنيا ، وكان سبب نسيانهم لذكر الله وعبادته.

(وَيَوْمَ (٥) يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) : المراد بالظالم هنا عقبة بن معيط ، لأنه جنح إلى الإسلام ، فنهاه أبىّ بن خلف. والآية تعمّ كلّ ظالم سواء كان كافرا أو مؤمنا ظالما ، إذ كلّ عاص يعضّ على أنامله من الندم ، وإذا كان المطيع يتحسّر على ما فاته من زيادة الطاعة ، فما بالك بالعاصى.

(وَكانَ (٦) الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) : يحتمل أن يكون هذا من قول

__________________

(١) النور : ٣٢

(٢) الفرقان : ٤

(٣) الفرقان : ١٦

(٤) الفرقان : ١٨

(٥) الفرقان : ٢٧

(٦) الفرقان : ٢٩

٤٠٧

الظالم ، أو ابتداء إخبار ، من قول الله تعالى. ويحتمل أن يكون الشيطان إبليس ، أو الخليل المذكور.

(وَقالَ (١) الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) : يحتمل أن يكون قال هذا فى الدنيا أو فى الآخرة أو مجموعهما.

(وَكَذلِكَ (٢) جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) : العدوّ هنا جمع ، والمراد تسلية النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتأسّى بغيره من الأنبياء.

(وَقُرُوناً (٣) بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) : يقتضى التكثير والإبهام ، والإشارة بذلك إلى أصحاب الرسّ وثمود وغيرهم.

(وَجَعَلَ (٤) بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) : قد قدمنا فى حرف الباء والحاء أنّ معناه الحاجز ، وضمير التثنية يعود على البحرين ، لا يختلط أحدهما بالآخر ، وأغرب منه وجود اللبن من بين فرث ودم ، ووجود الشهد والسم فى النحل ، فالسمّ سبب هلاك الأحياء ، والشّهد سبب شفاء المرضى ، وجعل بينهما حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر ، وكذلك جعل فى المؤمن النفس والقلب ، فالنّفس تميل إلى الدنيا ، والقلب يميل إلى العقبى ، فأعطى له الدين مع الدنيا ، وجعل بينهما حاجزا ، فلا تضر الدنيا مع الدين بفضله وكرمه.

(وَتَوَكَّلْ (٥) عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) ؛ لأنّ ما سواه يموت ، والاعتزاز بمن يموت لا يبقى ؛ فكيف يعتزّ مخلوق بعد هذه الآية بمخلوق مثله ، أفّ لقالب بلا قلب! لقد عميت بصيرتنا ، وأظلمت سريرتنا فظهرنا

__________________

(١) الفرقان : ٣٠

(٢) الفرقان : ٣١

(٣) الفرقان : ٣٨

(٤) الفرقان : ٥٣

(٥) الفرقان : ٥٨

٤٠٨

بالصلاح والتوكل للمخلوقين ، وقلبنا خلىّ عن رب العالمين.

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا (١) أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) : هذا وعيد لمن ظلم أحدا من خلق الله. وعمل ينقلبون فى أى. وقيل إن العامل فى (أَيَّ) سيعلم.

(وَسُبْحانَ (٢) اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : نزّه الله نفسه مما عسى يكون ببال السامع فى معنى النداء ، وفى قوله (٣) : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) ؛ إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه الله عنه.

(وَأُوتِينا (٤) مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : عموم معناه الخصوص. وقد قدمنا أن المراد بقول سليمان هذا التكثير ؛ كقولك : فلان يقصده كلّ أحد. ويحتمل أن يريد نفسه وأباه ، أو نفسه [٢٩٠ ب] خاصة على وجه التعظيم ؛ لأنه كان ملكا.

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ (٥) جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ...) الآية : اعتبر بما أعطى الله سليمان من الجند ، واختلف فى عسكره اختلافا كثيرا ؛ فقيل كان مائة فرسخ فى مائة : خمسة وعشرون للانس ؛ وخمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجنّ فسطاطا من ذهب وإبريسم فرسخ فى فرسخ ، وكان يوضع منبره فى وسطه ، وهو من ذهب ، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسى من ذهب وفضة ، فيقعد الإنس والجن على الكراسى وحولهم الناس ، وتظلّهم الطير بأجنحتها ، وترفع

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧

(٢) النمل : ٨

(٣) النمل : ٨

(٤) النمل : ١٦

(٥) النمل : ١٧

٤٠٩

ريح الصبا البساط ، فتسير مسيرة شهر.

ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرّخاء تسيّره ، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إنى قد زدت فى ملكك ، لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح فى سمعك. فيحكى أنه مرّ بحرّاث ، فقال : لقد أوتى آل داود ملكا عظيما ، فألقى الريح فى أذنه ، فنزل ومشى إلى الحرّاث ، وقال : إنما مشيت إليك ليلا ؛ تتمنّى ما لا تقدر عليه! ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتى آل داود.

وروى أنه سمع قول النملة من ثلاثة فراسخ ، وكان يفهم كلام الطيور ومعانيها وأغراضها ، وهذا نحو ما كان نبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام.

ويحكى أن سليمان مرّ على طائر فى شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول؟ قالوا : الله ونبيه أعلم. قال : يقول أكلت نصف تمرة ، فعلى الدنيا العفاء.

فإن قلت : الظاهر من قول نبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى خبر العفريت الذى عرض له فى صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه فى سارية من سوارى المسجد ، فقال : ذكرت قول أخى سليمان : (رَبِ (١) اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ؛ فأرسلته ، إنه لم يبلغ هذا الملك.

فالجواب أن لفظة ينبغى إنما هى لفظة محتملة ليست بقطع فى أنه لا يعطى

__________________

(١) ص : ٣٥

٤١٠

الله عزوجل نحو ذلك الملك لأحد ؛ ونبيّنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو ربط الجنى لم يكن ذلك نقصا لما أوتيه سليمان عليه‌السلام ، لكن لما كان فيه بعض الشبهة تركه جريا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اختياره أبدا أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع ؛ ألا ترى لما عرض عليه أن يكون نبيئا عبدا أو نبيئا ملكا فاختار العبودية ، وقال : إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ؛ فعوّضه الله بتواضعه الشفاعة العظمى ، والوسيلة التى لا ينالها غيره. وهذا مع ما كان عليه من تسخير الكونين والثقلين.

وقد ألف بعض العلماء فى موازاة معجزاته عليه‌السلام لمعجزات الأنبياء على جميعهم السلام تأليفا عجيبا ، وكذلك نظم بعضهم قصيدة فى معجزاته عليه‌السلام موازيا لمعجزاتهم.

فإن قلت : كيف يتعرض الشيطان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد إفساد صلاته ، ويفرّ من لقاء عمر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لو سلك عمر فجّا لسلك الشيطان فجّا غير فجّ عمر".

والجواب أنه ليس بمنكر أن يتعرّض العفريت له إظهارا لمعجزته وغلبته له ، وأيضا فأين يفرّ منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مالك الأرض كلّها ، بل والآخرة بأسرها ؛ فإلى أين يفر من ملاقاته؟ وعمر لا يملك إلا الفجّ الذى هو فيه ، فكان يفرّ منه لغير ملكه ، ولقد علم اللعين أنه لو ظفر به لقتله لشدّة عمر وغلظته فى الله ونصرة دينه ؛ ونبيّنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غاية الشفقة والرحمة على من يؤذيه.

وقد حكى ولى الله أبو محمد المهدوى أن أبا مدين قال لتلامذته يوما : أيّما فضل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أمة سليمان؟ فأجيب بأنّ الفضل بينهما

٤١١

معروف. فقال لهم : ما بال آصف أوتى علما من الكتاب تمكّن به من الإتيان بعرش بلقيس ؛ وأنت يا محمدى أوتيت علم الكتاب ، ولم تتمكن من الإتيان برغيف! قال : فلم [٢٩١ ا] يذكر أحد جوابا عن هذا. قال : فألقى علىّ فى النوم ، فرأيت قائلا يقول لى : لو خصّ أحد بسرّ الخفاء ، لعدّ فى حق غيره خفاء ، وأمة محمد من أهل الصفاء والاصطفاء ، وحين استيقظت لاح لى سرّ ما رأيته ، وعلمت أنّ آصف خصّ بمزية عن كل أمة سليمان عليه‌السلام لرفعة مرتبته ، وليس لتلك الأمة من العناية ما لهذه الأمة ، فلو عمّ ما هم محتاجون إليه لبطلت حكمة الله فى طلب الجد والسعى الذى عليه يثابون ، فلو خصّ واحد من هذه الأمة بدرجة قالوا : إن من سواه منحطّ عن حصول الاعتناء به فى تناول معاشه دون سبب لهم. بهذا الاعتبار قد تساووا فى الكسب ، لا فضل لواحد منهم عن صاحبه فى تطلّبه ؛ فهم متحدون فى الاقتداء ، فما شرفوا إلا من أجله صلوات الله وسلامه عليه.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ (١) بِظُلْمِهِمْ) ؛ أى بظلمهم أنفسهم ، أو بظلم بعضهم بعضا ، فهو للفاعل والمفعول ؛ لأن الناس عام فى الظالم والمظلوم ، وإنما أضاف الظّلم إليهم لأجل الكسب الذى لهم فيه ؛ ألا ترى أنك تقول عبد فلان ، وثواب فلان ، وليس لهم فيه إلا المنافع. وأما الأعيان فما يملكها إلا الله.

