معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٧

وكذلك ندم قابيل ؛ ندم على كونه عجز عن إخفاء أخيه لا على قتله ؛ فلذلك لم ينفعهما الندم ، بخلاف قوم يونس فندمهم كان حقيقة ، وآمنوا فنفعهم إيمانهم ؛ وهذه الأمة المحمدية ينفعهم الندم للحديث : الندم توبة. وفى الحديث : إن الحفظة تصعد بعمل العبد يقابلونه باللوح المحفوظ ، فلا يجدون ما كتبوا فيختلجوا ، وإذا النداء من قبل الله : وصلت ندامة قلبه قبل وصولكم إلىّ.

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ)(١) : لما قتل قابيل أخاه ، وأراق دمه ، فاجتمع النّسور عليه ، فتحيّر قابيل فى دفنه ، فأخذ يدور فى الأرض ، فكلّ قطرة وقعت من دم هابيل عليها صارت سبخة ، فبعث الله غرابين يقتتلان ؛ فقتل أحدهما الآخر ، ثم بحث الأرض بمنقاره ودفنه ، فاقتدى به قابيل ؛ فذلك قوله تعالى (٢) : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٣). أَحْياءً وَأَمْواتاً) ؛ والحكمة فى بعث الغراب لاسوداده ، ولما كان القتل مستغربا إذ لم يكن معهودا قبل ذلك ناسب بعث الغراب إليه ؛ ولهذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب.

وروى أنس أنّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " امتنّ الله على ابن آدم بالريح بعد الروح" ؛ ولو لا ذلك ما دفن حبيب حبيبا ، وقابيل أول من يساق إلى النار ، وهو المراد بقوله (٤) : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ؛ وهما قابيل وإبليس.

وروى أنس أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن يوم الثلاثاء ، فقال : يوم الدم ، فيه حاضت حواء ، وفيه قتل ابن آدم أخا. قال مقاتل : كانت

__________________

(١) المائدة : ٣١

(٢) المرسلات : ٢٥

(٣) الكفات : الموضع يكفت فيه الشيء ، أى يضم ويجمع ، والأرض كفات لنا.

(٤) فصلت : ٩.

١٠١

السباع والطير تستأنس بآدم ، فلما قتل قابيل هابيل هربت منه الطير والوحش ، ومالت الأشجار ، وحمضت الفواكه ، وملحت المياه ، واغبرّت الأرض.

وعن ابن أبى واقد عن ابن حبيب ؛ قال : بينما أنا عند أبى بكر الصديق إذ أتى بغراب ، فلما رآه بجناحيه حمد الله ، ثم قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " ما من صيد مصيد إلا بنقص من تسبيح ، ولا أنبت الله نابتة إلا وكلّ بها ملكا يحصى تسبيحها حتى يأتى به يوم القيامة ، ولا عضدت (١) شجرة ، ولا قطعت إلا بنقص من تسبيح ، ولا دخل على امرئ مكروه إلا بذنب ، وما عفا الله أكثر". " يا غراب ، اعبد الله" ، ثم خلى سبيله.

(فَكِهِينَ ، وفاكِهُونَ)(٢) ؛ أى معجبون ، كما يقال حذر وحاذر. وفى التفسير : فاكهون : ناعمون ، وفكهون : معجبون ، وفاكهون أيضا الذين عندهم فاكهة كثيرة. كما يقال : رجل لابن وتامر ؛ أى ذو لبن وتمر كثير.

(فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ)(٣) ؛ أى أنزله عليك وأثبته [٢٣٥ ا]. وقيل : معناه أعطاك القرآن. والمعنى متقارب. وقيل : فرض أحكام القرآن ، فهو على حذف مضاف.

(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ)(٤) : الضمير لنوح. والمعنى أنه بقى هذه المدة بعد بعثه. وروى أنه عمّر بعد الطوفان ثلاثمائة سنة. وأكثر الصحابة على أنه قبل إدريس ، واسمه عبد الغفار.

وروى الطبرانى ، عن أبى ذرّ. قال : قلت : يا رسول الله ، من أول الأنبياء؟ قال : آدم. قلت : ثم من؟ قال : نوح ؛ وبينهما عشرة قرون.

