معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٧

(قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ)(١) : هذا من قول الله. وقال : (مَثْواكُمْ) ولم يقل داركم ؛ لأن الدار محلّ السكنى ، والسكنى مظنّة الطول ، فناسب الإتيان بالدار فى محل المدح للمتقين ؛ لأنّ الإنسان قد يسكن الموضع الزمان القليل ويملّ من سكناه ، ولا يحبّ البقاء فيه. والمثوى : الإقامة مطلقا ، تطلق على القليل والكثير.

(قالَ : أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ)(٢) : الكاف لا موضع لها من الإعراب وهذا مفعول بأ رأيت والمعنى أخبرنى عن هذا الذى كرّمته علىّ وأنا خير منه [٢٦٣ ا] ، فاختصر الكلام ، فحذف ذلك. وقال ابن عطية : أرأيتك هنا تأملت ونحوه لا بمعنى أخبرنى. ومعنى الاحتناك (٣) الميل ، مأخوذ من تحنيك الدابّة ، وهو أن يشدّ على حنكها بحبل فتنقاد.

(قالَ اذْهَبْ)(٤) : خطاب من الله لإبليس ، وما بعده من الأوامر على وجه التهديد لإبليس. قال الزمخشرى (٥) : ليس المراد هنا الذهاب الذى هو ضد المجيء ، وإنما معناه : امض لشأنك الذى اخترته ؛ خذلانا له وتخلية. ويحتمل عندى أن يكون معناه الطرد والإبعاد.

(قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ)(٦) : القصف : هو الكسر ، وفيه تهديد لمن ركب البحر ولا يخاف الله.

(قَبِيلاً)(٧) : قيل معناه مقابلة ومعاينة. وقيل ضامنا شاهدا يصدقك. والقبلة فى اللغة الضمان.

__________________

(١) الأنعام : ١٢٨

(٢) الإسراء : ٦٢

(٣) فى الآية : لأحتنكن ذريته إلا قليلا.

(٤) الإسراء : ٦٣

(٥) الكشاف : ١ ـ ٥٥١ ، ٥٥٢

(٦) الإسراء : ٦٩

(٧) الاسراء : ٩٢

٢٠١

(قَيِّماً)(١) : أى مستقيما. وقيل قيّما على الخلق بأمر الله. وقيل قيّما على سائر الكتب بتصديقها. وانتصابه على الحال من الكتاب ، والعامل فيه أنزل (٢). ومنع الزمخشرى (٣) ذلك الفصل بين الحال وذى الحال ، واختار أن العامل فيه فعل مضمر ، تقديره جعله قيّما.

(قالَ لَهُ مُوسى : هَلْ أَتَّبِعُكَ)(٤) : فى الآية مخاطبة فيها تلاطف وتواضع ، وكذلك ينبغى أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلّم منه ؛ ينصت لكلامه ، ولا يعارضه ، ويخدمه بنفسه وماله ، ويسرع فى قضاء حوائجه.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ)(٥) : هذا من قول الخضر لموسى ؛ وذلك أن موسى نسى العهد الذى بينهما ؛ هذا قول الجمهور.

فإن قلت : ما فائدة زيادة اللام فى الثالثة؟

لجواب لما فيه من الزجر والإغلاظ ما ليس فى الأوليين. وفى صحيح البخارى : كانت الأولى من موسى نسيانا ، وفيه ـ عن مجاهد قال : كانت الأولى نسيانا ، والثانية شرطا ، والثالثة عجزا. قال ابن عطية : وهذا كلام معترض ؛ لأن الجميع شرط ، ولأن العمد يبعد على موسى عليه‌السلام ؛ وإنما هو التأويل ؛ إذ جنب صفة السؤال أو النسيان. وروى الطبرى ، عن أبى كعب ، أنه قال : إن موسى عليه‌السلام لم ينس ، ولكن قوله هذا من معاريض الكلام. قال ابن عطية : ومعنى هذا القول صحيح ، ولم يبيّنه ؛ ووجهه عندى أنّ موسى عليه‌السلام إنما رأى العهد فى أن يسأل ، ولم ير إنكار هذا الفعل شنيعا سؤالا ، بل رآه واجبا ؛ فلما رأى الخضر قد أخذ العهد على أعمّ وجوهه فضمّنه السؤال

__________________

(١) الكهف : ٢

(٢) الآية التى قبلها : الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب.

(٣) الكشاف : ١ ـ ٥٦١

(٤) الكهف : ٦٦

(٥) الكهف : ٧٥

٢٠٢

والإنكار والمعارضة ، وكلّ اعتراض ؛ إذ السؤال أخفّ من هذه كلها ـ أخذ معه فى باب المعاريض التى هى مندوحة عن الكذب ، فقال له : لا تؤاخذنى بما نسيت ، ولم يقل إنى نسيت العهد ، بل قال لفظا يعطى للمتأول أنه نسى العهد ، ويستقيم أيضا تأويله وطلبه مع أنه لم ينس العهد ؛ لأن قوله : لا تؤاخذنى بما نسيت ـ كلام جيد ، وليس فيه للعهد ذكر ؛ هل نسيه أم لا ، وفيه تعريض أنه نسى العهد ، فجمع فى هذا اللفظ بين العذر والصدق ، وما يخل بالقول.