وذكر الزمخشرى هنا آثارا عن أبى هريرة وابن عباس تقتضى عموم الهلاك فى بنى آدم وغيرهم بسبب شؤم ظلم الإنسان ، وكذا نقل ابن عطية أنّ الطير والحوت يهلكان بسبب ظلم الإنسان ؛ وهذا مما لا يتمّ الاستدلال به إلا مع ضميمة ما قاله الأصوليون فى أنّ قول الصحابى إذا كان دليله مخالفا للقياس فإنه

__________________

(١) النحل : ٦١

٤١٢

يكون حجة ، لأنه حينئذ لم يكن قاله من عنده ؛ بل يكون سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأمّا إن وافق القياس فهو مذهب صحابى ، فلا يحتج به. وهذا مخالف للقياس. قال تعالى : (وَلا (١) تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

وأجاب ابن عطية بأنّ هلاك من لم يظلم إنما هو لكونه لم يغيّر على الظالم ، ويعضده ما تقدم فى قوله تعالى : (فَلَمَّا (٢) نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) ؛ وفى قوله : (كانُوا (٣) لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ).

وأجاب بعضهم إن هلاك الظالم بظلمه وهلاك من لم يظلم إنما هو ابتلاء له ليصبر ، فيعظم بذلك أجره ومثوبته ، فهو رحمة به بهذا الاعتبار.

قال الفخر : واستدل بعضهم بالآية على عدم عصمة الأنبياء ، واستدل بها من جوّز الردة على جميع الخلق لنسبة الظلم فيها لجميع الناس.

وردّ بأنّ العموم فى الآية إنما هو بالمؤاخذة وأمّا الظلم فإنما ذكر على سبيل الفرض والتقدير ؛ أى لو فرض وقوع الظلم من الجميع وأوخذوا به لم يبق أحد ؛ ولا يلزم من فرض الشيء وقوعه ، كما قال (٤) : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

فإن قلت : يفهم من قوله تعالى : (لا (٥) يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) نفى تأخرهم عن أجلهم ، لأنه كان متوهّما ، وأما تقدمهم على أجلهم إذا حضر فمستحيل إذ الماضى لا يعود ، فلم احتيج إلى نفيه ، وجعل جوابا للشرط؟

__________________

(١) الأنعام : ١٦٤ ، الإسراء : ١٥ ، فاطر : ١٨ ، الزمر : ٧

(٢) الأعراف : ١٦٥

(٣) المائدة ٧٩

(٤) الأنبياء : ٢٢

(٥) النحل : ٦١

٤١٣

والجواب أنه على معنى التأكيد لذلك ، وإشارة إلى تسوية الأمر الضرورى بالمشكوك فيه ، لأنّ استحالة تقدمهم عن أجلهم إذا حضر أمر ضرورى ، وتأخرهم عنه مشكوك فيه ؛ ألا ترى من حلّ عليه دين مؤجل يمكن أن يؤخّره ربّه عنه ، ولا يمكن أن يقدمه هو عن أجله بعد حلوله بوجه ، فكأنه يقول : كما يستحيل تقدّمهم عن أجلهم إذا حلّ كذلك يستحيل تأخّرهم عنه ، لأن ما علمه الله وقدّره لا بدّ من وقوعه.

(وَقالَ (١) رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) : هذا من قول سليمان لمّا أنعم الله تعالى عليه بالملك ، وعلم أنه رخاء لا ينفعه عند الله إلا بإلهامه الشكر.