__________________

(١) عضدت : قطعت.

(٢) الدخان : ٢٧ ، يس : ٥٥

(٣) القصص : ٨٥

(٤) العنكبوت : ١٤

١٠٢

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً)(١) : هى الملائكة تزجر السحاب وغيره. وقيل : الزاجرون من بنى آدم بالمواعظ. وقيل : آيات القرآن المتضمنة الزّجر عن المعاصى.

(فَالتَّالِياتِ ذِكْراً)(٢) : هى الملائكة تتلو القرآن والذكر. وقيل : هم التالون للقرآن ، والذكر من بنى آدم ، وهى كلّها أشياء أقسم الله بها على أنه واحد.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ : إِنِّي سَقِيمٌ)(٣) ؛ يعنى أن قوم إبراهيم طلبوا منه أن يخرج معهم إلى عيد لهم ، وأراد الامتناع من ذلك ، فنظر فى النجوم لأنهم كانوا منجّمين ؛ وقال لهم : إنى سقيم ؛ أى فيما يستقبل ؛ لأن كلّ إنسان لا بد له أن يمرض ؛ أو أراد أنه سقيم النفس من كفرهم وتكذيبهم له ؛ وهذا التأويل أولى. وقيل : إنه كانت تأخذه الحمّى فى وقت معلوم ، فنظر فى وقت أخذها له ، واعتذر عن الخروج معهم لذلك. وقيل : نظر وفكر فيما يكون من أمره معهم ؛ لأنه أراد كسر أصنامهم ؛ فقال : إنى سقيم. والنجوم على هذا ما ينجم من حاله معهم ، وليست نجوم السماء ؛ وهذا بعيد.

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٤) : المعنى أى شىء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ أو أى شىء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره؟ كما تقول : ما ظنك بفلان إذا قصدت تعظيمه ؛ فالمقصد على المعنى الأول تهديد ، وعلى الثانى تعظيم لله وتوبيخ لهم.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ. فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ ، فَقالَ : أَلا تَأْكُلُونَ)(٥) :

__________________

(١) الصافات : ٢

(٢) الصافات : ٢

(٣) الصافات : ٨٨ ، ٨٩

(٤) الصافات : ٨٧

(٥) الصافات : ٩٠ ، ٩١

١٠٣

لما قال لهم : إنى سقيم ـ خافوا أن يكون طاعونا ، فخافوا منه ، وتباعدوا خوفا من عدواه ، فمال إلى آلهتهم ، وقال هذا القول على وجه الاستهزاء بالذين يعبدونها ؛ وقد قدمنا فائدة إدخال الفاء فى هذه الآية.

(فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(١) : يعنى قوم النمرود ؛ وذلك أنه قال له : يا إبراهيم ، إن كان ربّك ملكا فليحار بنى بعسكره ، وليأخذ الملك منى. فقال إبراهيم : إلهى ، إن نمرود ركب مع جنوده ، فأرسل إليه جندا من أضعف خلقك ، وهى البعوض ؛ لأنها إذا شبعت تموت وسائر الحيوان إذا شبع يحيا ؛ فأوحى الله إليه : يا إبراهيم ، لو لم تسأل جند البعوض لأرسلت عليهم جندا ما لو جمعت منه لم يكن مثل ما أهلكتهم به. قال تعالى (٢) : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ). فركب نمرود ـ لعنه الله ـ فى سبعمائة ألف فارس مقنّع ومدرّع ؛ وخرج إلى الخلاء يطلب المبارزة ، فأرسل الله جند البعوض ، وقال لهم : جعلت اليوم رزقكم هذا الجند ، وقوّى الله مناقرها ، فلم يحجبها الدروع والمغافير (٣) حتى أكلت لحومهم ودماءهم ، ولم يبق منهم أحد غير نمرود ، فإنه هرب ورجع إلى بيته ، وأوحى الله إلى البعوض الموكل به أن يمهله حتى يرى ما صنع الله بجنده ؛ فلما دنا وقت عذابه جعل يحوم حول منخره ودخله بعد ثلاثة أيام تنبيها لنمرود وإمهالا له ، كأنه تعالى يقول : أمهلتك لمعاصيك وكفرك ، لم نأخذك بغتة ، فإن رجعت إلينا فى الثلاث فلك الأمان ، ومنا القبول والإحسان ، وإن لم ترجع فالعيب منك ؛ أما نحن فقد استعملنا فضلنا وكرمنا.

