معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٧

كما يقال لرئيس القوم أم القوم. وقيل لأن حرمتها كحرمة القرآن كله. وقيل لأن مفزع أهل الإيمان إليها. وقيل : لأنها محكمة ، لأن المحكمات أم القرآن (١).

وسميت الوافية لأنها وافية بما فى القرآن من المعانى ، أو لأنها لا تقبل التنصيف ، فإن كلّ سورة من القرآن لو قرئ نصفها فى كل ركعة والنصف الثانى فى أخرى لجاز بخلافها. وقال المرسى : لأنها جمعت ما لله والعبد.

وسميت بالكنز لما روى البيهقي فى الشعب من حديث أنس مرفوعا (٢) : إن الله أعطانى فيما منّ به علىّ أنى أعطيت فاتحة الكتاب. وهى من كنوز العرش. وفى رواية عن أبى أمامة ، قال : أربع آيات نزلن من كنز العرش لم ينزل منه شىء غيرهنّ : أم الكتاب ، وآية الكرسى ، وخاتمة سورة البقرة ، والكوثر ، يعنى خاصة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وسميت الكافية ، لأنها تكفى فى الصلاة عن غيرها ، ولا يكفى غيرها عنها.

والأساس ، لأنها أصل القرآن ، وأول سورة فيه.

وسورة الحمد ، وسورة الشكر ، وسورة الحمد الأولى. وسورة الحمد القصوى (٣) ، والواقية ، والشافية ، والشفاء ، والصلاة ؛ لحديث : قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ؛ أى السورة. وسورة الدعاء ؛ لاشتمالها عليه فى قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ)(٤).

وتعليم المسألة ، لأن فيها آداب السؤال ، ولها أسماء غير هذه ؛ وقد ذكر الله الحمد من سبعة نفر ، فوجد كلّ واحد منهم كرامة : لآدم حين عطس ؛ قال :

__________________

(١) فى الإتقان : أم الكتاب.

(٢) والإتقان : ١١٠

(٣) فى الاتقان : القصرى.

(٤) الفاتحة : ٦

٢٤١

الحمد لله ، فوجد الرحمة من الله بقوله : يرحمك الله. ونوح قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(١) ، فوجد السلامة بقوله : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ)(٢). والخليل قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)(٣) ، فوجد الفداء : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)(٤). وداود وسليمان قالا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)(٥) ، فوجد النبوءة والملك بقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٦). ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره الله تعالى بالحمد ، فوجد الرّفعة والشرف بقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(٧).

وأنت يا محمدى إذا أكثرت من هذه السورة وطلبت منه سبحانه شيئا أثراك لا تناله وقد أعطاك الله ما أعطى الأنبياء؟ فاحمد الله الذى هداك لها ، وخصّك بهذا النبىّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله أفضل صلاة وأزكى تسليم.

فإن قلت : هل للسور غيرها من القرآن هذه التسمية أو لها اسم واحد يخصّها؟

فالجواب : قد قدمنا فى حرف اللام تسمية سور باسم واحد ، ونذكر لك الآن تسمية بعض السور بأسماء تتمة للفائدة :

فالبقرة (٨) تسمّى بفسطاط القرآن لما جمع فيها من الأحكام التى لم تذكر فى غيرها. وسنام القرآن ، لأنها أعلاه.

__________________

(١) المؤمنون : ٢٨

(٢) هود : ٤٨

(٣) إبراهيم : ٣٩

(٤) الصافات : ١٠٧

(٥) النمل : ١٥

(٦) الأنبياء : ٧٩

(٧) الشرح : ١

(٨) الإتقان : ١ ـ ١٥٥

٢٤٢

وآل عمران : اسمها فى التوراة طيبة ، وفى صحيح مسلم تسميتها والبقرة المزهارين (١).

والمائدة : تسمى أيضا العقود ، والمنقذة ؛ قال ابن الغرس : لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب.

والأنفال : تسمى سورة بدر.

وبراءة : تسمى التّوبة ؛ لقوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ)(٢). والفاضحة لأن فيها : ومنهم ، ومنهم ؛ قال ابن عباس : حتى ظننا أنه لم يبق منا أحد إلا ذكر فيها. وسورة العذاب ؛ قال حذيفة : تسمونها سورة التوبة وهى سورة العذاب. وقال عمر : هى إلى العذاب أقرب ، ما كادت تقلع عن الناس حتى ما كادت تبقى منهم أحدا. والمشقشقة لقول ابن عمر : ما كنا ندعوها إلا المشقشقة ؛ أى البراءة (٣) من النفاق. والنقرة لأنها نقرت عما فى قلوب المشركين ؛ قاله ابن عمر. والبحوث ، بفتح الباء ، لما أخرج الحاكم عن المقداد ؛ قيل له : لو قعدت العام عن [٢٦١ ا] الغزو! قال : أبت علينا البحوث ، يعنى براءة ... الحديث. والحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ؛ ذكره ابن الغرس. والمثيرة لما أخرج ابن أبى حاتم عن عبادة (٤) ، قال : كانت هذه السورة تسمى الفاضحة ، فضحت المنافقين ، وكان يقال لها المثيرة ؛ أنبأت بمثالبهم وعوراتهم. وحكى ابن الغرس من أسمائها المبعثرة ، وأظنه تصحيف المنفّرة ؛ فإن صحّ كملت الأسماء عشرة ، ثم رأيته كذلك ، أعنى المبعثرة بخط السخاوى فى جمال القراء ؛ وقال : لأنها بعثرت عن أسرار المنافقين. وذكر أيضا فيه من أسمائها المخزية ، والمنكّلة ، والمشددة (٥) ، والمدمدمة.

