معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٧

على الطبيعة المزاجية ، فتقمعها ، فصحّ بذلك كونه داء للشيء ونقيضه. وقال أرسطاطاليس : إنه شفاء من مائة داء خاصّة.

(وَعَلَى (١) اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) : يعنى أن من الناس من هداه الله بالدلائل العقلية ، فاهتدى ؛ ومنهم من ضلّ فجار وخالفها.

(وَمِنْهُ (٢) شَجَرٌ) : يريد به كلأ الأرض ، ولفظ الشجر مشترك بين الجزء والكل. وقال عكرمة : الشجر ما ليس له ساق.

(وَسَخَّرَ (٣) لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ...) الآية : فى تقديم الليل ما يدلّ على أنه عدم ، والعدم سابق على الوجود ؛ أو لأن العرب إنما يؤرخون بالليالى ، وأول الشهر ليله ، وفى هذا دليل على أن الليل أفضل من النهار ؛ لأن التقديم يؤذن بالفضل ، ومعراج الخليل ، وإدريس ، وتكليم موسى الكليم ، وعيسى إلى البيت المعمور ، ومعراج [٢٧٨ ب] الحبيب إلى قلب قوسين كان ليلا. وأيضا خدمة العباد وخلواتهم إنما تكون ليلا ، وأيضا فالليل من الجنة والنهار من الجحيم ؛ وذلك أنّ الله لما خلق النار أمر بإخراج الظلمة من الجنة ، لتكون نورا صافيا كلّها ليس فيها نار ، وجعل الليل والنهار فى الدنيا علامة على الجنة والنار ؛ وذلك أن الراحة والأمن إنما يكون بالليل ، والتّعب والشدة بالنهار ، وقدّم الشمس (٤) فى الآية وإن كانت مؤنثة ، لأن ضوء القمر يستمدّ منها.

(وَتَسْتَخْرِجُوا (٥) مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) : قد قدمنا أن الضمير يعود على البحر ، والمراد بها (٦) اللؤلؤ أو المرجان ؛ ولذلك قال فى سورة الرحمن : (يَخْرُجُ (٧) مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ).

__________________

(١) النحل : ٩

(٢) النحل : ١٠

(٣) النحل : ١٢

(٤) النحل : ١٢

(٥) النحل : ١٤

(٦) أى الحلية

(٧) الرحمن : ٢٢

٣٤١

(وَقِيلَ (١) لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) : يعنى أنهم قالوا خيرا ، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ من القائلين ، يعنى أنه يحتمل أن يكون من كلام المحكى عنه. ونظير ذلك أن يقول زيد يقول خيرا الحمد لله ، فتقول أنت ـ حاكيا لكلامه : قال زيد خيرا الحمد لله ، فهذه من كلام الحاكى. والقول يحكى به الجمل والمفرد المؤدى معناها.

(وَلَقَدْ (٢) بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ...) الآية : فيها دليل على أنّ الله بعث لكل أمة رسولا منهم.

فإن قلت : هذا مناقض لما قلتم : إن الله بعث شعيبا إلى أمّتين. وقد صح أنّ رسالة نوح ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانتا عامتين للعرب والعجم مما يدل على أن غيرهما لم يرسل إلى العجم ، فنرى العقل خلا من السمع.

والجواب : أن ذلك فى التفاصيل والأحكام ، وأما الإخبار بوجود الله ووحدانيته فكلّ نبىء أرسل بذلك على العموم.

فإن قلت : قس بن ساعدة وغيره من فصحاء العرب وعبدة الأصنام كانوا لا يعرفون الإله بوجه.

والجواب : إنما ذلك فى عوامهم ، وأما رؤساؤهم فيعرفون وجود الإله ، وإن كانوا معاندين فى ذلك.

(وَما أَرْسَلْنا (٣) مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ...) الآية : تدل على تخصيص الرسالة بالرجال ، فيحتج به من قال إن مريم ليست بنبيّة. ويجاب بأن الآية إنما اقتضت تخصيص الرجال بالرسالة لا بالنبوءة ، وإما بأنّ قوله (بِالْبَيِّناتِ) متعلق بأرسلنا.

__________________

(١) النحل : ٣٠

(٢) النحل : ٣٦

(٣) النحل : ٤٣

٣٤٢

(وَأَنْزَلْنا (١) إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) : قد قدمنا أن المراد بالذكر القرآن ، يعنى إمّا بسردك علم آياته ، وإما بتفسيرك المجمل وشرح ما أشكل منه ؛ فيدخل فيه ما بيّنته السنّة من أمر الشريعة ؛ فعلى الأول المراد بالناس أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلىّ ، وإن أراد ما بيّنته السنّة فالناس عامة. وانظر قوله : (لَعَلَّهُمْ (٢) يَتَفَكَّرُونَ). والتفكر إنما يكون من العلماء.

فإن قلت : المبين بعد المبين ، وأنزل يقتضى الإجمال ، وإنزاله دفعة واحدة. ونزل يقتضى التنجيم حسبما ألمّ به الزمخشرى فى أول خطبة كتابه ، والقرآن نزل أولا دفعة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل منها منجّما ، فأنزل قبل نزل ، وجاءت الآية على العكس ؛ وهو أنّ بيان ما نزل يقع بإنزال الذكر ، فجعل متعلّق أنزل بمتعلق نزل.