(قالَ انْفُخُوا)(١) : يريد نفخ الكير ؛ أى أوقدوا النار على الحديد. وروى أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء ، ثم جعل البنيان من زبر (٢) الحديد حتى ملأ به بين الجبلين ، ثم أفرغ عليه قطرا : نحاسا مذابا. وقيل هو الرصاص.

وهذا السدّ من عجائب الدنيا ، إذ لا يقدر على هدمه أهل الدنيا. ولمّا فرغ من بنائه قال : هذا رحمة من ربى. ولما أسرى به صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه وتعجّب من صنعته ، وقال رجل : يا رسول الله ، رأيت سدّ يأجوج ومأجوج. فقال : كيف رأيته؟ قال : كالبرد المحبّر ، طريقة صفراء ، وطريقة حمراء ، وطريقة سوداء ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد رأيته.

(قبس) (٣) : قد قدمنا أنه الجذوة من النار تكون على رأس العود أو القصبة ونحوها.

فإن قلت : ما معنى اختلاف هذه الألفاظ والتقديم والتأخير فى مواضع من السور؟

والجواب أنّ ذلك يختلف باختلاف المقصد ، والتناسب ؛ ففي آية طه (٤) رؤية موسى النار وأمره أهله بالمكث وإخباره إياهم أنه آنس [٢٥٣ ب] نارا ،

__________________

(١) الكهف : ٩٦

(٢) زبر : جمع زبرة ، وهى القطعة من الحديد.

(٣) طه : ١٠

(٤) طه : ١٠

٢٠٣

وأطمعهم بأن يأتيهم بنار يصطلون بها ، أو خبر يهتدون به إلى الطريق الذى ضلّوا عنه ، لكنه نقص من النمل (١) رؤية موسى النار وأمره أهله بالمكث اكتفاء بما تقدم ، وزاد فى القصص : قضاء موسى الأجل المضروب وسيره بأهله إلى مصر ؛ لأن الشيء قد يجمل ثم يفصّل ، وقد يفصّل ثم يجمل ، وفى طه فصّل ثم أجمل ، ثم فصّل فى القصص (٢) وبالغ فيه ، وقوله فى طه : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) ؛ أى من يخبرنى بالطريق فيهدينى إليه ؛ وإنما أخّر ذلك الخبر فيها وقدّمه فيهما (٣) مراعاة لفواصل الآى فى السور جميعا ، وكرر (لَعَلِّي) فى القصص لفظا وفيهما معنى ، لأن (أَوْ) فى قوله : (أَوْ أَجِدُ) نائب عن (لَعَلِّي). وقوله : (سَآتِيكُمْ) تضمّن معنى لعلى. وفى القصص : أو جذوة من النار ، وفى النمل : بشهاب قبس ، وفى طه بقبس ؛ فهى فى السور الثلاث عبارة عن معبّر واحد ، وهذا برهان لامع.

(قالَ : قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى)(٤) : أى أعطيتك كل ما طلبت من من الأشياء المذكورة.

(قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ)(٥) : يعنى قلب العصا حيّة ، وإخراج اليد بيضاء ؛ وإنما وحّدها وهما اثنان ، لأنه أراد إقامة البرهان ، وهو معنى واحد.

(قالُوا : إِنْ هذانِ لَساحِرانِ)(٦) : قرئ إن هذين بالياء ولا إشكال فى ذلك ، وقرئ بالتخفيف ، وهى مخففة من الثقيلة ، وارتفع بعدها هاذان بالابتداء. وأما على قراءة نافع وغيره بتشديد إنّ ورفع هاذان فقيل : إنّ هنا بمعنى نعم ، فلا تنصب ، ومنه ما روى فى الحديث : إنّ الحمد لله بالرفع. وقيل

__________________

(١) النمل : ٧

(٢) القصص : ٢٩

(٣) فى القصص والنمل.

(٤) طه : ٣٦

(٥) طه : ٤٧

(٦) طه : ٦٣

٢٠٤

اسم إنّ ضمير الأمر والشأن ؛ تقديره إن الأمر ، وهاذان لساحران مبتدأ وخبر فى موضع خبر إن. وقيل : جاء فى القرآن فى هذه الآية بلغة بنى الحارث بن كعب ، وهى إبقاء التّثنية بالألف فى حال النصب والخفض ، وقالت عائشة : هذا مما لحن فيه كاتب المصحف.

وقد أكثروا فى الكلام فى هذه الآية وألّفوا فيها تأليفا.

(قالُوا : أَضْغاثُ أَحْلامٍ)(١) : إنما حكى الله عن قريش هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم.

(فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)(٢) : القبضة : مصدر قبض ، وإطلاقها على المفعول من تسمية المفعول بالمصدر ، كضرب الأمير. ويقال قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفّه ، وبالصاد المهملة إذا أخذه بأطراف الأصابع. وقد قرئ كذلك فى الشاذّ ؛ وإنما سمّى جبريل رسولا لأن الله أرسله إلى موسى.

(قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً)(٣) : والقصم : الكسر. قال ابن عباس : هى قرية باليمن ، يقال لها حضور (٤) ، بعث الله إليهم رسولا فقتلوه ، فسلّط الله عليهم بخت نصّر ملك بابل ، فأهلكهم بالقتل. وظاهر اللفظ أنه على العموم ، لأنّ (كَمْ)(٥) للتكثير ، فلا يريد قرية معينة.

(قائمين) (٦) : مصلين.

(قانع) (٧) سائل ، يقال : قنع قنوعا إذا سأل ، وقنع قناعة إذا رضى.