__________________

(١) فى الإتقان : الزهراوين.

(٢) التوبة : ١١٧

(٣) فى الاتقان : المبرئة.

(٤) فى الإتقان : قتادة.

(٥) فى الإتقان : المشردة.

٢٤٣

النحل : قال قتادة : تسمى سورة النعم ، لأنّ الله عدّد فيها من النعم على عباده.

الإسراء : تسمى سورة سبحان ، وسورة بنى إسرائيل.

الكهف : سماها ابن مردويه فى الحديث سورة أصحاب الكهف. وروى البيهقى من حديث ابن عباس ـ مرفوعا ـ أنها تدعى فى التوراة الحائلة ؛ تحول بين النار وبين قارئها.

طه : تسمى سورة الكليم ؛ ذكره السخاوى فى جمال القرّاء.

الشعراء : تسمى سورة الجامعة. ذكره الإمام مالك.

النمل : تسمى سورة سليمان.

السجدة : تسمى سورة المضاجع ؛ لقوله تعالى (١) : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ).

فاطر : تسمى سورة الملائكة.

يس : سماها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلب القرآن. وفى حديث أبى بكر ـ مرفوعا : سورة يس تدعى فى التوراة المعمّة ؛ تعمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة ، وتدعى المدافعة (٢) والقاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضى له كلّ حاجة.

الزمر : تسمى الغرف.

غافر : تسعى سورة الطّول والمؤمن ؛ لقوله فيها (٣) : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ).

فصلت : تسمى السجدة ، وسورة المصابيح.

الجاثية : تسمى الشريعة ، وسورة الدهر ؛ حكاه الكرمانى فى العجائب.

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسمّى القتال.

__________________

(١) السجدة : ١٦

(٢) فى الاتقان : الدافعة.

(٣) غافر : ٢٨

٢٤٤

ق : تسمى الباسقات. اقتربت تسمى القمر ؛ وأخرج البيهقى عن ابن عباس أنها تدعى فى التوراة المبيّضة ؛ تبيّض وجه صاحبها يوم تسودّ الوجوه.

الرحمن : سميت فى حديث عروس القرآن ، أخرجه البيهقى عن علىّ مرفوعا.

المجادلة : سميت فى مصحف أبىّ الظهار.

الحشر : سمّاها ابن عباس سورة بنى النّضير ؛ قال ابن حجر : كأنه كره تسميتها بالحشر ، لئلا يظنّ أن المراد يوم القيامة ؛ وإنما المراد به هنا إخراج بنى النّضير.

الممتحنة ؛ قال ابن حجر : المشهور فى هذه التسمية أنها بفتح الحاء ، وقد تكسر ؛ فعلى الأول هى صفة المرأة التى نزلت السورة بسببها ، وعلى الثانى هى صفة السورة كما قيل لبراءة الفاضحة. وفى جمال القرّاء : تسمّى أيضا سورة الامتحان ، وسورة المودّة.

الصف : تسمى أيضا سورة الحواريين. الطلاق تسمى سورة النساء القصرى ؛ لأن الطول والقصر أمر نسبى. وقد أخرج البخارى عن زيد بن ثابت أنه قال : طول الطوليين ، وأراد بذلك سورة الأعراف. والتحريم يقال لها المتحرّم. وسورة لم تحرّم. سورة الملك تسمى المانعة ، لأنها تمنع صاحبها من عذاب القبر ، وأخرج الترمذى من حديث ابن عباس مرفوعا هى المانعة هى المنجية ، تنجيه من عذاب القبر. وقال ابن مسعود : كنا نسميها فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المانعة. وفى جمال القراء تسمى أيضا الواقية والمنّاعة.

سأل : تسمى المعارج ، والواقع. عمّ : يقال لها النّبأ ، والتساؤل ، والمعصرات.

لم يكن : تسمى سورة أهل الكتب (١) ، كذلك سمّيت فى مصحف أبىّ. وسورة البيّنة ، وسورة القيامة ، وسورة البرية ، وسورة الانفكاك ذكر ذلك فى جمال القراء.

__________________

(١) الإتقان : الكتاب.

٢٤٥

(أَرَأَيْتَ) : تسمى سورة الدّين ، وسورة الماعون. الكافرون : تسمى المشقشقة ، وتسمى أيضا سورة العبادة ، وذكره فى جمال القراء. النصر : تسمى سورة التوديع ، لما فيها من الإيماء إلى وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. تبت : سورة المسد. والإخلاص تسمى سورة الأساس ؛ لاشتمالها على توحيد الله ، وهو أساس [٢٦١] الدين. قال : والفلق والناس يقال لهما المعوّذتان بكسر الواو ، والمتشقشقتان (١) ، من قولهم : خطيب مشقشق. فهذا ما وقفت عليه.