والجواب : ما قدمناه : إن متعلق أنزل راجع إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومتعلق نزل راجع لأمته ؛ فأنزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جملة ؛ ليبين بها ما نزل على أمته مفصّلا منجّما.

(وَلَهُ (٣) الدِّينُ واصِباً) ؛ أى دائما. وانظر هل أراد بالدين الطاعة أو الجزاء؟ وقد قال الزمخشرى فى قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إنه يوم الجزاء. وفى الآية دليل لمن حكى الإجماع على منع الردة فى الخلق كلهم.

فإن قلت : قوله تعالى أوّلا : (وَلَهُ (٤) ما فِي السَّماواتِ) أتت دليلا على وجود الصانع ، فلم عطف عليه : (وَلَهُ الدِّينُ) ، وهو لا يحسن أن يكون دليلا على وجود الصانع ؛ لأنه إنما يستدلّ على وجوده بخلفه لا بالأحكام والشرائع

__________________

(١) النحل : ٤٤

(٢) النحل : ٤٤

(٣) النحل : ٥٢

(٤) النحل : ٥٢

٣٤٣

التى كلّفوا بها ، لأنها مسببة عن ذلك ، فلو كان العطف بالفاء لصح لأنها تدلّ على السببية.

والجواب : بأن المراد من بعد خلقه للعالم ، فما من زمان يأتى إلا وهو معبود فيه مطاع ، تعبده الملائكة وبعض الناس ؛ فهذا يدلّ على صحة وجوده. واستدلوا فى علم الكلام على وجود الصانع بطريقين : إما حدوث العالم ، وإما إمكانه ؛ لأنّ الممكن لا بدّ له من مخصص يوقعه على أحد الجائزين ، وطريق الاستدلال بالحدوث يستلزم الإمكان ؛ لأنّ كلّ حادث ممكن ، وليس كل ممكن حادث ؛ فإن وجود حجر من زيبق أو من ياقوت ممكن ، وليس هو [٢٧٩ ا] بحادث ؛ إذ المراد الحدوث بالفعل ، وهذا الجواب إنما يتم على قول من فسر الواصب بالدائم.

(وَاللهُ (١) خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) : قد قدمنا أن الخلق أبلغ من الوجود ، ولما قدم فى الآية التى قبلها التذكير بقدرة الله ، وما اشتملت عليه من الآيات والحكم ـ عقبه ببيان قدرته فى خلق الإنسان ، وفى خلق أنفسكم. وأسند فعل التوفى هنا لله تعالى ، وقال فى سورة السجدة : (قُلْ (٢) يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ). والجمع بينهما ينتج صريح مذهب أهل السنة القائلين بالكسب.

فإن قلت : لم قال : (وَمِنْكُمْ (٣) مَنْ يُرَدُّ) بحذف الفاعل ، وقال يتوفّاكم ـ فذكر الفاعل؟

والجواب : أنه إذا كان المقصود الإشعار بالفعل على الإطلاق يحذف الفاعل ، كقولك رأى الهلال ، وإن كان المقصود الإخبار بفاعل الفعل يذكر ؛ كقولك طعن عمر غلام المغيرة ، ولما كان التوفى قد خالفوا فيه ، وقالوا :

__________________

(١) النحل : ٧٠

(٢) السجدة : ١١

(٣) النحل : ٧٠

٣٤٤

ما يهلكنا إلا الدهر ـ ذكر فاعله ، بخلاف الرد إلى أرذل العمر ، فإنه أمر ظاهر لا يحتاج إلى ذكر فاعله.

وأجاب بعضهم بأنه لما ذكر فاعل البدأة وفاعل النهاية أنه الله تعالى ـ علم أن ما بينهما من فعله ، فاكتفى بذلك ، ولم يحتج إلى ذكره فى الرد إلى أرذل العمر ؛ لأنها حالة متوسطة بين البداية والنهاية.

(وَيَعْبُدُونَ (١) مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً) : الضمير راجع للكفار ؛ يعنى أنهم يعبدون الأصنام وغيرهم.

فإن قلت : لم يخصّوهم بالعبادة لأنهم يقولون : ((٢) ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فلم ذكر هنا العبادة لهم؟ وما فائدة إبراز الضمير فى لهم؟

والجواب أن ذلك الجزء الذى صرفوه لهم من العبادة ؛ عبدوهم وهم فيه من دون الله ؛ وإنما أبرز الضمير ، لأنه إذا أبرز الضمير لمن عبده فأحرى ألا يملكه لغيره ، وقد قدمنا أن شيئا فى الآية بدل من رزقا.

(وَرَحْمَتِي (٣) وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) : يحتمل أن يريد رحمته فى الدنيا ، فيكون خصوصا فى الرحمة وعموما فى كل شىء ؛ لأن المؤمن والكافر والمطيع والعاصى تنالهم الرحمة ونعمته فى الدنيا. ويحتمل رحمة الآخرة فيكون خصوصا فى كل شىء ؛ لأن الرحمة فى الآخرة مختصة بالمؤمنين. ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق ، فيكون عموما فى الرحمة وفى كل شىء. وقد صح أنّ لله مائة رحمة ، رحمة فى الدنيا للجميع ، وبضم هذه الرحمة للتسعة وتسعين ويخصها بالمؤمنين.