وحقيقة (أَوْزِعْنِي) اجعلنى أزع شكر نعمتك عندى وأكفّه واربطه ، لا ينفلت عنى ، حتى لا أنفكّ شاكرا لك. وأدخل والديه فى الدعاء ، لأن النعمة عليهما للولد منها نصيب بالوراثة ، فيجب شكر الوالد على ذلك ؛ لأن موجب الشكر مشترك بين الولد [٢٩١ ب] والوالدين ، ومن رؤية النعمة عند سليمان أنه أمر أن يعمل حول كرسيّه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يصرخون بالشكر دائما ويقول لجنده إذا ركب : سبّحوا الله إلى ذلك العلم ، فإذا بلغوه قال : هلّلوا إلى ذلك العلم ، فإذا بلغوه قال : كبروا إلى ذلك العلم الآخر ، فلج الجنود بالتسبيح والتهليل والتكبير لجة واحدة ، شكرا لما أعطاه الله ، فاستعملوه من أجله. وقد صح أنّ الله يحتجّ على الأغنياء يوم القيامة بسليمان ؛ لأنه لم يشغله ما أعطاه الله عن القيام بحقه ، وعلى العبيد بيوسف ، وعلى المرضى بأيوب ، لما هلك جميع ما ملك دخل بيته وألقى ثيابه ، وقال : هكذا

__________________

(١) النمل : ١٩

٤١٤

خرجت إلى الدنيا ، وعلى الفقراء بعيسى ؛ كان له إناء يشرب فيه ، ومشط يمتشط به ، فألقاهما وصار يتخلّل بأصابعه ، ويشرب فى يديه ؛ فقال له قومه : ألا تتّخذ لك حمارا تركب عليه إذا أعياك المشى؟ فقال : أنا أكرم على الله من أن يجعلنى خادم حمار.

(وَتَفَقَّدَ (١) الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) ـ بضم الهاءين وإسكان الدال بينهما : طائر معروف ذو خطوط وألوان. قال الجاحظ : وهو وفّاء حفوظ ؛ وذلك أنه إذا غابت أنثاه لم يأكل ولم يشرب ولم يشتغل بطلب طعم ، ولا يقطع الصياح حتى تعود إليه ، فإن حدث حدث أعدمه إياها لم يسفد بعدها أنثى أبدا ، ولم يزل صائحا عليه ما عاش ، ولم يشبع بعدها من طعم ؛ بل ينال منه ما يمسك رمقه إلى أن يشرف على الموت ، فعند ذلك ينال منه يسيرا.

فإن قلت : قد طلب سليمان الشّكر من الله تعالى على هذا الملك ، وإنه لم يكن فى باله ولا له به تعلّق ، فما باله تفقّد الهدهد حين كان يظلّله وتوعّده بالعذاب الشديد أو بالذبح ؛ وهذا الفعل يقتضى العناية بالمملكة والتهمم بكل جزء منها؟

والجواب ما فى الكامل وشعب الإيمان للبيهقى : إن نافعا سأل ابن عباس ، فقال : سليمان عليه‌السلام ، مع ما خوّله الله من الملك وأعطاه ، كيف عنى بالهدهد مع صغره؟ فقال له ابن عباس : إنه احتاج إلى الماء ، والهدهد كانت له الأرض كالزجاج. فقال ابن الأزرق لابن نافع : قف يا وقاف ؛ كيف يبصر الماء من تحت الأرض ، ولا يرى الفخ إذا غطّى له بقدر إصبع من تراب؟

__________________

(١) النمل : ٢٠

٤١٥

فقال ابن عباس : إذا نزل القدر عمى البصر.

قال الزمخشرى : وكان السبب فى تخلّفه عن سليمان عليه‌السلام أنه حين نزل سليمان عليه‌السلام حلّق الهدهد ، فرأى هدهدا واقعا ، فوصف له ملك سليمان وما سخّر له ، وذكر له ملك بلقيس ، وأن تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف ، فذهب له لينظر فما رجع إلّا بعد العصر ، فدعا سليمان عريف الطير وهو النّسر ، فلم يجد عنده علمه ؛ ثم قال لسيد الطير ـ وهو العقاب : علىّ به ، فارتفع ونظر فإذا هو مقبل ، فقصده ، فناشده وقال له : بالذى قوّاك علىّ ، وأقدرك إلا رحمتى ، فتركه ، وقال : ثكلتك أمّك ؛ إنّ بنى الله حلف ليعذبنك.