وعلى القول بأن أسماء السور المفتتح بالحروف المقطعة هى أسماء لها ، لكن (٢) منها ما هو أحدى ، كص ، ون ، وق. وثنائى ، كطه ، ويس ، والحواميم ، وثلاثى مثل الم ، طسم. ورباعى : المر ، المص. وخماسى : كهيعص ، وحم عسق. وقد أكثر الناس الكلام على هذه الحروف المقطعة. والذى عندى أن الله وضعها لإطفاء تشغيب الكفّار حيث قالوا (٣) : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) ، فأتى الله بها ليسمعوها لغرابتها ، ثم يبلغ الرسول رسالته. كأنّ الله يقول لهم : إن لم تصدقوه فأتوا بسورة من مثله فى مثل هذه الحروف وأنتم لا تفهمون معناها ، وهذه دلالة لنبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الله ذكر فى الكتب الماضية أنه يخرج فى آخر الزمان رسول ، وعلامته أن تكون بعض رءوس سور كتابه الحروف المقطعة ، وهى أسماء الله فرّقها ووضعها على بعض السور لشرفها عنده.

(سائِغاً لِلشَّارِبِينَ)(٤) : فقد قدمنا أنه صفة للبن ـ سهلا للشرب ، حتى إنه لم يغصّ به أحد. وقد جعل فيه غنية عن الطعام والشراب ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين شربه : اللهم زدنا منه سكرا ، يعنى الخمر ، ونزل ذلك قبس تحريمها. فهى منسوخة بالتحريم. وقيل : إن هذا على وجه المنفعة التى فى الخمر ، ولا تعرّض

__________________

(١) فى الإتقان : والمشقشقتان.

(٢) البرهان : ١ ـ ١٦٥

(٣) فصلت : ٢٦

(٤) النحل : ٦٦

٢٤٦

فيه لتحليل ولا تحريم ؛ فلا نسخ. وقيل السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخلّ والرب ، والرزق الحسن : العنب والتمر والزبيب.

(سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)(١) : قد قدمنا أن السرابيل القمص. وذكر وقاية الحر ولم يذكر وقاية البرد ؛ لأنه أهم عندهم لحرارة بلادهم. والخطاب معهم.

(سَبَباً)(٢) ؛ هو الطريق الموصّل إلى المقصود ، من علم أو قدرة أو غير ذلك. وأصل السبب الحبل ؛ ومنه (٣) : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ). (فَأَتْبَعَ سَبَباً)(٤) ، فسمى الطريق سببا ، لأنه يتوصّل بسلوكه إلى المقصود. وأما ((٥) أَسْبابَ السَّماواتِ) فمعناه أبوابها.

(سَمِيًّا)(٦) ؛ أى نظيرا ، وهذا مدح ليحيى عليه‌السلام ، وسمّاه الله قبل وجوده ؛ وبهذه الآية احتجّ أهل السنّة على المعتزلة ، لأنه لو كان الاسم غير المسمّى لكان المخاطب غير يحيى ؛ وقد قال له : (يا يَحْيى (٧) خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ). وقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)(٨) ـ لو كان الاسم غير المسمى لكان قد أمر بأن يسبّح الاسم دونه ، وهذا لا يقوله محصل. فدلّ ذلك على أن الاسم هو المسمّى.

(ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)(٩) : من التسوية بين الأشياء وجعلها سويّة ، بمعنى أتقن وأحسن ، ومنه : (فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ)(١٠).

(سَرِيًّا)(١١) : قال مجاهد : هو بالسريانية : نهرا. وقال سعيد بن جبير :

__________________

(١) النحل : ٨١

(٢) الكهف : ٨٥

(٣) الحج : ١٥

(٤) الكهف : ٨٥

(٥) غافر : ٣٧

(٦) مريم : ٧

(٧) مريم : ١٢

(٨) الأعلى : ١

(٩) الكهف : ٩٦

(١٠) الانفطار : ٧

(١١) مريم : ٢٤

٢٤٧

بالنبطية. وحكى شيذلة أنه باليونانية ، وعلى كلّ قول ما كان قريبا من جذع النخلة ، فسّره عليه الصلاة والسلام بذلك. وقيل يعنى عيسى ، فإن السرى الرجل الكريم.

(سَوِيًّا)(١) : أى قويما.

(سَلامٌ عَلَيْكَ)(٢) : إنما سلم إبراهيم سلام موادعة ومفارقة لا تحيّة ؛ لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز ، فإذا سلّم عليه الكافر يقول له : وعليكم ، أو عليك السلام ، بكسر السين ، وهى الحجارة. وفى الحديث : إنّ عائشة قالت ليهود سلموا : وعليكم السام واللّعنة. فقال لها عليه الصلاة والسلام : مهلا يا عائشة ، فإن الله رفيق يحبّ الرفق. فقالت : أو لم تسمع ما قالوا؟ قالوا : السام عليكم. فقال : قد قلت لهم وعليكم.

(سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)(٣) : لما طلب آزر من إبراهيم الاستغفار وعده أن يدعو له. قال ابن عطية : معناه سأدعو الله أن يهديك ، فيغفر لك بإيمانك. وذلك لأن الاستغفار للكافر لا يجوز. وقيل : وعده أن يستغفر له مع كفره ، ولعله كان لم يعلم أنّ الله لا يغفر للكافر حتى أعلمه الله بذلك. ويقوّى هذا قوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ)(٤). ومثل هذا قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى طالب : " لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك". وروى أنه لما نزلت (٥) : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [٢٦٢] فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لأزيدنّ على السبعين ، فلما فعل عبد الله بن أبى وأصحابه ما فعلوا ، وقولهم : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)(٦) ، وتوليتهم عن

__________________

(١) مريم : ١٧

(٢) مريم : ٤٧

(٣) مريم : ٤٧

(٤) الشعراء : ٨٦

(٥) التوبة : ٨٠

(٦) المنافقون : ٨

٢٤٨

استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم شدّد الله عليهم بقوله (١) : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي ...) الآية. وفى هذا نظر ، لأن هذه السورة نزلت فى غزوة بنى المصطلق قبل الآية الأخرى بمدة. وروى أنه إذا كان يوم القيامة يجعل الله آزر تحت قدم إبراهيم على صورة كبش ملطّخ بالدم ويؤمر إبراهيم بذبحه ، لأنه لما حملت أمّه بإبراهيم اشتهى أن يكون غلاما فيذبحه تحت رجل النمرود رضاء له فجازاه الله بذلك ، وحوّله كبشا ، لأنه دعا ألّا يخزيه فى أبيه ، كذلك أهل مصر تمنّى كلّ واحد منهم أن يكون يوسف عبدا له ، فجعلهم الله عبيده.

وأنت يا عبد الله إذا كانت نيّتك ومرادك غير عصيان الله يعاملك على نيتك ومرادك فيجعل سيئاتك على الكفار ، ويجعلهم فداء لك عقوبة لهم ، وعلى إبليس الذى كان سببا فى إغوائك ؛ ألا تراه سبحانه يقول لك : إذا قلت أذنبت عفوت وصفحت ، وإذا قلت اللهم اغفر لي يقول لك : قد غفرت لك وأنا الغفور الرحيم.

(سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ)(٢) ؛ من قوله : لئن بعثت كما يزعم محمد ليكوننّ لى هناك مال وولد ، وإنما جعله مستقبلا ؛ لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب فى المستقبل.

(سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)(٣) : الضمير للكفار ، وفى عبادتهم للمعبودين ، وهذا كقولهم : (ما كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

(سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)(٤) ، هو المحبة والقبول الذى يجعله الله لمن أطاعه. وقد صحّ فى الحديث أن الله ينادى : يأهل السماء ، إنى أحبّ فلانا

__________________

(١) المنافقون : ٦

(٢) مريم : ٧٩

(٣) مريم : ٨٢

(٤) مريم : ٩٦

٢٤٩

فاحبّوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول فى الأرض. وقال بعضهم : يكتب جبريل له صحبة فيضعها فى الماء المشروب منه. وقيل : إنها نزلت فى علىّ ابن أبى طالب. والأول أظهر لعمومه ، والعيان يشهد بذلك ، وهذه أول كرامة يكرم الله بها أولياءه.

(سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)(١) : يعنى أن موسى لما أخذ العصا عادت كما كانت أول مرة ؛ وإنما أمره بالإلقاء أوّلا ليستأنس بها ، وانتصب (سِيرَتَهَا) على أنه ظرف أو مفعول بإسقاط حرف الجر.

(سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً)(٢) ، أى أنهج لكم فى الأرض طرفا تمشون فيها. وأما قوله تعالى آمرا للنحل : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً)(٣) ـ فقد قدمنا أنّ الله أمرها بالرجوع. وقيل بالذهاب ؛ قال أبو حيان : إن أريد بالطريق الحسىّ فهو مفعول به ، وإن أريد المعنوى فهو ظرف.

(سَحِيقٍ)(٤) : بعيد.

(سَخَّرْناها لَكُمْ)(٥) : أى كما أمرناكم بهذا كلّه سخرناها لكم. وقال الزمخشرى : التقدير مثل التسخير الذى علمتم سخّرناها لكم.

(سَبْعَ طَرائِقَ)(٦) : سماوات ، واحدتها طريقة ، وسميّت بذلك ؛ لأنها بعضها فوق بعض ، كمطارقة النعل. وقيل : يعنى الأفلاك ، لأنها طرق الكواكب.

(سامِراً)(٧) : مشتق من السمر ، وهو الجلوس بالليل للحديث ، وكانت قريش تجتمع فى لليل بالمسجد يتحدثون بسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) طه : ٢١

(٢) طه : ٥٣

(٣) النحل : ٦٩

(٤) الحج : ٣١

(٥) الحج : ٣٦

(٦) المؤمنون : ١٧

(٧) المؤمنون : ٦٧

٢٥٠

والمعنى أنهم سامرون بذكره وسبّه. وسامرا مفردا بمعنى الجمع ، وهو منصوب على الحال.

(سراب) (١) : هو ما يرى فى الفلوات من ضوء الشمس فى الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجرى على وجه الأرض. وشبّه الله به أعمال الكفار فى الآخرة بأنها لا تنفعهم ، بل يضمحلّ ثوابها كما يضمحل السراب. والتمثيل الثانى فى قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ)(٢) يقتضى بطلان أعمالهم فى الدنيا ، وأنها فى غاية الفساد والضلال ، كالظلمات التى بعضها فوق بعض.

(سَنا بَرْقِهِ)(٣) : السنا ـ بالقصر الضوء ، وبالمد المجد والشرف.