__________________

(١) النحل : ٣

(٢) الزمر : ٣

(٣) الأعراف : ١٥٦

٣٤٥

(وَقَطَّعْناهُمْ (١) فِي الْأَرْضِ أُمَماً) ؛ أى فرقناهم فى البلاد ، ففي كل بلد فرقة منهم ، وليس لهم إقليم يملكونه ؛ وذلك بقتلهم الأنبياء.

(وَإِذْ (٢) أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) : فى معنى الآية قولان :

إن الله لما خلق آدم أخرج ذرّيته من صلبه وهم مثل الذر ، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم ، فأقرّوا بذلك ، والتزموا. روى هذا المعنى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طرق كثيرة ؛ وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم.

والثانى أن ذلك من باب التمثيل ، وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم فى الدنيا. وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبنى آدم الآية على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم ، وقال لهم : ألست بربكم؟ فقالوا بلسان واحد : بلى ، أنت ربّنا.

والأول هو الصحيح ؛ لتواتر الأخبار به ، إلا أن ألفاظ الآية لا تطابقه بظاهرها ؛ فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر ؛ وإنما تطابقه بتأويل ؛ وذلك أن أخذ الذرية إنما كان من صلب آدم ، ولفظ الآية يقتضى أن أخذ الذرية من بنى آدم. والجمع بينهما أنه ذكر بنى آدم فى الآية والمراد آدم ؛ كقوله :

(وَلَقَدْ (٣) خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ...) الآية ، على تأويل لقد خلقنا أباكم آدم من صورته. وقال الزمخشرى (٤) : إن المراد ببنى آدم أسلاف اليهود ، والمراد بذريتهم من كان فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم.

والصحيح المشهور أن المراد جميع بنى آدم حسبما ذكر. وفى الحديث : إن

__________________

(١) الأعراف : ١٦٨

(٢) الأعراف : ١٧٢

(٣) الاعراف : ١١

(٤) الكشاف : ١ ـ ٣٢٠

٣٤٦

أول من أجاب الأنبياء ثم العلماء سمعوهم فأجابوا ، ثم العامة ، ثم الكفار ، فكلهم أقرّوا له بالربوبية.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ (١) [٢٧٩ ب] إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) : يحتمل أن يريد الأصنام ؛ فيكون تحقيرا لها وردّا على من عبدها ؛ فإنها جماد موات لا تسمع شيئا ؛ أو يريد الكفار ، ووصفهم بأنهم لا يسمعون ؛ يعنى سمعا ينتفعون به لإفراط نفورهم ، أو لأنّ الله طبع على قلوبهم.

(وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ (٢) إِلَيْكَ) : إن كان هذا من وصف الأصنام فهو مجاز ، وقوله : (لا يُبْصِرُونَ) (٣) حقيقة ؛ لأن لهم صورة الأعين وهم لا يبصرون شيئا. وإن كان من وصف الكفار فينظرون حقيقة ، ولا يبصرون مجازا على وجه المبالغة ، كما وصفهم بأنهم لا يسمعون.

(وَإِخْوانُهُمْ (٤) يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) : الضمير فى الجميع للشيطان ، وأريد بقوله : (طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ)(٥) الجنس ؛ فلذلك أعيد عليه ضمير الجماعة. وإخوانهم هم الكفار ، ومعنى (يَمُدُّونَهُمْ) يكونون مدّا لهم ؛ أى يعضدونهم. وضمير المفعول فى (يَمُدُّونَهُمْ) للكفار ، وضمير الفاعل للشياطين. ويحتمل أن يريد بالإخوان الشياطين ، ويكون الضمير فى إخوانهم للكفار.

والمعنى على الوجهين أنّ الكفار يمدّهم الشيطان. وقرئ يمدونهم ـ بفتح الياء وضمها. والمعنى واحد. (وفِي الغَيِّ) يتعلق بيمدونهم. وقيل يتعلق بإخوانهم ، كما تقول : أخوه فى الله أو فى الشيطان.

(وَإِذا (٦) لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) : فى معناها قولان :

__________________

(١) الأعراف : ١٩٨

(٢) الأعراف : ١٩٨

(٣) الأعراف : ١٩٨

(٤) الأعراف : ٢٠٢

(٥) الأعراف : ٢٠١

(٦) الأعراف : ٢٠٣

٣٤٧

أحدهما اخترعتها من قبل نفسك ؛ فالآية على هذا من القرآن. وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتأخر عنه الوحى أحيانا ، فتقول الكفار : هلا جئت بقرآن من قولك؟ والاجتباء معناه طلبتها من الله وتخيّرتها عليه ، فالآية على هذا معجزة ؛ أى يقولون اطلب من الله المعجزة.

(وَإِذا (١) قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) : كانوا إذا سمعوا القرآن اشتغلوا عنه ؛ فأمر الله بالإنصات لقراءته على الإطلاق ، ولا معنى لمن قال : إن معناها الإنصات لقراءة الإمام أو الخطبة ؛ لأن الآية مكّية ، والخطبة إنما شرعت بالمدينة. وأيضا اللفظ عام ، ولا دليل على تخصيصه.

(وَجِلَتْ (٢) قُلُوبُهُمْ) ؛ أى خافت. وقرأ أبىّ بن كعب فزعت. ومنه : لا توجلى ، ووجلون.

فاعرض نفسك على هذا الميزان ؛ هل تجد لذكر الله وجلا فى قلبك ؛ فأنت مؤمن حقّا ، وحينئذ فلا تنس نفسك وإخوانك من الدعاء ، وإلا فابك على نفسك لحرمانك بخطيئتك ، واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات.