قال : وما استثنى؟ قال : بلى. قال : أو ليأتينّى بسلطان مبين. فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّهما على الأرض تواضعا له ، فلما دنا منه أخذ رأسه فمدّه إليه ، فقال : يا نبى الله ، اذكر وقومك بين يدى الله خاضعا ذليلا. فارتعد سليمان وعفا عنه ؛ ثم كان تعذيبه لمن خاف أمره من الطير أن ينتف ريشه ويشمسه. وقيل يلقيه للنمل يأكله. وقيل إيداعه القفص. وقال الهدهد : يا نبى الله ، بم كنت تعذّبنى العذاب الشديد؟ قال : أفارقك من إلفك وأجعلك تعاشر الأضداد.

فإن قلت : لم أبيح له تعذيب الهدهد؟

قلت : يجوز أن يبيح الله له ذلك كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع. قال عكرمة : إنما صرف سليمان عن ذبح الهدهد للخبر الذى أتى به من أمر بلقيس.

وقيل : لأنه كان بارّا بأبويه [٢٩٢ ا] ينقل الطعام إليهما فيزقّهما.

٤١٦

وحكى القزوينى أنّ الهدهد قال لسليمان : أريد أن تكون فى ضيافتى. فقال : أنا وحدى؟ قال : لا ، أنت وعسكرك فى جزيرة كذا فى يوم كذا ، فحضر سليمان وجنوده ؛ وطار الهدهد ؛ فاصطاد جرادة وخنقها ورمى بها فى البحر ، وقال : يا نبى الله ، من فاته اللحم ناله المرق ؛ فضحك سليمان من ذلك عاما كاملا.

(وَجَدْتُ (١) امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) : هى بلقيس بنت شراحيل كان أبوها ملك اليمن ، ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت بعده على الملك. والضمير يعود على قومها.

(وَلَها (٢) عَرْشٌ عَظِيمٌ) : يعنى سرير ملكها ، ووقف بعضهم على عرش ، ثم ابتدأ : عظيم وجدتها (٣) وقومها يسجدون للشمس. وهذا خطأ وغير منكر عليه وصف العرش بالعظمة.

(وَأْتُونِي (٤) مُسْلِمِينَ) : يحتمل أن يكون من الانقياد ، بمعنى مستسلمين ، أو يكون من الدخول فى الإسلام.

(وَكَذلِكَ (٥) يَفْعَلُونَ) : من كلام الله تعالى ، تصديقا لقول بلقيس : إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ؛ أو هو من قولها تأكيدا للمعنى الذى أرادته ، أو يعنى كذلك يفعل (٦) هؤلاء بنا.

فإن قلت : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟

__________________

(١) النمل : ٢٣

(٢) النمل : ٢٣

(٣) النمل : ٢٤

(٤) النمل : ٣١

(٥) النمل : ٣٤

(٦) فى ا : يفعلوا ـ تحريف.

٤١٧

فالجواب : أنه استعظم عرشها بالنظر إلى حالها وأمثالها ، وأنه وصفه بالعظم إغراء له عليها ؛ ووصفه له بأنه ثمانين ذراعا فى ثمانين ، وأنه مكلّل بأنواع الجواهر ، وأن قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد ؛ وغرابة ما فيه من البقاء ، وفى ذلك تقوية لعذره عن غيبته ، ورفع للعقاب عنه ، ولعظمه عندهم أراد سليمان أن يريهم قدرة الله ، وبعض ما خصّه به من العجائب على يده ، ويشهد بنبوءته.

((١) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) : يعنى الفساد العام فى كل ما فيه مضرة لأبناء جنسهم. وقيل : كانوا يقرضون الدنانير والدراهم. والمراد بالمدينة مدينة ثمود ؛ فانظر رحمة الله بعباده حيث لا يريد مضرّة أحد منهم ، وبعث الله إليهم صالحا ينهاهم عن الفساد ، فجرى لهم ما قدمناه.

(وَيَوْمَ (٢) يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ ...) : قد قدمنا أنّ إسرافيل عليه‌السلام ينفخ فيه ثلاث نفخات : نفخة الفزع وهو فى الحياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر. ونفخة الصعق. ونفخة القيام من القبور.

وانظر كيف عبّر هنا بينفخ وفزع ، وهو أمر لم يقع بعد إشعارا بصحة وقوعه. وخصّت هذه السورة بالفزع موافقة لقوله تعالى : (وَهُمْ (٣) مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ). وخصّت سورة الزمر بالصعق موافقا لما قبله ؛ لان معناه : مات وقد تقدم قوله : إنك ميّت وإنهم ميّتون.