(سَبَإٍ)(٤) : قبيلة من العرب ، سمّيت باسم أبيها الذى تناسلت منه. وقيل باسم أمها. وقيل باسم موضعها ، والأول أشهر ، لأنه ورد فى الحديث [٢٦٢ ب].

(سَرْمَداً)(٥) : دائما ، وفيه تعديد النعم على عبيده ، بحيث جعل لهم اختلاف الملوان ، هذا لراحتهم ، وهذا لعنائهم وشغلهم ؛ وخلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكورا.

(سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ)(٦) ؛ أى إذا نصركم الله أيها المؤمنون ، فزال الخوف رجع المنافقون إلى إذايتكم بالسبّ وتنقّص الشريعة ، وإذا جاء الخوف نظروا إليكم ولإخوانكم من شدة خوفهم ، تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت ، وهو عبارة عن التكلم بكلام مستكره. ومعنى (حِدادٍ) فصحاء قادرين على رفع الصوت ، لأن السلق والصلق رفع الصوت.

__________________

(١) النور : ٣٩

(٢) النور : ٤٠

(٣) النور : ٤٣

(٤) النمل : ٢٢ ، سبأ : ١٥

(٥) القصص : ٧١ ، ٧٢

(٦) الأحزاب : ١٩

٢٥١

(سابِغاتٍ)(١) : كاملات ، والضمير يعود على الدّروع التى كان يعملها داود من الحديد ، لأنه كان تحت يده كالعجين يصنع به ما يشاء ، وهو المراد بقوله : (وَقَدِّرْ (٢) فِي السَّرْدِ) ؛ أى قدّرها بألّا تعمل الحلقة صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها. وقيل : لا تجعل المسراد رقيقا ولا غليظا. والسرد : الخرز أيضا. ويقال للإشفى مسرد ومسراد.

(سَيَهْدِينِ)(٣) : هذا من قول إبراهيم بعد خروجه من النار ؛ وأراد أنه ذاهب إلى الله ، مهاجر إلى أرض الشام. وقيل : إنه قال ذلك قبل أن يطرح فى النار ، وأراد أنه ذاهب إلى ربّه بالموت ؛ لأنه ظن أن النار تحرقه. وسيهدين على القول الأول يعنى الهدى إلى صلاح الدّين والدنيا. وعلى القول الثانى إلى الجنة. وقالت المتصوفة : معناه ذاهب إلى ربّى بقلبى ، أى مقبل على الله بكليته ، تارك لما سواه.

(ساحة البيت) (٤) : فناؤه. والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من محذور.

(سَواءَ)(٥) الطريق : القصد الواضح والطريق اللائح.

(سَلَماً لِرَجُلٍ)(٦) : أى خالص. وقرئ بألف. والمعنى واحد.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ..)(٧) الآية : سماهم بالمخلفين لأنهم تخلّفوا عن غزوة الحديبية ، والمراد بالأعراب أهل البوادى ، كمزينة وجهينة ، ومن كان حول المدينة ، لأنهم ظنوا أنه لا يرجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته تلك ، ففضحهم الله فى هذه الآية ، وأعلم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) سبأ : ١١

(٢) سبأ : ١١

(٣) الزخرف : ٢٧

(٤) الصافات ١٧٧ : فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ.

(٥) القصص ٢٢ : سَواءَ السَّبِيلِ.

(٦) الزمر : ٢٩

(٧) الفتح : ١١

٢٥٢

بقولهم واغترارهم قبل رجوعه إليهم ، فكان كما قال : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا ...) الآية.

فإن قلت : لم أبرز الضمير فى هذه الآية وحذفه فيما بعدها؟

فالجواب أن المخبر عنهم من المخلّفين طلبوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستغفار لهم لتخلّفهم عنه ، وأفردوه بخطابهم ، إذ ليس ذلك من مطلوبهم لغيره ، فوردت العبارة عن ذلك بإفراد الخطاب ، وأعلم الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفاقهم وكذبهم فى اعتذارهم بقوله (١) : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).

وأما الآية الثانية فليس قولهم (٢) : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) خطابا خاصّا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل له وللمؤمنين ، والسياق يفصح بذلك ، وما أمر به عليه‌السلام من مجاوبته فى قوله لهم (٣) : (لَنْ تَتَّبِعُونا) ، فلم يرد هنا إفراده عليه‌السلام بخطابهم له كما ورد فى الأولى ، وجاء كلّ على ما يناسبه.

فإن قلت : إن خطابهم له خاصّ كالأول ، ولكن خاطبوه مخاطبة التعظيم بقولهم : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ).

قلت : وعلى فرض هذا فمراعاة الألفاظ فى النظم أكيدة جدّا ، وبها إحرازه ، وعلى هذا لا يلائم هنا الخطاب كيفما هو إلا بصورة ما للجميع. والله أعلم بالمراد.

(سَكْرَةُ الْمَوْتِ)(٤) : أى غصصه ومشقّاته. وقد قدمنا الحديث أنه أشد من سبعين ضربة بالسيف ، ولما حضرته الوفاة جعل يده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى إباء ماء ومسح بها وجهه وقال : لا إله إلا الله ، إن للموت سكرات ،

__________________

(١) الفتح : ١١

(٢) الفتح : ١٥

(٣) الفتح : ١٥

(٤) ق : ١٩

٢٥٣

اللهم الرفيق الأعلى. ولما بلغ روحه سرته قال : يا جبريل ، ما أشدّ مرارة الموت ، فولّى جبريل وجهه ؛ فقال : يا جبريل ، أكرهت النظر إلى وجهى؟ فقال : يا حبيب الله ، ومن يقدر أن ينظر إليك وأنت تعالج الموت!