(وَإِنَ (٣) فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) ؛ أى لقتل العدو ؛ وذلك أنّ عير قريش أقبلت من الشام فيها أموال عظيمة ، ومعها أربعون راكبا ؛ فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسلمين ، فسمع بذلك أهل مكة ، فاجتمعوا وخرجوا فى عدد كثير ليمنعوا عيرهم ، فنزل جبريل ، وقال : يا محمد ، إنّ الله يعدكم إحدى الطائفتين ؛ إما العير وإما قريشا ؛ فاستشارهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقالوا : العير أحبّ إلينا من لقاء العدو ؛ فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ؛ فقال له سعد بن عبادة : امض لما شئت ، فإنا

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٤

(٢) الأنفال : ٢

(٣) الأنفال : ٥

٣٤٨

متبعوك. وقال سعد بن معاذ : والذى بعثك بالحق لو خضت هذا البحر لخضناه معك.

(وَلِيَرْبِطَ (١) عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) : لما عدم الصحابة الماء قبل وصولهم إلى بدر أنزل الله عليهم الماء فتطهّروا به ، وثبتت قلوبهم بزوال ما وسوس لها الشيطان من عدم الماء لوضوئهم وغسلهم ، وأزال عنها الكسل ، وكانوا فى رملة دهسة لا يثبت بها قدم ، فلما نزل المطر تلبّدت ، ولبّدت الطريق ، وسهل المشى والوقوف. وروى أنّ ذلك المطر صعب الطريق على المشركين ، فكان فيه لطف من الله ؛ فلذلك عدّده من نعمه عليهم.

(وَإِنْ (٢) تَعُودُوا نَعُدْ) ؛ أى إن تعودوا إلى الاستفتاح والقتال نعد لقتلكم والنصر عليكم.

(وَلا تَوَلَّوْا (٣) عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) ؛ أى القرآن والمواعظ.

(وَإِذْ (٤) يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية : عطف على (إِذْ (٥) أَنْتُمْ قَلِيلٌ) ، أو استئناف ، وفيها إشارة إلى اجتماع قريش بدار النّدوة.

قال الثعلبى : كانوا [٢٨٠ ا] اثنى عشر رجلا دخلوا الدار ، ودخل معهم إبليس لعنه الله على صورة شيخ فى يده عصاه ؛ فقال له أبو جهل : إنّا قد اجتمعنا فى تدبير أمر خفىّ ، فارجع أنت يا شيخ. فقال إبليس : إنى شيخ من أرض نجد رأيت الدهور ، وكرّت الأمور علىّ ، أنا أعلم مصالح التدبير وموافقة التأويل والتفسير ، فأدخلونى معكم لعلى أنبئكم بتأويله. وإنما نسب نفسه لتجد ، لأنهم قالوا : لا تدخلوا معكم أحدا من أهل تهامة لمحبتهم فى محمد ،

__________________

(١) الانفال : ١١

(٢) الانفال : ١٩

(٣) الأنفال : ٢٠

(٤) الانفال : ٣٠

(٥) الانفال : ٢٦

٣٤٩

فلما دخلوا قال لهم عتبة : إن الموت حق ، فاصبروا حتى يقضى الله على محمد ، فتنجوا من شره. فقال له إبليس : أفّ لك! أين أنت عن التدبير ، أنت لا تصلح إلا لرعى المواشى ، فلو صبرتم حتى يموت محمد يظهر دينه فى مشارق الأرض ومغاربها ، فتجتمع عنده عساكر عظيمة لمحاربتكم ، فيهلككم. فقالوا : صدق الشيخ النجدى. ثم قال شيبة : إنى أرى أن نحبسه فى بيت ونغلق أبوابه حتى يموت فيه جوعا وعطشا. فقال ابليس : وهذا أيضا ليس بصواب ؛ فإنّ بنى هاشم يجتمعون ويأخذونه من أيديكم ، ويخلون سبيله ، ويقع بينكم وبين أقربائه عداوة عظيمة. فقالوا : صدق الشيخ النّجدى. فقال عامر بن وائل : نعضد (١) محمدا على بعير ونسوقه فى البادية ليهلك فيها. فقال إبليس : ليس بصواب ؛ لأن محمدا فصيح اللسان ، مليح الجنان ، قويم القامة ، صبيح الوجه ، كلّ من رآه أحبه ؛ وربما لقيه أحد وهداه إلى البلاد ، فيصدقه كلّ من يسمع كلامه ، ويجتمع عنده جمع عظيم ، فيرجع إليكم ، ويحاربكم ؛ فصاحوا جميعا : صدق الشيخ النجدى.

فقال أبو جهل لعنه الله : إنى أرى أن نخرج من كل قبيلة شابّا فيهجمون على محمد فى ليلة فيضربه كلّ واحد منهم ضربة جميعا بالأسلحة حتى لا يعلم قاتله بعينه ؛ فإذا طلب أقاربه الدية نجمع الأموال من القبائل ونعطيهم وننجو من شره. فقال إبليس : أحسنت وأصبت ، لرأيك أحسن الرأى ، وتدبيرك أحسن التدبير ؛ فاتفقوا على قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتفرقوا من دار الندوة ، فنزل جبريل بهذه الآية ، ثم قال : إن الله يقول لك : اخرج من مكة. فأتى إلى أبى بكر ، وكان يأتيه كلّ يوم طرفى النهار ، فأتاه فى الظّهيرة ؛ فقال

__________________

(١) العاضد : الماشى إلى جانب دابة (القاموس).