وهكذا عادته سبحانه فى إمهال الكفرة وعدم أخذهم بغتة ؛ فكيف بك

__________________

(١) الصافات : ٩٨

(٢) المدثر : ٣١

(٣) المغفر ـ كمنبر ، وبهاء ، وككتابة : زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة ، أو حلق يتقنع بها المتسلح ، وجمعه مغافر ومغافير.

١٠٤

يا محمدى إن رجعت إليه! أتراه لا يقبلك ، وقد عاتب أنبياءه فى عدم رحمتهم بالكفرة اللئام.

فإن قلت : قد عبّر فى آية الأنبياء (١) بالأخسرين ، فهل هما بمعنى واحد؟

والجواب أن الصفتين من السفالة غاية حال الكافرين ، ومن كان من الأسفلين فقد خسر خسرانا مبينا ، فلا تضادّ بين الصفتين ؛ لأن [٢٣٥ ب] السفول لاحق فى ذات المنسفل والخسران حقيقة فى خارج عنه ، فالسفول أبلغ ؛ فقدّم ما هو لاحق خارجىّ وأخّر ما لا يتعدى ذات المتصف به ، تكملة وتتمّة ؛ إذ هو أبلغ على ما يجب وعلى ما قدمنا من رعى الترتيب ، والتسفّل ضد الترقى.

وقيل : روعى فى الصفة مقابلة قولهم (٢) : (ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) ؛ لأنه يفهم منه إرادتهم علوّ أمرهم بفعلهم ذلك ، فقوبلوا بالضدّ ، فجعلوا الأسفلين ، وهو حسن.

(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ)(٣) : الضمير يعود على المتبعين والأتباع ، واشتراكهم فى العذاب حكم عدل ، إذ كلّ منهم مستحق ، ألا ترى كيف وصفهم جميعا بأنهم مجرمون؟

فإن قلت : هل يفهم من اشتراكهم فى العذاب استواؤهم فيه؟

والجواب : لا استواء بينهم ؛ لأن الشركة فى الشيء قد تقتضى تساوى الشركاء فى ذلك المشترك فيه وقد لا تقتضى. والضالّ والمضلّ وإن اشتركا فى العذاب فللمضلّ ضعفان ، لأنه ضلّ وأضلّ.

فإن قلت : قد قال الذين كفروا : ((٤) إِنَّا كُلٌّ فِيها) ، أى فى النار؟.

__________________

(١) الأنبياء : ٧٠

(٢) الصافات : ٩٧

(٣) الصافات : ٣٣

(٤) غافر : ٤٨

١٠٥

فالجواب أنه إخبار عن التّساوى فى المكان ، لا عن الواقع فيه ؛ لأنهم فى دركات متفاوتون.

وقد صحّ أن سيدنا ومولانا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل عن سكانها ، فقال : الطبق السابع مأوى المنافقين. والسادس مأوى من طغى وبغى وادّعى الربوبية. والخامس مأوى الجبّارين والظالمين. والرابع مأوى المتكبرين والكافرين. والثالث مأوى اليهود. والثالث مأوى النصارى ؛ وسكت عن الأول ؛ فقال له : أخبرنى عن الأول ـ وألحّ عليه ؛ فقال : عصاة أمتك يا محمد ؛ فأغمى عليه ، فلما أفاق بكى بكاء شديدا ، وأغلق عليه الباب ، وصار يطلب فى أمته ، فجاءه جبريل وبشّره بالشفاعة فيهم ؛ اللهم كما جعلته رحيما بنا لا تحرمنا من شفاعته ، أقسم عليك بجاهه عندك.