هذا نبيك [٢١٣ ا] المعصوم قاسى منه ما سمعت ، ووعك وعك رجلين كما صحّ ، فكيف بك أيها المغرور لا تبكى على نفسك ، وتعالج هواك لعلّه يرحمك ويسمع أنينك!

(سائِقٌ وَشَهِيدٌ)(١) : السائق : ملك يسوقه ، والشهيد يشهد عليه ، وهو الأظهر. وقيل صحائف الأعمال. وقيل : جوارح الإنسان. لقوله تعالى : (يَوْمَ (٢) تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ...) الآية.

(سال (٣) ، وسأل) : بالهمز : طلب الشيء والاستفهام عنه ، وسال بغير همز من المعنيين المذكورين ، ومن السيل. ومنه سأل سائل. فمن قرأه بالهمز احتمل معنيين : أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء ، أى دعا داع بعذاب ، وتكون الإشارة إلى قول الكفار : «أمطر (عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٤) ، وكان الذى قالها النّضر بن الحارث. والآخر أن يكون بمعنى الاستخبار ؛ أى سأل سائل عن عذاب واقع ، والباء على هذا بمعنى عن ، وتكون الإشارة إلى قولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٥) ، وشبه ذلك.

وأما من قرأ سال ـ بغير همز ـ فيحتمل وجهين : الأول أن يكون مخفّفا من المهموز ، فيكون فيه المعنيان المذكوران. والثانى أن يكون من سال السيل إذا جرى ، ويؤيّد ذلك قراءة ابن عباس سال سيل ، وتكون الباء (٦) على

__________________

(١) ق : ٢١

(٢) النور : ٢٤

(٣) المعارج : ١

(٤) الأنفال : ٣٢

(٥) يونس : ٤٨

(٦) فى قوله تعالى : بعذاب واقع.

٢٥٤

هذا كقولك : ذهبت بزيد. وإذا كان من السيل احتمل وجهين : أحدهما أن يكون شبّه فى شدّته وسرعة وقوعه بالسيل. وثانيهما أن يكون حقيقة. قال زيد بن ثابت : فى جهنم واد يقال له سايل. فتلخّص من هذا أنه فى القراءة بالهمز يحتمل وجهين ، وفى القراءة بغير همز أربعة معان.

(سقف مرفوع) (١) : يعنى السماء.

(ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ)(٢) : كانوا قد طلبوا أن ينزّل عليهم كسفا من السماء ، فأخبر الله أنهم لو رأوه ساقطا عليهم لبلغ بهم الطّغيان والجهل والعناد أن يقولوا : ليس بكسف ، وإنما هو سحاب مركوم ، أى كثيف بعضه فوق بعض.

(سامِدُونَ)(٣) : لاعبون ولاهون. وقيل : غافلون. والسامد : الساكت والحزين الخاشع قلبه ، فله على هذا خمسة معان.

(سائِحاتٍ)(٤) : من ساح فى الأرض إذا ذهب فيها. وقيل معناه صائمات ، وقد روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل معناه مهاجرات. والسائحون من الأصناف الثمانية المذكورة فى سورة براءة (٥) هم الذين اختاروا الحقّ على كل شىء وثبتوا على ذلك ، وتواصوا بالحق ، وتواصوا بالصبر ، وهؤلاء يقال لهم الأبدال وأرباب الكمال ، وهم سبعة رجال قد تبدّلت عوالمهم وتخلّصت من الشوائب البشرية جواهر هم ؛ فأخذوا بالسياحة فى البلدان لطلب لقاء الرجال ؛ إذ هى كبيعة الخير ، وفى الباطن لنيل المقامات والأحوال الواردة من عين الجود بالجلال والكمال والجمال. وأما الساجدون فهم الذين أقعدت رسومهم ، وفنيت بالمجاهدة

__________________

(١) الطور : ٥ : والسقف المرفوع.