٣٥٠

أبو بكر : ما جاء بك فى هذا الوقت؟ فداك أبى وأمى! فقال له : أخرج من معك. فقال : وهل معه إلا أهلك. فقال : أما شعرت أنّ الله أمرنى بالخروج ، وكان يقول لأبى بكر : لا تهاجر حتى أجد لك رفيقا ، فقال له : الصحبة يا رسول الله. فقال : الصحبة. فقال : خذ إحدى هاتين الناقتين. فقال له : لا آخذها إلا بالثمن ، ليكون مهاجرا بنفسه وماله.

ثم قال لأصحابه : أيّكم يبيت على فراشى أضمن له على الله الجنة؟ فقال علىّ : أنا يا رسول الله ، وأجعل نفسى فداك. فبات علىّ على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاء الكفار يحرسونه ويرتقبون خروجه ، وإبليس معهم ، فسلّط الله عليهم الغفلة والنوم ، ونام إبليس لعنه الله ، ويقال : إنه لم ينم قط إلا فى تلك الليلة ، ولا ينام بعدها أبدا ؛ فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أبى بكر ورآهم نائمين ؛ فأخذ التّراب وحى (١) على رءوسهم. وقرأ سورة يس حين قصد المرور ، فلم يره أحد ببركة يس.

وفى الحديث : إن الله أوحى إلى جبريل ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل يقول : من يقتلك يا بن أبى طالب باهى الله بك الملائكة ، فأنزل الله عليه : (وَمِنَ (٢) النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

(وَلِيجَةً)(٣) : كل شىء أدخلته فى شىء ليس منه فهو وليجة فيه ، والرجل يكون فى القوم وليس منهم فهو وليجة.

(وَقِيلَ (٤) اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) : يحتمل أن يكون القائل الله تعالى ، أو

__________________

(١) حثى : رمى.

(٢) البقرة : ٢٠٧

(٣) التوبة : ١٦

(٤) التوبة : ٤٦

٣٥١

يكون ذلك من قول بعضهم لبعض ؛ وعلى الأول فهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود.

(وَالسَّابِقُونَ (١) الْأَوَّلُونَ) : قيل هم من صلى القبلتين ، وقيل من شهد بدرا. وقيل من حضر بيعة الرضوان [٢٨٠ ب]. وقيل : من أسلم قبل الهجرة. وقيل : من اشتغل بمعاده عن معاشه. وقيل : الذى غلب عقله على شهوته.

(وَالَّذِينَ (٢) اتَّبَعُوهُمْ) : سائر الصحابة ، ويدخل فى ذلك الباقون ، ومن بعدهم إلى القيامة بشرط الإحسان.

(وَرَضُوا (٣) بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) : الضمير عائد على الكفار ؛ لأن هذا شأنهم ؛ قنعوا بالدنيا ، وسكنت نفوسهم عن ذكر الانتقال منها ؛ فإياك والاتصاف بهذا الوصف ، وهو حال أكثرنا ؛ لأنا نفرح بالزيادة منها ، ونحزن لفقدانها ، فيوشك أخذنا منها بغتة.

(وَيَعْبُدُونَ (٤) مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) : الضمير عائد على الكفار من قريش الذين تقدمت محاورتهم ، فأخبر الله أنّ أصنامهم لا تضر ولا تنفع. وردّ على من زعم نفعهم لهم.

وقدم الضر هنا لتناسب الوارد من متصل قوله : (وَلا يَنْفَعُهُمْ) بقوله : (وَيَقُولُونَ (٥) هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ).

(وَمِنْهُمْ مَنْ (٦) يُؤْمِنُ بِهِ ...) الآية : أخبر الله فيها بما يكون منهم فى المستقبل. وقيل : إنّ بعضهم يؤمن وهو يكتم إيمانه ، ومنهم من يكذب.

__________________

(١) التوبة : ١٠٠

(٢) التوبة : ١٠٠

(٣) يونس : ٧

(٤) يونس : ١٨

(٥) يونس : ١٨

(٦) يونس : ٤٠

٣٥٢

(وَمِنْهُمْ (١) مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) : المعنى أتريد أن تهدى العمى ؛ وذلك لا يكون.

فإن قلت : ما الفرق بين «من» فى الاستماع (٢) وبين هذه ؛ لأنه جاء أولا بلفظ الجمع وهنا بلفظ الإفراد؟

فالجواب : أن المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف النظر ؛ فكان فى المستمعين كثرة ؛ فجمع (٣) ليطابق اللفظ المعنى ، ووحد ينظر حملا على اللفظ ؛ إذ لم يكثروا كثرتهم.

وقد قدمنا أنه إذا جاء الفعل على لفظ «من» فجائز أن يعطف عليه آخر على معناها ، وإذا جاء أولا على معناها فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ ؛ لأن الكلام يلتبس حينئذ ، وكأنه قال : ومنهم من ينظر إليك ببصره ، لكنه لا يعتبر ، ولا ينظر ببصيرته ، فهو لذلك كالأعمى فسلاه الله بهذه الآية ؛ والهداية إنما هى بيد الله ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.