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ...)(١) الآيات ، إلى قوله : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) : هذه البشارة انطوت على ثلاثة أشياء : على أن الولد ذكر ، وأنه يبلغ أو ان الحلم ، وأنه يكون حليما.

قيل : ما نعت الله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأقل مما نعتهم بالحلم ؛ وذلك لعزة وجوده. ولقد نعت الله به إبراهيم ، وأىّ حلم أعظم من حلمه لمّا عرض عليه أبوه الذّبح قال : ستجدنى إن شاء الله من الصابرين. والحادثة شهدت بحلمهما جميعا. وفى هذا دليل على أنّ الإشارة بإسماعيل وهو الذّبيح ، وأمر ذبحه كان بالحجاز بمنى ، وثمّ رمى إبراهيم الشيطان بالجمرات ؛ ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا ابن الذّبيحين ، يعنى إسماعيل ، وعبد الله أباه الذى نذر

__________________

(١) الصافات : ١٠٠ ـ ١٠٧

١٠٦

عبد المطلب لما حفر بئر زمزم أن يذبح أحد أولاده ، فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بها ، ونحرها عن آخرها ، تقرّبا إلى الله ؛ فأخذ منها الناس ما يحتاجون والطير والسباع. قال علماء الإسلام ، ومن جرّى (١) هذه الواقعة كانت دية الإبل عدد وصفه ، كما كان الكبش الذى فدى الله به إسماعيل مثالا لما وقعت به مشروعية الأضحية.

وروى أن إسماعيل أول من خطّ بالقلم. ورأيت فى بعض التقاييد أن أول من خطّ بالقلم من العرب هود عليه‌السلام وأن (٢) ... كان يكتب به ، فرأى فى منامه من نهاه عن كتبه فى الأحجار ، وأنه إنما خص الله به نبيئا يبعث فى آخر الزمان ، فينزل عليه كتابا يقرأ ويخطّ بهذا الخط العربى.

وعن الأصمعى قال : سألت عمرو بن العلاء عن الذبيح ؛ فقال : يا أصمعى ، أين عزب (٣) عنك عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان بها إسماعيل ، وهو الذى بنى البيت مع أبيه.

وذكر الطبرى ، عن ابن عباس ، قال : الذبيح إسماعيل ؛ وتزعم اليهود أنه إسحاق ، وكذبوا. وسأل عمر بن عبد العزيز يهوديّا كان أسلم وحسن إسلامه ، قال : الذبيح إسماعيل [٢٣٦ ا] واليهود يعلمون ذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن تكون هذه الفضيلة فى أبيكم.

وفى رياض النفوس أن أسد بن الفرات قال : كنت بالعراق زمن قراءتي على محمد بن الحسن ، فقلت له : اختلف الناس فى الذّبيح ؛ من هو؟ وعندى أنه إسماعيل. قال : لم؟ قال : لأن الله يقول (٤) : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ

__________________

(١) من جراك ومن جرائك : من أجلك.

(٢) بياض فى الأصول نحو كلمتين.

(٣) عزب : غاب وبعد.

(٤) هود : ٧١

١٠٧

إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) ، فكيف يؤمر بذبح من قد أخبر أنه سيولد له؟ ومن المعلوم أن الإخبار إنما يقع على مجهول العاقبة ؛ فتعيّن أنه إسماعيل. قال الشيخ رحمه‌الله : هذا إن كان صحّ الخبر قبل الأمر بالذبح.

فإن قلت : لم وصف المبشر به هنا بالحلم ، وفى الذاريات والحجر (١) بالعلم؟

فالجواب أنه وصفه هنا بالحلم لانقياده لحكم ربه ، واستسلامه له ؛ ووصفه فى غيرها بالعلم لكبره. وقيل : إن الحليم إسماعيل ، والعليم إسحاق. وعن محمد ابن كعب القرظى قال : كان مجتهد بنى إسرائيل إذا دعا قال : اللهم إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل. فقال : يا رب ، ما لمجتهد بنى إسرائيل يدعو بهذا ، وأنا بين أظهرهم؟ قد أسمعتنى كلامك ، واصطفيتنى برسالتك. قال : يا موسى ، لم يحبّنى أحد حبّ إبراهيم قط ، ولا خيّر بين شىء قط وبينى إلا اختارنى. وأما إسماعيل فإنه جاد بنفسه ، وأما إسرائيل فإنه لم يأيس (٢) من روحى فى شدة نزلت به قط.