(٢) الطور : ٤٤

(٣) النجم : ٦١

(٤) التحريم : ٥

(٥) التوبة : ١١٢

٢٥٥

نفوسهم وجسومهم ؛ وهم أرباب الفناء المتجردون عن كل المناقد ؛ تخلّصوا من رقّ البشرية لتحقّقهم أنه اللطيف الخبير السّميع البصير ، عاشوا عيشا تاما كاملا ، فإنّ ترك التدبير لله عيش ، كما أن التدبير نصف العيش ، ويقال لهذا الوجه الأوتاد ، وهم أربعة رجال ، مقام كلّ واحد مقام ركن من الأركان : شرقا ، وغربا ، وجنوبا ، وشمالا ، واحدا يتصرف عندهم لتجريدك عن الكون وثبوتك بالحق. ومنه قول الشيخ القطب ابن العريف : من شهد الخلق للفعل لهم فقد فاز ، ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ، ومن شهدهم عين العدم فقد وصل ، والكلام هنا طويل ، وعلى هذه الآية الكريمة بنى التصوف ، وسبيل التعرف ، وقد صنّف فيها من ذاق أهلها وعرفهم تأليفا عجيبا ورتّبهم ترتيبا غريبا لا ينبغى لنا أن نحوم حول حماه ، ولا نتعرض لما قد تعاطاه ، [٢٦٣ ب] لأنا لسنا منهم فنستغفر الله من الكلام معهم ، وكان الأولى بنا اشتغالنا عن هذا بالانتباه من رقدة الغفلة ، وتخليصنا من ورطة الفترة ، وإيقاظنا من السّكرة ، لكن نسأله سبحانه أن يهب لنا نور التنبيه من ظلمة هذه النفس ، فيظهر لنا بمجيئها وقبيح ذنبها ، فنقلع فى الحال ، ونعزم على ألّا نعود فى الاستقبال ، ونبحث على ما خفى من دسائس النفس ، ونستعد للمنازلة فى الرّمس (١) ، ونشمّر (٢) للمعاملة فى المحبة ، ونطلب ممن نظر فى هذا الكتاب بالدعاء إلى العبادة ظاهرا وباطنا فإنما نحن به وله.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)(٣) : أصل الخرطوم أنف السبع ، ثم استعير للإنسان استخفافا به وتقبيحا له ؛ والمعنى نجعل له سمة ، وهى العلامة ، على خرطومه. واختلف فى هذه السّمة ؛ فقيل : هى الضربة بالسيف يوم بدر. وقيل

__________________

(١) الرمس : القبر.

(٢) نشمر : نجد.

(٣) القلم : ١٦

٢٥٦

علامة من نار تجعل على أنفه فى جهنم. وقيل علامة تجعل على أنفه يوم القيامة ليعرف بها ، كما يجعلون (١) أهل الدنيا لمواشيهم علامة يعرفونها بها.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ)(٢) : قد قدمنا أنّ الزعيم الضامن ، ومعناها : سل يا محمد قريشا أيهم زعيم بذلك الأمر.

(يَسْأَمُ) : يسأم ؛ أى يمل ؛ ومنه : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)(٣).

(سبب) : له خمسة معان : أحدهما الحبل ، وقد تقدم. والاستعارة من الحبل فى المودة والقرابة ؛ ومنه : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ)(٤). والطريق ؛ ومنه :(فَأَتْبَعَ سَبَباً)(٥). وسبب الأمر : موجبه.

(ساق) : ما بين القدم إلى الركبة ؛ وأما قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (٦) فقد قدمنا أن ذلك عبارة عن هول يوم القيامة وشدّته ؛ وفى الحديث الصحيح أنه قال : ينادى مناد يوم القيامة لتتبع كلّ أمة ما كانت تعبد ، فيتبع الشمس من كان يعبد الشمس ، ويتبع القمر من كان يعبد القمر ، ويتبع كلّ أحد ما كان يعبد ، ثم تبقى هذه الأمة وغبّرات (٧) من أهل الكتاب معهم منافقوهم ، فيقال لهم : ما شأنكم؟ فيقولون : ننتظر ربنا. قال : فيجيئهم الله فى غير الصورة التى عرفوه ، فيقول : أنا ربّكم. فيقولون : نعوذ بالله منك.

قال : فيقول : أتعرفونه بعلامة ترونها؟ فيقولون : نعم ، فيكشف لهم عن ساق ، فيقولون : نعم ، أنت ربّنا ، ويخرون للسجود ، فيسجد كلّ مؤمن ، وترفع أصلاب المنافقين عظما واحدا فلا يستطيعون سجودا. وتأويل الحديث كتأويل الآية.

__________________

(١) هذا فى الأصول.

(٢) القلم : ٤٠

(٣) فصلت : ٣٨

(٤) البقرة : ١٦٦

(٥) الكهف : ٨٥

(٦) القلم : ٤٢

(٧) الغبرات : البواقى. الغبر جمع غابر.

والغبرات : جمع غبر (النهاية).

٢٥٧

(سَبْحاً طَوِيلاً)(١) : السّبح هنا عبارة عن التصرف فى الأشغال والمعنى يكفيك النهار فى التصرّف فى أشغالك ، وتفرّغ فى الليل لعبادة ربك. وقيل المعنى : إن فاتك شىء من صلاة الليل فاخلفه بالنهار ؛ فإنه طويل يسع فيه ذلك ؛ وقرئت سبخا ؛ أى بالخاء المعجمة ؛ أى سعة ؛ يقال سبّخى (٢) قطنك ؛ أى وسّعيه ، والتسبيخ أيضا التخفيف ، يقال : اللهم سبّخ عنه الحمّى ؛ أى خفّفها عنه.

(سَأُرْهِقُهُ)(٣) : أى سأكلفه المشقّة من العذاب فى صعود ؛ وهى العقبة الصعبة.

(سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)(٤) : ذكر الجواليقى (٥) أنها عجمية ؛ ويحتمل أن يكون خطاب المسلمين لأهل النار أو الملائكة ، فأجابوهم بقولهم (٦) : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ...) الخ. وإنما خصّ التكذيب (٧) بيوم الدين تعظيما له ، لأنه أكبر جرائمهم.

(سَلْسَبِيلاً)(٨) : اسم أعجمى ، ومعناه سلسا منقادا بجريه. وقيل سهل الانحدار فى الحلق ، يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل بمعنى واحد ، وزيدت الباء فى التركيب للمبالغة فى سلامته ، فصارت الكلمة خماسية. وقيل سل فعل أمر وسبيلا مفعول به ؛ وهذا فى غاية الضعف.