__________________

(١) الأنبياء : ٥

(٢) طه : ٩٦

(٣) الأنبياء : ١١

(٤) فى القرطبى (١١ ـ ٢٧٤) : وتروى حضوراء ، بالألف الممدودة.

(٥) الآية : وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ.

(٦) الحج : ٢٦ ، وهى فى الآية : والقائمين

(٧) الحج : ٣٦

٢٠٥

(قَلى) يقلى أبغض ، ومنه : (وَما قَلى)(١) و (لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)(٢).

(قَوْماً عالِينَ)(٣) : متكبّرين. والمراد بهم قوم فرعون.

(قالَ : طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ)(٤) ؛ أى السبب (٥) الذى يحدّث عنه خيركم وشركم هو عند الله ، وهو قضاؤه وقدره ، وذلك ردّ عليهم فى تطيّرهم ونسبتهم ما أصابهم من القحط إلى صالح عليه‌السلام.

(قالَ : إِنِّي مُهاجِرٌ)(٦) : فاعل قال «إبراهيم». وقيل لوط. وهاجرا من بلادهما من أرض بابل إلى الشام.

(قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً)(٧) : ليس إخبارا بأنه فيها ، وإنما قصد نجاة لوط من العذاب الذى يصيب أهل القرية وبراءته من الظلم الذى وصفوا به ، فكأنه قال : كيف تهلكون أهل هذه القرية وفيها لوط؟ وكيف تقولون : إنهم ظالمون وفيهم لوط؟

(قالُوا : أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ)(٨) : الضمير لعيسى ؛ وذلك أنهم قالوا : إن كان عيسى يدخل النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا معه ، لأنه خير من آلهتنا. وقيل : إنهم لما سمعوا ذكر عيسى قالوا : نحن أهدى من النصارى ؛ لأنهم عبدوا آدميّا ، ونحن عبدنا الملائكة فمقصدهم [٢٥٤ ا] تفضيل آلهتهم على عيسى. وقيل : إن قولهم : (أَمْ هُوَ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنهم لما قالوا إنما يريد محمد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى قالوا : (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) ـ

__________________

(١) الضحى : ٣

(٢) الشعراء : ١٦٨

(٣) المؤمنون : ٤٦

(٤) النمل : ٤٧

(٥) فى القرطبى : طائركم عند الله ، أى مصائبكم. وفى المفردات (٣١٠) : أى عمله الذى طار عنه من خير أو شر.

(٦) العنكبوت : ٢٦

(٧) العنكبوت : ٣٢

(٨) الزخرف : ٥٨

٢٠٦

يريدون تفضيل آلهتهم على محمد ، والأظهر أنّ المراد ب (هُوَ) عيسى. وهو قول الجمهور ؛ ويدلّ على ذلك تقدم ذكره.

(قَوْمٌ خَصِمُونَ)(١) : هذا من قول الله لهم ، يعنى يريدون أن يغالطوك فى عيسى وإنما هو عبد أنعمنا عليه بالنبوة والمعجزات وغير ذلك.

(قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)(٢) : القائلون لهذه المقالة هم أكابر قريش لما أسلم الضعفاء ، كبلال وعمّار وصهيب ـ قالوا : لو كان الإيمان خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه. وقيل : بل قالها كنانة وقبائل من العرب لما أسلمت غفار ومزينة وجهينة ، وقيل : بل قالها اليهود لما أسلم عبد الله بن سلام. والأول أرجح : لأن الآية مكّيّة.

فإن قلت : كان الأولى أن يقول ما سبقتمونا إليه ، لأن قول الذين كفروا للذين آمنوا مواجهة.

والجواب معنى الذين آمنوا : من أجل الذين آمنوا ، أى قالوا ذلك عنهم فى غيبتهم ، وليس المعنى أنهم خاطبوهم بهذا الكلام ، لأنه لو كان خطابا لقالوا : ما سبقتمونا إليه.

(قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)(٣) ؛ أى تقدمت من قبله ومن بعده. والنّذر : جمع نذير.

فإن قيل : كيف يتصور تقدّمها من خلفه؟

فالجواب أنّ هذه الجملة اعتراض ، وهى إخبار من الله تعالى أنّ الله قد بعث رسلا متقدمين قبل هود وبعده. وقيل من خلفه : يعنى خلفه فى زمانه.

__________________

(١) الزخرف : ٥٨

(٢) الأحقاف : ١١

(٣) الأحقاف : ٢١

٢٠٧

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ)(١) : قال هود : العذاب الذى قلتم انتابه ليس لى علم وقت كونه ، وإنما يعلمه الله ، وما علىّ إلا أن أبلغكم ما أرسلت به ، ولكنى أراكم قوما تجهلون أمر الله ووعيده.

(قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً)(٢) : قد قدمنا معنى آنفا. والمعنى أن قريشا كانت تقول ذلك إمّا احتقارا لكلامه ، كأنهم قالوا أىّ فائدة فيه؟ وإما جهلا ونسيانا ، لأنهم كانوا وقت كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم معرضين عنه.

(ق)(٣) : قد قدمنا أنه جبل محيط بالأرض ، أو هو من أسماء الله تعالى : القاهر ، أو المقتدر ، أو القادر.