(وَلِكُلِ (٤) أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) : قال مجاهد : المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم صيّر قوم للجنة وقوم للنار ؛ فذلك القضاء بينهم بالقسط. وقيل : المعنى فإذا جاء رسولهم فى الدنيا وبعث صاروا ممن ختم الله بالعذاب لقوم والمغفرة لآخرين لغاياتهم ؛ فذلك قضاء القسط بينهم ، وقرر بعض المتأولين هذه الآية بقوله تعالى : (وَما كُنَّا (٥) مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ؛ وذلك يتفق بأن يجعل معذبين فى الآخرة ، وأما بأن يجعل القضاء بينهم فى الدنيا بحيث يصحّ اشتباه الآيتين ؛

__________________

(١) يونس : ٤٣

(٢) فى الآية ٤٢ : ومنهم من يستمعون إليك ...

(٣) فى الآية ٤٢ : ومنهم من يستمعون إليك ...

(٤) يونس : ٤٧

(٥) الإسراء : ١٥

٣٥٣

وإنما ورد فى سورة يونس بالقسط فى الموضعين ؛ لأنه بمعنى العدل والتسوية فى الحكم بمظنة وروده حيث يراد موازنة الجزاء بالأعمال من غير زيادة.

(وَأُمِرْتُ (١) أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : هذه مخاطبة من الله لنبيّه ، ويدخل تحته جميع المكلفين من أمّته ، وهذه الآية قبلها يتسق معناها بمحذوفات يدلّ عليها هذا الظاهر الوجيز. والمعنى إن كنتم فى شك من دينى فأنتم لا تعبدون الله ، فاقتضت فصاحة الكلام وإيجازه اختصار هذا كله. وأمره هنا بالإيمان بخلاف آخر النمل ؛ لأنه تقدم قبلها : (وَلَوْ شاءَ (٢) رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً). (وَما كانَ (٣) لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). وبعد هذا : (وَما تُغْنِي (٤) الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ). وبعد هذا كله : (كَذلِكَ (٥) حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ). وأما آية النمل فإن قبلها قوله : (إِنَّما (٦) أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ). وهذا يقتضى تسليم كل شىء له والتبرى من توهّم شريك أو نظير ، فناسب هذا قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ (٧) أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

(وَأَنْ (٨) أَقِمْ وَجْهَكَ) ، أى قصدك ودينك.

(وَاصْبِرْ (٩) حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) : وعد بالنصر والظهور على الكفار ، وإنما زاد فى الأعراف ((١٠) بَيْنَنا) ، لأنه من خطاب الله لشعيب ، فناسبه البسط فى الكلام.

(وَيَتْلُوهُ (١١) شاهِدٌ مِنْهُ) : الضمير فى (يَتْلُوهُ) للبرهان ، وهو البينة ، أو

__________________

(١) يونس : ١٠٤

(٢) يونس : ٩٩

(٣) يونس : ١٠٠

(٤) يونس : ١٠١

(٥) يونس : ١٠٣

(٦) النمل : ٩١

(٧) النمل : ٩١

(٨) يونس : ١٠٥

(٩) يونس : ١٠٩

(١٠) الأعراف : ٨٧

(١١) هود : ١٧

٣٥٤

لمن كان على بينة من ربّه ، والضمير فى (مِنْهُ) للرب تعالى. ويتلو هنا بمعنى يتبع ، والشاهد يراد به [٢٨١ ا] القرآن. والمعنى يتبع ذلك البرهان شاهد من الله ، وهو القرآن فيزيد وضوحه وتعظيم دلالته. وقيل : إن الشاهد المذكور هنا هو علىّ بن أبى طالب ، فيا لها من فضيلة! كرر ذكره فى مواضع ، ولذلك قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الناس فى شجر شتّى وأنت فى شجرة واحدة. وشبّهه بسورة الإخلاص فى قوله : من قرأ سورة الإخلاص مرة واحدة فله ثواب ثلث هذه الأمة ، ومن قرأها مرتين فله ثلثا ثواب هذه الأمة ، ومن قرأها ثلاث مرات فله ثواب هذه الأمة. وقال : من أحبّ عليا بقلبه فله ثلث ثواب هذه الأمة ، ومن أحبه بقلبه ولسانه فله ثلثا ثواب هذه الأمة ، ومن أحبّه بلسانه وقلبه وجوارحه فله ثواب جميع هذه الأمة.

وقال مجاهد : نزلت فى علىّ سبع آيات ، لأنه كانت له أربعة أشياء لم تكن لغيره : السخاوة ، والشجاعة ، والزهادة ، والعلم. وله من جهة الرحمن امرأته أفضل النساء ، وصهره أفضل الخلق ، وشاهده جبريل ، وولده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

(وَمِنْ (١) قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) ، أى من قبل ذلك الشاهد كتاب موسى يشهد بأنّ هذا القرآن هو من عند الله. وقيل أقوال غير هذه ، هذا أصحّها.

(وَيَقُولُ (٢) الْأَشْهادُ) : جمع شاهد كأصحاب. ويحتمل أن يكون من الشهادة ، فيراد به الملائكة والأنبياء ، أو من الشهود بمعنى الحضور ، فيراد به من حضر الموقف.

__________________

(١) هود : ١٧

(٢) هود : ١٨

٣٥٥

(وَمَنْ (١) آمَنَ) : معطوف على (أَهْلَكَ) ، أى احمل أهلك ومن آمن من غيرهم.