(وَهُمْ (٤) لا يَشْعُرُونَ) ؛ أى قوم فرعون لا يشعرون بأنّ إهلاكهم

__________________

(١) النمل : ٤٨

(٢) النمل : ٨٧

(٣) النمل : ٨٩

(٤) القصص : ٩ ، ١١

٤١٨

يكون على يد موسى ، أولا يشعرون أنّ الذى دلّت على إرضاعه أخته.

(وكزه) (١) ؛ أى ضربه بأطراف الأصابع. وقيل بجمع الكف فقتله ، ولم يرد أن يقتله ، لكن وافقت وكزته الأجل.

فإن قلت : لم يعمل عملا يوجب له الاستغفار منه ، لأن المقتول كافر.

فالجواب أنّ الله لم يأذن له فى قتله ، ألا تراه يقول يوم القيامة : قتلت نفسا لم آذن بقتلها.

(وَلَقَدْ (٢) وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : الضمير لقريش. وقيل لليهود. والأول أظهر ؛ لأن الكلام من أوله معهم. والعموم أحسن لهم ولغيرهم ممّن يأتى بعدهم ، يعنى بلّغنا لهم القرآن ؛ وبيّنّا لهم الحلال والحرام ، ووعظناهم بحكاية من تقدم من الأمم ، لعلهم يتذكرون. وهذا مثل قوله : ((٣) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). فكيف يكون للعاصى حجة مع هذه المواعظ والحر من العبيد تكفيه الملامة.

(وَأَكْثَرُ (٤) جَمْعاً) : معطوف على الهلاك. يعنى من يرى إهلاك من كان أشدّ منه قوة وأكثر [٢٩٢ ب] جمعا للمال كيف يغترّ بالدنيا وهذا حالها! نشاهد إهلاك قوم بعد قوم ، ولا نرعوى عن قبيح ، ولا نزد جر من رذيلة.

(وَلا (٥) يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) : يحتمل أن يكون متصلا بما قبله ، والضمير فى ذنوبهم يعود على الأمم المتقدمة ، والمجرمون من بعدهم ؛ أى

__________________

(١) القصص : ١٥ : فوكزه.

(٢) القصص : ٥١

(٣) الذاريات : ٥٥

(٤) القصص : ٧٨

(٥) القصص : ٧٨

٤١٩

لا يسأل المجرمون عن ذنوب من تقدمهم من الأمم الهالكة ؛ لأن كل أحد إنما يسأل عن ذنوبه خاصة.

ويحتمل أن يكون إخبارا عن حال المجرمين فى الآخرة ، وأنهم لا يسألون فيها عن ذنوبهم ، لأنهم يدخلون النار من غير حساب.

وردّ بقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ (١) لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ). وأجاب بعضهم عن هذا بأن السؤال المنفى على وجه الاستخبار وطلب التعريف ، لأنه لا يحتاج إلى سؤالهم على هذا الوجه ، لكن يسألون على وجه التوبيخ ، وحيثما ورد فى القرآن إثبات القول فى الآخرة فهو على معنى المحاسبة والتوبيخ ، وحيثما ورد نفيه فهو على وجه الاستخبار والتعريف ، ومنه قوله (٢) : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ).

(وَادْعُ (٣) إِلى رَبِّكَ) : يحتمل أن يكون من الدّعاء بمعنى الرغبة ، أو من دعوة الناس إلى الإيمان بالله ، فالمفعول محذوف على هذا ، تقديره ادع الناس.

فانظر كيف أمر الله رسوله بدعاء الناس إليه ، وخصص الهداية لإجابته ، فالدعوة عامة ، والهدى خاص. وقد دعا الله عباده فى الدنيا بقوله (٤) : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ). (يَدْعُوكُمْ (٥) لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). وفى الآخرة بقوله (٦) : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ). (يَوْمَ (٧) نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ). فما هذا التقاعس بعد هذا الدعاء إلا من العمى ، وأعظم من العمى ، وأعظم من المخالفة والاستجابة غفلتنا عن الاستغفار ، والضحك والاغترار والتهاون والاستكبار ؛ قال تعالى (٨) : (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ).

__________________

(١) الحجر ٩٢

(٢) الرحمن : ٣٩

(٣) القصص : ٨٧

(٤) يونس : ٢٥

(٥) إبراهيم : ١٠

(٦) الإسراء : ٥٢

(٧) الاسراء : ٧١

(٨) المؤمنون : ١١٠

٤٢٠