فإن قلت : أين جواب القسم؟ وما الفرق بينه وبين (يس) فى إظهار جواب القسم ووصف القرآن بالمجيد؟

والجواب إنّ جواب القسم محذوف ، تقديره ما ردّوا أمرك بحجة ، وما كذّبوا ببرهان ، وشبه ذلك ، وعن هذا المحذوف وقع الإضراب (٤) بيل. ووصف كلامه هذا بالمجيد لشرفه ، وفى سورة يس بالحكيم ، لأنه محكم على غيره لرعاية الفواصل. وقد قدمنا أنّ الله سمّاه بستين اسما ، وما ذلك إلا لتعظيمه ؛ فاعرف قدر ما وصل إليك يا من أكرمه الله به.

(قَعِيدٌ)(٥) ؛ أى قاعد ، وقيل مقاعد يعنى مجالس. ورواه ابن عطية بأنّ المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان ، وإنما أفرده وهما اثنان ، لأنّ التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من (الْمُتَلَقِّيانِ)(٦) ، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقال الفراء : لفظ (قَعِيدٌ) يدل على الاثنين والجماعة ، فلا يحتاج

__________________

(١) الأحقاف : ٢٣

(٢) محمد : ١٦

(٣) ق : ١

(٤) فى الآية التى بعدها : بل عجبوا ...

(٥) ق : ١٧

(٦) فى الآية نفسها.

٢٠٨

إلى حذف ؛ وذكر جماعة عن مجاهد أن (قَعِيدٌ) اسم كاتب السيئات.

(قاصِراتُ الطَّرْفِ)(١) : معناه أنّ الحور العين يقصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن ، فلا ينظرن إلى غيرهم.

(قالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(٢) : لم يكف قريشا معاندتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل ضموا إليه مكابرته والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه والاحتكام على حكمة الله فى تخيّر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل زمانه. ومعنى القريتين : مكة ، وعنوا بالرجل منها الوليد بن المغيرة ، وقيل عتبة بن ربيعة. والأخرى الطائف ، وعنوا بالرجل منه عروة بن مسعود. وقيل حبيب بن عمير. ووصفوه بالعظمة لكثرة ماله ، فأنكر الله [٢٥٤] عليهم اعتراضهم ومحكّمهم ، وأن يكون لهم التدبير لأمر النبوءة بقوله (٣) : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ، والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها والمتولّين لقسمة رحمة الله التى لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته ؛ ثم ضرب لهم مثلا فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم فى دنياهم ، وأن الله عزّ وعلا هو الذى قسم بينهم معيشتهم وقدّرها ودبّر أحوالهم تدبير العالم بها ، فلم يسوّ بينهم ، ولكن فاوت بينهم فى أسباب العيش ، وغاير بين منازلهم ؛ فجعل منهم أقوياء وأغنياء ، ومحاويج وضعفاء ، وموالى وخدما ؛ ليصرّف بعضهم بعضا فى حوائجهم ، ويستخدموهم فى مهنهم ، ويسخروهم فى أشغالهم حتى يتعايشوا ويتوافروا ، ويصلوا إلى منافعهم ، ويحصلوا على مرافقهم ؛ ولو وكلهم إلى أنفسهم ، وولّاهم تدبير أمرهم لضاعوا وهلكوا ؛ فإذا كانوا

__________________

(١) الصافات : ٤٨

(٢) الزخرف : ٣١

(٣) الزخرف : ٣٢

٢٠٩

فى تدبير المعيشة الدنيّة فى هذه الحياة الدنيا على هذه الصفة فما ظنّك بهم فى تدبير أمر الدين الذى هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى ، وهو الطريق إلى خيار حظوظ الآخرة والسّلّم إلى حلول دار السلام.

(قالُوا : يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ)(١) : يعنى من إجابتك. وقولهم : (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ)(٢) : وعد نووا إخلافه ؛ لأنهم رأوا تسع آيات فلم يؤمنوا. وقولهم : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) : إما أن يكون عندهم غير مذموم ؛ لأن السحر كان علم أهل زمانهم ، وكأنهم قالوا يأيها العالم. وإما أن يكون ذلك اسما قد ألفوا تسمية موسى به من أوّل ما جاءهم ، فنطقوا به بعد ذلك من غير اعتقاد معناه.

فإن قلت : ظاهر كلامهم يقتضى تكذيبهم له ، وقولهم : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ـ يقتضى تصديقه ؛ فما معنى الجمع؟

والجواب أنّ القائلين لذلك كانوا مكذّبين ، وقولهم : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) يريدون : على قولك وزعمك ، فدعا الله موسى فكشفه عنهم فنكثوا عهدهم.

(قالَ : يا قَوْمِ ، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)(٣) : القائل لهذا فرعون ، وقصد بذلك الافتخار على موسى والتعظيم لملكه ، ومصر هو البلد المعروف ، وما يرجع إليه ؛ ومنتهى ذلك من نهر (٤) الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل ؛ فانظر عقله الفاسد ، وبلادته ، حيث فخر بتافه من الدنيا ، ولم يعتبر بمن تقدّمه من الملوك الذى كانوا أعظم منه ؛ فإنها لا تعمى الأبصار ، ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور.

__________________

(١) الزخرف : ٤٩

(٢) بقية الآية السابقة.

(٣) الزخرف : ٥١

(٤) يريد بحر الإسكندرية : البحر الأبيض.