(وَعَلى (٢) أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) : يعنى فى السفينة. واختار الزمخشرى (٣) أن يكون المعنى من ذرية من معك ، ويعنى به المؤمنين إلى يوم القيامة ، ف «من» على هذا لابتداء الغاية. والتقدير على أمم ناشئة ممن معك ، وعلى الأول تكون من لبيان الجنس.

(وَأُمَمٌ (٤) سَنُمَتِّعُهُمْ) ، أى بمتاع الدنيا ، وهم الكفار إلى يوم القيامة.

(وَلَمَّا (٥) جاءَ أَمْرُنا) : الأمر واحد الأمور ، ويحتمل أن يكون مصدر أمر يأمر ، أى أمرنا للريح ، أو لخزنتها ، ونحو ذلك.

فإن قلت : لم قال هنا وفى قصة شعيب (٦) : (وَلَمَّا) بالواو ، وفى قصة صالح (٧) ولوط (٨) : (فَلَمَّا) بالفاء؟

والجواب : على ما قال الزمخشرى (٩) : إنه وقع ذلك فى قصة صالح ولوط بعد الوعيد ، فجىء بالفاء التى تقتضى التسبيب ، كما تقول : وعدته ، فلما جاء الميعاد ، بخلاف قصة هود وشعيب فإنه لم يتقدم ذلك فيهما ، فعطف بالواو. وقيل فى الجواب غير هذا مما يطول ذكره.

(وَنَجَّيْناهُمْ (١٠) مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) : يحتمل أن يريد به عذاب الآخرة ، ولذلك عطف على النجاة الأولى التى أراد بها النجاة من الريح. ويحتمل أن يريد بالثانى أيضا الريح ، وكرره إعلاما بأنه عذاب غليظ وتعديد النعمة فى نجاتهم.

__________________

(١) هود : ٤٠

(٢) هود : ٤٨

(٣) الكشاف : ١ ـ ٤٤٣

(٤) هود : ٤٨

(٥) هود : ٥٨

(٦) هود : ٩٤

(٧) هود : ٦٦

(٨) هود : ٨٢

(٩) الكشاف : ١ ـ ٤٤٥

(١٠) هود : ٥٨

٣٥٦

(وَأُتْبِعُوا (١) فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) : حكم عليهم بهذا الحكم لكفرهم وإصرارهم حتى حلّ العذاب بهم ، وقد تيقّن أن هؤلاء وافوا على الكفر ، فيلعن الكافر الموافى على كفره ، ولا يلعن أحدا بعينه حتى البهيمة ؛ لأن معناها البعد من رحمة الله.

فإن قلت : لم جمع فى قصة هود بين اسم الإشارة ولفظ الدنيا الجارى عليه وصفا ، واكتفى فى قصة موسى (٢) باسم الإشارة دون التابع؟

والجواب : أنّ قصة هود عليه‌السلام فى هذه السورة أكثر استيفاء من قصة موسى عليه‌السلام بكثير ؛ فناسب الطول الطول ، والإيجاز الايجاز ، ولا يليق العكس.

(وَإِنَّنا (٣) لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا) : هذا من قول قوم صالح ، أخبروه أنهم فى شك من أقاويله ، وأن ذلك الشك يرتابون به زائدا إلى مرتبته من الشك ؛ ولا فرق بين هذه الحال وحالة التصميم على الكفر ، وإنما أثبتوا النونين الداخلين للتأكيد ، وأفرد الضمير فى تدعونا ، وألحقه فى سورة إبراهيم (٤) ، لأنها واردة على الأصل فى اتصال الضمير المنصوب بها. ثم يجوز حذف إحدى المضاعفين تخفيفا ، فتقول : إنا ، فتكتفى بالضمير عن النون المحذوفة ، وذلك من فصيح كلامهم. والأصل الأول.

(وَأَخَذَ (٥) الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) : إنما ذكر الفعل المسند إلى الصيحة ، لأنها بمعنى الصياح وتأنيثها غير حقيقى. وقيل جاز ذلك وهى مؤنثة لما فصل بين الفعل وبينها [٢٨١ ب] كما قالوا : حضر

__________________

(١) هود : ٦٠

(٢) هود : ٩٩

(٣) هود : ٦٢

(٤) إبراهيم : ٩

(٥) هود : ٦٧

٣٥٧

القاضى اليوم امرأة. والأول أصوب. وإنما أسقط تاء التأنيث من هذه القصة وأثبتها فى قصة شعيب (١) ؛ لأنه على ضربين : حقيقى ، وغير حقيقى ، فالحقيقى لا تحذف تاء التأنيث من فعله غالبا إلا أن يقع فصل ، نحو قام اليوم هند ، وكلما كثر الفصل حسن الحذف. ومن كلامهم ، كما قدمنا لو الإشارة مع الحقيقى ما لم يكن جمعا.

وأما التأنيث غير الحقيقى فالحذف فيه مع الفصل حسن ؛ قال تعالى : (فَمَنْ (٢) جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وهو كثير ؛ فإن زاد الفصل ازداد حسنا ، والحذف والإثبات هنا جائزان ؛ فجاء الفعل فى هذه الآية على الأول ، وفى قصة شعيب على الوجه الثانى ، جمعا بين الوجهين ، إذ الآيتان فى سورة واحدة ، وتقديما للأولى على ما ينبغى ، وهذا ما لم يكن الفاعل ضمير مؤنث فله أحكام تخصه. والله أعلم.