فإن قلت : قد قال فى الآية الأولى قبلها : (كانَ مِزاجُها كافُوراً)(٩) ، فهل يمزجان [٢٦٤ ا] مع الخمر أم لا؟

__________________

(١) المزمل : ٧

(٢) فى القاموس : التسبيخ : لف القطن ونحوه ، وتعريض القطن ليوضع عليه الدواء.

(٣) المدثر : ١٧

(٤) المدثر : ٤٢

(٥) المعرب : ١٩٨

(٦) المدثر : ٤٢

(٧) فى آية ٤٦ من المدثر : وكنا نكذب بيوم الدين.

(٨) الإنسان : ١٨

(٩) الإنسان : ٥

٢٥٨

والجواب أنه كالكافور فى طيب رائحته ، وهو علم لذلك الماء. واسم الثانى زنجبيل (١) ، وقيل اسمها سلسبيل. وقال بعضهم : سل من الله سلسبيلا ، فيجوز أن يكون اسمها هذه الجملة ؛ كقولهم : تأبط شرّا ، وبرق نحره. ويجوز أن يكون معنى تسمّى تذكر ، ثم قال الله : سل سبيلا ، واتصاله فى المصحف لا يمنع هذا التأويل لكثرة أمثاله فيه.

(ساهرة) (٢) : قد قدمنا أنها وجه الأرض ، وأصلها مسهورة ومسهور فيها ، فصرف من مفعوله إلى فاعله. كما يقال عيشة راضية أى مرضيّة ، ويقال الساهرة أرض القيامة.

(سَفَرَةٍ)(٣) : هم بالنبطية القراء ، وبالعربية الملائكة الذين يسفرون بين الله وبين عباده ، واحدهم سافر ؛ وهم الملائكة ، وقيل الذين يكتبون القرآن فى المصحف ، وقيل يعنى القرّاء من الناس. وفى الحديث : الماهر فى القرآن مع السفرة الكرام البررة ؛ أى أنه يعمل مثل عملهم فى كتابة القرآن وتلاوته ، أو له من الأجر على القرآن مثل أجورهم.

وقد قدمنا أنه نزل جملة إلى بيت العزّة فى سماء الدنيا ، وأن الملائكة يتدارسونه بينهم لتعظيم شأن هذه الأمة عند الملائكة وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم ؛ ولهذا المعنى أمر سبعين ألفا من الملائكة بتشييع سورة الأنعام.

(سرائر) (٤) : جمع سريرة ، وهى ما أسرّ العبد فى قلبه من العقائد والنيات ، وما أخفى من الأعمال ، وبلاؤها (٥) هو تعرفها والاطلاع عليها.

وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ السرائر الإيمان والصلاة والزكاة

__________________

(١) الإنسان : ١٧

(٢) النازعات : ١٤

(٣) عبس : ١٥

(٤) الطارق : ٩

(٥) الآية : يوم تبلى السرائر.

٢٥٩

والغسل من الجنابة ، وهذه معظمها ؛ فلذلك خصّها بالذكر ، والعامل فى (يَوْمَ) قوله : (رَجْعِهِ)(١) ؛ أى يرجعه يوم تبلى السرائر. واعترض بالفصل بينهما. وأجيب بقوة المصدر فى العمل. وقيل العامل ، قادر (٢) ؛ واعترض بتخصيص القدرة بذلك اليوم ؛ وهذا لا يلزم ، لأن القدرة وإن كانت مطلقة فقد أخبر الله أن البعث إنما يقع فى ذلك اليوم. وقال من احترز من الاعتراضين فى القولين المتقدمين : الفاعل فعل مضمر من المعنى تقديره : يرجعه يوم تبلى السرائر ، وهذا كلّه على المعنى صحيح فى رفعه. وأما على القول الآخر فالعامل فى يوم مضمر تقديره : اذكر.

(السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ)(٣) : أى المطر ، وسمّاه رجعا بالمصدر ؛ لأنه يرجع كلّ عام ، أو لأنه يرجع إلى الأرض وقيل الرّجع السحاب الذى فيه المطر. وقيل : هو مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من منزلة إلى منزلة.

(سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)(٤) : جمع شتيت ، ومعناه مختلف ؛ فمنه حسنات ومنه سيئات ، وهذا جواب القسم فى قوله : (وَاللَّيْلِ).

(سَجى)(٥) : فيه أربعة أقوال : أدبر ، وأقبل ، وأظلم ، وسكن ، أى استقر ، واستوى أو سكن فيه الناس والأصوات ، ومنه : ليلة ساجية ، إذا كانت ساكنة الريح ، وطرف ساج ؛ أى ساكن غير مضطرب النظر. وهذا أقرب فى الاشتقاق ؛ وهو اختيار ابن عطية.

(سُبْحانَ) : تنزيه. وسبّحت الله ، أى نزّهته عما لا يليق به من الصاحبة والولد والشركاء والأضداد.

__________________

(١) فى سورة الطارق ، آية ٨

(٢) فى سورة الطارق ، آية ٨

(٣) الطارق : ١١

(٤) الليل : ٤

(٥) الضحى : ٢

٢٦٠