٢١٠

(قالَ قَرِينُهُ : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ)(١) : اختلف ما المراد بالقرين ؛ هل الشيطان الذى كان يغويه ، أو الملك الذى يسوقه ، أو الملك الذى يتولّى عذابه فى جهنم؟ والأول أرجح ؛ لأنه هو القرين المذكور بعد ؛ ولقوله (٢) : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ؛ وقوله : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) ؛ أى هذا الإنسان حاضر لدىّ قد استعدته ويسّرته لجهنم ؛ وكذلك المعنى إن قلنا إنّ القرين هو الملك السابق. وإن قلنا إنه إحدى الزبانية فمعناه هذا العذاب لدىّ حاضر. ويحتمل أن يكون (ما) فى قوله : (ما لَدَيَّ) موصولة ، فعتيد بدل منها ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو تكون موصوفة فعتيد صفة لها ، ويحتمل أن يكون عتيد الخبر ويكون (ما) بدلا من هذا أو منصوبة بفعل مضمر.

فإن قلت : إذا كان القرين فى الآية الثانية (٣) بعد هذا فما فائدة تكرّره وعطفه بالواو أوّلا؟

فالجواب أنهم اختلفوا ؛ هل المراد بهما قرين واحد أم لا؟ إذ المقارنة تكون على أنواع. وقال بعض العلماء : قرين فى هذه الآية الثانية ليست عطفا بل جوابا (٤) ، وأما عطفه بالواو فلأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها من آيات هى إخبار عما يلقاه الإنسان المتقدم ذكره من الأهوال والشدائد فى المواقف الأخروية ، وما بين يديها : أولها قوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)(٥). ثم قال : (وَنُفِخَ (٦) فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ). (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ). (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) ؛ فهذه إخبارات عن شدائد يلى بعضها

__________________

(١) ق : ٢٣

(٢) الزخرف ٣٦

(٣) ق : ٢٧

(٤) فى الكشاف (٢ ـ ٤٠٤) : أخليت الجملة عن الواو لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة فى حكاية التقاول.

(٥) ق : ١٩

(٦) ق : ٢٠ ، ٢١ ، ٢٣

٢١١

بعضا. فطابق ذلك وورد بعضها معطوفا على بعض. وأما قوله بعد (١) : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) فهو إخبار مبتدأ مستأنف معرّف بتبرّى قرينه من حمله [٢٥٥ ا] على ما ارتكبه واجترحه ، ولا طريق إلى عطف ذلك على ما قبله ؛ إنما هو استئناف إخبار ، فوجد كلّ على ما يرد.

(قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)(٢) ؛ أى كان جبريل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقدار القاب ـ وهو مقدار المسافة بين قوسين عربيين ، ومعناه من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقيل من الوتر إلى العود. وقيل ليس القوس الذى يرمى بها ؛ وإنما هى ذراع تقاس به المقادير. ذكره الثعلبى ؛ وقال : إنه من لغة أهل أهل الحجاز ؛ وتقدير الكلام : مقدار مسافة قرب جبريل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل قاب قوسين ، ثم حذفت هذه المضافات. ومعنى أدنى أقرب.

و (أَوْ) هنا مثل قوله : أو تريدون. وأشبه التأويلات فيها أنه إذا نظر إليه البشر احتمل أن يكون قاب قوسين ، أو يكون أدنى. وهذا الذى ذكرنا أن الضمائر المتقدمة لجبريل هو الصحيح. وقد ورد ذلك فى الحديث عن سيّدنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : إنها لله تعالى ، وهذا القول يردّ عليه الحديث والعقل ؛ إذ يجب تنزيه الله تعالى عن تلك الأوصاف من الدنوّ والتدلّى وغير ذلك.

(قاضية) (٣) : يعنى من أعطى كتابه بشماله يتمنى أن يكون مات فى الموتة الأولى بحيث لا يكون بعدها بعث ولا حياة.

(قاسطون) (٤) : من قسط الثلاثي يعنى جار ، وأقسط الرباعى ـ بالألف ، إذا عدل بالرومية ، ومنه (٥) : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

__________________

(١) ق : ٢٧

(٢) النجم : ٩

(٣) الحاقة : ٢٧

(٤) الجن : ١٤

(٥) المائدة : ٥ ، والحجرات ٩ والممتحنة ٨

٢١٢

(قصص) (١) : له معنيان : من الحديث ، ومن قصّ الأثر ، ومنه (٢) : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً). (فقُصِّيهِ)(٣).

(قَسْوَرَةٍ)(٤) ـ ابن عباس : هو الرامى. وقال أيضا القسورة بلغة أهل الحبشة هو الأسد. وقيل أصوات الناس. وقيل الرجال الشداد. وقيل سواد أول الليل.

فإن قلت : سواد أول الليل لا يليق ؛ لأنّ اللفظة مأخوذة من القسر الذى هو القهر والغلبة.

والجواب : أنه يليق باللفظة ؛ لأنه لا شىء أشد نفارا لحمر الوحش من قرب الظلام لتوحّشها.

(قَمْطَرِيراً)(٥) : معناه طويل. وقيل شديد.

(قَوارِيرَا قَوارِيرَا)(٦) منونين ، وبتنوين الأول ؛ وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق ، لأنه فاصلة ، والثانى لاتباعه الأول. وقرئ قوارير ـ بالرفع ، على : هى قوارير ؛ والضمير فى قدّروها تقديرا يحتمل أن يكون للطائفين وأن يكون للمنعمين ؛ ومعنى تقديرهم أنهم قدروها فى أنفسهم ؛ أو تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدّروا ؛ والتقدير إما أن يكون على قدر الأكف ؛ قاله الربيع ، أو على قدر الرّى ، قاله مجاهد. قال ابن عطية : وهذا كله على قراءة من قرأ قدّروها بفتح القاف. وقرئ قدروها على البناء للمفعول ؛ ووجهه أن يكون من قدر منقولا من قدر ؛ تقول : قدرت الشيء ، وقدرك على فلان إذا جعلك قادرا له. والمعنى جعلوا قادرين له كما شاءوا ، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا.