(وَلَمَّا (٣) جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) : قد قدمنا أنه أعاد الضمير ، لظنّه أنهم من بنى آدم وخوفه عليهم من قومه ، وقوله لهم : (لَوْ أَنَ (٤) لِي بِكُمْ قُوَّةً). ولما قالها قالوا له : إنّ ركنك لشديد.

فإن قلت : كيف ينطق بهذا وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يرحم الله لوطا ، لقد كان يأوى إلى ركن شديد؟ وفى الحديث : لم يبعث الله نبيئا إلا فى منعة وعزة؟

والجواب : أنه خشى عليه‌السلام أن يمهل الله أولئك العصابة حتى يعصوه فى الأضياف ، كما أمهلهم فيما قبل ذلك من معاصيهم ، فتمنّى ركنا من

__________________

(١) هود : ٩٤ : وأخذت الذين ظلموا الصيحة.

(٢) البقرة : ٢٧٥

(٣) هود : ٧٧

(٤) هود : ٨٠

٣٥٨

البشر يعاجلهم ، وهو يعلم أنّ الله تعالى من وراء عقابهم ، وأيضا فإنّ قومه إنما يمنعونه هو لو أرادوه بضرّ ، وقد كان المطيع فيهم قليلا.

ولقد أصيب نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غير ما موطن من شجّ رأسه ، وكسر رباعيته ، وطرح سلا الجزور على ظهره ، ولم ينطق بشيء من ذلك عزامة منه ونجدة.

فإن قلت : لم حذف من هذه الآية إن الزائدة فى العنكبوت (١)؟

والجواب : أنها كثيرا ما تزاد ، ولما وردت هذه الآية بلفظها مرتين ، ردت الثانية بزيادتها ليحصل بين التّواردين ما يرفع تثاقل اللفظ المتكرر.

فإن قلت : فإنه قد تباعد ما بين الآيتين ، ومثل هذا لا يلحظ فيه ما ذكرت.

فأقول : لما كان اللفظ اللفظ ، وكان زيادة «إن» وعدم زيادتها هنا مقيس فصيح جىء بالجائزين معا ، وتأخرت الزيادة ، إذ هى غير الأصل إلى المتأخر من الآيتين.

فإن قلت : إن قوله تعالى : (فَلَمَّا (٢) أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) لم يقع فيه تكرار ، فلم زيد (أَنْ) ولم يأت على الأصل؟

قلت : لما كان مجىء البشير إلى يعقوب عليه‌السلام بعد طول الزمن ، وتباعد المدة ، ناسب ذلك زيادة (أَنْ) لما فى مقتضى وصفها من التراخى ، فورد كلّ من هذا على ما يجب.

(وَلَقَدْ (٣) أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) : قيل هو مشتق من

__________________

(١) العنكبوت (٣٣) : ولما أن جاءت رسلنا لوطا ...

(٢) يوسف : ٩٦

(٣) هود : ٩٦

٣٥٩

السليط الذى يستضاء به. وقيل : إنه مسلط على كل منّا ومخاصم ، وزاد السلطان فى هذه الآية وفى سورة غافر زيادة قوله : (وَسُلْطانٍ (١) مُبِينٍ) ، وورد فى سورة يونس (٢) والمؤمنين (٣) ذكر تأييد موسى بأخيه هارون عليها‌السلام ، ولم يزد ذلك فى غيرهما. وانفردت سورة المؤمنين بالجمع بين تأييده عليه‌السلام بأخيه وسلطان مبين ، لأنه حيث يذكر سورة المرسل إليهم وقبح جوابهم يقال أبدا بتأييده بأخيه أو عضده بالآيات مما يقتضى القهر والإرغام ، وهو المعبّر عنه بالسلطان المبين ، فيكون ذلك فى مقابلة شنيع مجاوبتهم وسوء ردّهم.

وبالجملة فإنه إذا اجتمع إفصاحهم بالتكذيب واستكبارهم جمع فى التمهيد المتقدم بين التأييد بهارون والسلطان المبين ، وحيث يصرح بالتكذيب أو ما يعطيه بينا ، كقوله (٤) : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ).

(وَما كانَ (٥) رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) : هذا المجرور فى موضع الحال من (رَبُّكَ) ، ويحتمل أن يريد بظلم منه تعالى لهم. قال الطبرى : وقيل يحتمل أن يريد بشرك منهم ، وهم مصلحون فى أعمالهم وسيرهم ، وعدل بعضهم فى بعض ، أى أنهم لا بد من معصية تقترن بكفرهم. وهذا ضعيف ، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قيل إن الله تعالى يمهل الدّول على الكفر ، ولا يمهلها على الظلم والجور ، ولو عكس لكان ذلك متّجها [٢٨٢ ا] ، أى ما كان الله ليعذّب أمة بظلم فى معاصيهم وهم مصلحون فى الإيمان. والاحتمال الأول أصحّ إن شاء الله.

وجيء بالفعل هنا (لِيُهْلِكَ) إشارة إلى التكرر بحسب ما يكون منهم ؛ فلو كان فى كل أمة وقرن بعد قرن من ينهى عن الفساد والظلم لما أخذوا

__________________

(١) غافر : ٢٣

(٢) يونس : ٦٨

(٣) المؤمنون : ٤٥

(٤) هود : ٩٧

(٥) هود : ١١٧

٣٦٠