__________________

(١) القصص : ٢٥

(٢) الكهف : ٦٤

(٣) القصص : ١١

(٤) المدثر : ٥١

(٥) الإنسان : ١٠

(٦) الإنسان : ١٥ ، ١٦

٢١٣

فإن قيل : من المعلوم أن القارورة من الزجاج ، فكيف قال من فضة؟

فالجواب أنّ المراد أنها فى أصلها من فضة ، وهى تشبه الزجاج فى صفائها وشفيفها. وقيل : هى من زجاج ، وجعلها من فضة على وجه التشبيه لشرف الفضة وبياضها.

(قصر) (١) : واحد القصور ؛ وهى الديار العظام. وقد قدمنا وجه تشبيه الشرر به فى عظمه وارتفاعه فى الهواء. وقيل : هو الغليظ من الشجر واحده قصرة كجمرة.

(قَضْباً)(٢) هى الفصفصة (٣). وقيل علف البهائم. واختار ابن عطية أنها [البقول](٤) وشبهها مما يؤكل رطبا.

(قَيِّمَةٌ)(٥) فيعلة ، وفيه مبالغة ، تقديره الملة القيّمة أو الجماعة القيمة ، ومعناه أنّ الذى أمروا به من عبادة الله والإخلاص له ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، هو دين الإسلام ، فلأىّ شىء لا يدخلون فيه؟

(قُرْآناً)(٦) : يكون بمعنى القراءة ، ويقال فلان يقرأ قرآنا حسنا ، ومنه (٧) : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً). وقد قدمنا أنه لا يسمى بهذا الاسم غير كتاب الله ؛ لأنه يجمع السور ويضمّها ، والقارئ من له القراءة ومن لا قراءة له فليس بقارئ ، ولا يكون قارئا إلا عند وجود القراءة ، ولو كانت القراءة قديمة لكان يجب أن يكون الحافظ لكتاب الله قارئا [٢٥٥ ب] له فى جميع أحواله ، فلما بطل ذلك دلّ على أنها محدثة ، والقراءة غير الحفظ ، والكتابة غير السمع. والمتلوّ والمقروء والمحفوظ والمكتوب والمسموع واحد ؛ ولهذا لو قال :

__________________

(١) المرسلات : ٣٢

(٢) عبس : ٢٨

(٣) فى القاموس (فص) : الفصفصة : نبات ـ فارسيه اسبست. وفى القرطبى (١٩ ـ ٢٢١) : الفصفصة : القت الرطب.

(٤) مكانها بياض فى النسختين ، والتكميل من القرطبى.

(٥) البينة : ٣

(٦) الجن : ١

(٧) الإسراء : ٧٨

٢١٤

والله لا قرأت القرآن ثم سمعه من غيره لم يحنث ، وهكذا لو قال : والله لا حفظت القرآن ثم كتبه أو قرأه أو سمعه من غير أن يحفظه لا يحنث ، فدلّ ذلك على تغاير الكتابة والقراءة والحفظ والسمع. والله أعلم.

(قَرِّي عَيْناً)(١) : أى طيبى نفسا لما فعل الله لك من ولادة نبىّ كريم ، أو من تيسير المأكول أو المشروب ، كقولك : قررت به عينا أقرّ بالكسر فى الماضى والفتح فى المضارع ، وقررت بالمكان بالفتح فى الماضى ، والكسر فى المضارع.

(قَرْضاً)(٢) : سلفا ، والفعل منه أقرض يقرض.

(قُلْنا)(٣) : مذهب العرب إذا أخبر الرئيس منها عن نفسه قال : قلنا وفعلنا وصنعنا ، لعلمه أنّ أتباعه يفعلون بأمره كفعله ، ويجرون على مثل أمره ؛ ثم كثر الاستعمال بذلك حتى صار الرجل من السوقة يقول فعلنا وصنعنا. والأصل ما ذكرت.

(قُرُوءٍ)(٤) : جمع قرء ، وهو مشترك فى اللغة بين الطهر والحيض ، فحمله مالك والشافعى على الطهر لإثبات التاء فى ثلاثة ، فإنّ الطهر مذكر والحيض مؤنث ، ولقول عائشة رضى الله عنها : الأقراء هى الأطهار ؛ وحمله أبو حنيفة على الحيض ؛ لأنه الدليل على براءة الرحم ؛ وذلك مقصود العدّة ؛ فعلى قول مالك والشافعى تنقضى العدة بالدخول فى الحيضة الثالثة ، إذا طلقها فى طهر لم يمسها فيه ، وعند أبى حنيفة بالطهر منها.

(قربان) (٥) : ما يتقرّب به إلى الله عزوجل من ذبح وغيره ، والقربة

__________________

(١) مريم : ٢٦

(٢) الحديد : ١١ ، ١٨

(٣) البقرة : ٣٤ ، وفى ستة وعشرين موضعا أخرى فى القرآن.

(٤) البقرة : ٢٢٨

(٥) آل عمران : ١٨٣

٢١٥

هى الطاعة ، ومن شرطها العلم بالمتقرب إليه ، فمحال وجود القربة قبل العلم بالمعبود والنظر والاستدلال المؤدّيين إلى معرفته عزوجل ؛ فهو واجب وطاعة له ؛ فكلّ قربة طاعة ، وليست كل طاعة قربة ؛ لأن الصلاة فى الدار المغصوبة تقع واجبة وطاعة ، وليست بقربة ؛ لأنه لا يثاب عليها ؛ وإنما الفرض يسقط عند الفقهاء والمتكلمين من أهل الحق ، ومن لا قربة له فليس بمتقرب. ولا يقال متقرب إلا لمن كثرت قربه وطاعته.

(قُبُلاً)(١) : أصناف ، جمع قبيل ؛ أى صنف صنف. وقبلا أيضا جمع قبيل ؛ أى كفيل. وقبلا أيضا مقابلة. وقبلا عيانا. وقبلا استئنافا. وقول سليمان : لا قبل لهم بها ، أى لا طاقة لهم.

(قسطاس) (٢) : قال مجاهد : هو العدل بالرومية ، وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير ، قال : القسطاس ـ بلغة الروم : الميزان.

(قمل) (٣) ـ بضم القاف وتشديد الميم : صغار الجراد. وقيل البراغيث. وقال الواسطى : هو الذّبان بلسان العبرانية والسريانية ، وقرئ بفتح القاف والتخفيف ، وهو على هذا القمل المعروف ، وكانت تتعلق بلحومهم ، ومن طبعها أن تكون فى الشعر الأحمر أحمر وفى الأسود أسود وفى الأبيض أبيض ، ومتى تغيّر الشعر تغير إلى لونه ، وهو من الحيوان الذى إناثه أكبر من ذكوره. وقيل : إن الصئبان بيضه. وأما قملة النسر التى تسقط منه إذا عضّت قتلت.

وروى أن موسى عليه‌السلام مشى بعصاه إلى كثيب أهيل ، فضربه فانتشر كلّه قمل فى مصر. ثم إنهم قالوا : ادع لنا ربك فى كشف هذا عنّا ، فدعا ؛ فرجعوا إلى كفرهم.

__________________

(١) الأنعام ١١١ ، والكهف ٥٥

(٢) الإسراء ٣٥ ، الشعراء ١٨٢

(٣) الاعراف : ١٣٣

٢١٦

وروى الترمذى الحكيم أنه إذا وجد الجالس على الخلاء قملة لا يقتلها ، بل يدفنها ، لما روى أنه من قتل قملة على رأس خلائه بات معه فى شعاره شيطانة تنسيه ذكر الله أربعين صباحا. وقد رخص صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزّبير بن العوام لبس الحرير لدفع القمل ، لأنه لا يقمل بالخاصية. قال الجاحظ : وربما كان للإنسان قمل الطباع ، وإن تنظف وتعطر وبدّل الثياب ، فعند الشافعية يجوز لبس الحرير لهذه النازلة. وقال مالك : لا يجوز لبسه مطلقا ، لأنّ وقائع الأحوال عنده لا تعمّ. وفى فتاوى قاضى خان : لا بأس أن يطرح القملة حيّة ، والأدب أن يقتلها. وإذا رأى المصلّى فى ثوبه قملة أو برغوثا فالأولى أن يتغافل عنها ؛ فإن ألقاها بيده [٢٥٦ ا] أو أمسكها حتى يفرغ فلا بأس ، فإن قتلها فى الصلاة عفا عن دمها دون جلدها ، فإن قتلها وتعلّق جلدها بظفره أو ثوبه بطلت صلاته. قال الغزالى : ولا بأس بقتلها كما لا بأس بقتل الحية والعقرب. قال القمولى : ولا بأس بإلقائها بغير المسجد ؛ والذى قاله صحيح ؛ للحديث : إذا وجد أحدكم القملة فى المسجد فليصرّها فى ثوبه حتى يخرج من المسجد. رواه الإمام أحمد فى الصحيح. وروى الحاكم فى أوائل المستدرك من حديث أبى سعيد أنه قال : قلت : يا رسول الله ، من أشدّ الناس بلاء؟ قال : الأنبياء. قال : ثم من؟ قال : العلماء. قال : ثم من؟ قال : الصالحون ؛ كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى تقتله ، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى لا يجد إلا العباءة يلبسها ، ولأحدهم كان أشدّ فرحا بالملإ من أحدكم بالعطاء ، قال : صحيح على شرط مسلم.

(قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ)(١) : مشتق من القرّ ، وهو الماء البارد ، ومعنى قولهم :

__________________

(١) القصص : ٩

٢١٧

أقر الله عينك : أبرد الله دمعك ؛ لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.

(قُدُورٍ راسِياتٍ)(١) : قد قدمنا أنها ثابتات لا تنزل ، لأنها كانت أثافيها منها ، ويطبخ فيها الجمل ، لا يخرج منها إلا عظامه.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)(٢) ؛ أى الكذابون. والإشارة إلى الكفار. وقتل معناه لعن. قال ابن عطية : واللفظة لا تقتضى ذلك. وقال الزمخشرى (٣) : أصله الدعاء بالقتل ، ثم جرى مجرى اللعن والقبح.

(قُطُوفُها)(٤) : جمع قطف ، وهو ما يجنى من الثمار ويقطف كالعنقود.

(قِبْلَةً)(٥) : جهة ، وسميت الكعبة بذلك لأنها تقابل المصلّى ويقابلها.

(قِيلاً ، وقَوْلاً) بمعنى واحد ؛ ومنه : (وَأَقْوَمُ قِيلاً)(٦).

(قِسِّيسِينَ)(٧) : جمع قس ، وهو العالم. وفى الحديث : يبعث قسّ بن ساعدة أمة وحده. وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رأيته على جمل بعكاظ ، وهو يقول : أيها الناس اسمعوا وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكلّ ما هو آت آت ، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون ، أرضوا بالإقامة فأقاموا ، أم تركوا هنالك وناموا ؛ إن فى السماء لخبرا. وإنّ فى الأرض عبرا. سقف مرفوع. ومهاد موضوع. وبحار تمور. ونجوم تحور ، ثم تعود. أقسم بالله قسما لا كذب فيه ولا إثما : إن لله لدينا هو أرضى من دين نحن عليه ، ثم تكلم بأبيات شعر لا أدرى ما هى.

قال أبو بكر : كنت حاضرا ، والأبيات عندى. وأنشد (٨) :

__________________

(١) سبأ ١٣

(٢) الذاريات ١٠

(٣) الكشاف : ٢ ـ ٤٠٨

(٤) الحاقة ٢٣ ، الإنسان ١٤

(٥) البقرة ١٤٤

(٦) المزمل ٦

(٧) المائدة : ٨٢

(٨) والمعمرين : ٨٨

٢١٨

فى الذاهبين الأولي

ن من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا

للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومى نحوها

يمشى الأكابر والأصاغر

لا يرجع الماضى ولا

يبقى من الباقين غابر

أيقنت أنى لا محا

لة حيث صار القوم صائر

وقوله هذا يدلّ على أنه تنبّه بعقله فى هذه ، فاتّعظ واعتبر ، ولو أدركته الرسالة لنبّه بعقله من كان فى جهالة.

(قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً)(١) : جمع قطعة ، ومن قرأ قطعا ـ بتسكين الطاء ـ أراد اسم ما قطع ؛ تقول قطعت الشيء قطعا ، بفتح القاف من المصادر ، واسم ما قطعت ، والجمع أقطاع ، فمظلما على قراءة فتح الطاء حال من الليل ، وأما على إسكانها فصفة له أو حال من الليل.

(قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ)(٢) : قد قدمنا أنّ معناها قرى متصلة ، ومع تلاصقها فإن أرضها تتنوّع إلى طيب وردىء ، وصلب ورخو ، وغير ذلك.

(قيعة) (٣) : جمع قاع ، وهو المنبسط من الأرض. وقيل القيعة بمعنى القاع ، وليس بمجمع.

(قَرْنٍ)(٤) : مفرد قرون ، وهو مائة سنة ، وقيل سبعون ، وقيل أربعون.

فإن قلت : قد ورد فى آيات من القرآن زيادة «من» كآية الأنعام (٥) ويس (٦) ؛ وفى السجدة (٧) : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ).

__________________

(١) يونس : ٢٧

(٢) الرعد ٤

(٣) النور ٣٩

(٤) الأنعام ٦

(٥) الأنعام ٦

(٦) يس : ٣

(٧) السجدة : ٢٦

٢١٩

وفى ص (١) : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) هذه ؛ الآيات الثلاث بزيادة (مِنْ) فيها ، وسائرها (٢) ورد فى القرآن من مثل هذه الآى لم تزد فيها من.

والجواب أنها تزاد حيث يراد تأكيد مضمن الآى من العصاة ، والإشارة إلى الوعيد ، وهى أبدا فى أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفكّ عن ذلك ، ثم إن حذفها أوجز [٢٥٦] من إثباتها ، ولكلّ مقام مقال ؛ فحيث ورد من هذه الآى ما قبله استيفاء تفصيل وعيدى فى أمة بعينها أو أكثر ، أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وهو فحوى الكلام ، فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها ، وحيث لا يتقدم تفصيل على ما ذكرناه ، أو تكون آية التهديد لا تبلغ فى اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد ، فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها ؛ إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد فى الآى الأخر.

(قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)(٣) : قرئ بكسر القاف ، ويحتمل وجهين : أحدهما أن يكون من الوقار ، أو من القرار فى الموضع ؛ ثم حذفت الراء الواحدة كما حذفت اللام فى ظلت. وأما القراءة بالفتح فمن القرار فى الموضع على لغة من يقول : قررت بالكسر أقر بالفتح. والمشهور فى اللغة عكس ذلك. وقيل : هو من قارّ يقار إذا اجتمع. ومعنى القرار أرجح ؛ لأن سودة رضى الله عنها قيل لها : لم تحتجبين؟ فقالت : أمرنا الله أن نقرّ فى بيوتنا ، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكى على خروجها أيام الجمل ، وحينئذ قال لها عمار : إن الله أمرك أن تقرّى فى بيتك.

__________________

(١) ص : ٣

(٢) فى الأنعام ٦ ، ومريم ٧٤ ، ٩٨ ، ص ٣ ، ق ٣١ فيها كلها : من قرن. وفى هود ١١٦ ، والإسراء ١٧ ، وطه ١٢٨ ، والقصص ٧٨ ، والسجدة ٢٦ ، يس ٣١ ، فيها كلها من القرون.

(٣) الأحزاب : ٣٣

٢٢٠