فإن قلت : لم كان الأمر بالذبح هنا ما دون اليقظة؟

فالجواب : لتعلم أنّ النبوءة اثنان : رسالة ، ورؤيا منام ؛ ولما كان إسماعيل أحبّ إليه من كل شىء لم يرد الله أن يواجه خليله بما فيه كراهية له ، فأراه فى المنام ؛ كأنه استحيى منه ، وهكذا عادته سبحانه مع أنبيائه وخيرته من خلقه ؛ ألا ترى رؤيا يوسف سجود إخوته وأبويه ، ورؤيا سيدنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخول المسجد الحرام ، وما سواهما ؛ للدلالة على تقوية صدقهم ؛ وإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.

__________________

(١) فى الذاريات آية (٢٨) : وبشروه بغلام عليم. وآية الحجر (٥٣) : إنا نبشرك بغلام عليم. وفى ا : الحجرات ـ تحريف.

(٢) يبأس

١٠٨

فإن قلت : قد قال الله له : " قد صدّقت الرؤيا ، وإنما كان يصدقها لو صحّ منه الذّبح ، ولم يصح؟

فالجواب أنه قد بذل وسعه فيما أمر به من بطحه على شقّه ، وإمرار الشّفرة على حلقه ، ولكن الله منعها من القطع ، ليعلم أنّ القطع لله لا للسكين ، وهذا لا يقدح فى فعل إبراهيم ، فلا يسمى عاصيا ولا مفرّطا.

فإن قلت : الله تعالى هو المفتدى منه ، لأنه الآمر بالذبح ، فكيف يكون فاديا حتى قال : (وَفَدَيْناهُ)؟

والجواب الفادى هو إبراهيم عليه‌السلام ، والله عزوجل وهب له الكبش ليفتدى به ، وإنما قال : وفديناه ـ إسنادا للفداء إلى السبب الذى هو الممكّن من الفداء بهبته.

فإن قلت : لم شاوره فى أمر هو حتم من الله؟

فالجواب أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ، ولكن ليعلم ما عنده ، لأنه بشّر بالحلم ، وأيضا ليوطّن الولد نفسه على الصّبر ، ويحتسب ؛ فجاوبه عليه‌السلام بأحسن جواب ؛ ألا تراه قال له : يا أبت ، خذ بناصيتى ، واجلس على كتفى لئلا أوذيك إذا أصابنى حرّ (١) الحديد. ففعل إبراهيم ، فلما أمرّ السكين على حلقه انقلبت السكين ؛ فلحرمة تعفير وجهه رفع عنه الذّبح ؛ فالمؤمن الذى عفّر وجهه فى التراب سنين عديدة أتراه يحرقه بالنار؟

ولما سأل إبراهيم الولد الصالح وبشّر به أمر بذبحه ؛ ليعلم أنّ هذا الولد هو الذى طلبه ؛ وكذلك سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل الله تعالى صلاح أمته

__________________

(١) فى ا : حد الحديد.

١٠٩

فى وقت وفاته ، وطلب منه هو الخليفة بعده عليهم ، فأجاب الله دعاءه ، وأراه سؤاله فيهم : إسماعيل استسلم لقضاء ربّه ، ومن عادة الصبيان الجزع من الألم ، ومن طبع الحديد القطع ، فلما صبر وغيّر عادته لأجل الله غيّر طبع الحديد لأجله ، ولم يقطع ، كذلك حال المؤمن مع الله ، إذا صبر واستسلم للقضاء غيّر الله طبع العوائد عليه وأثابه الحسنى.

وقيل : إنه لما صرع للذّبح كشف الله له عن الجنة حتى يسهل عليه [٢٣٦ ب] اللقاء مع ربه ، وكذلك المؤمن فى حالة الموت يكشف الله له على ما أعدّ له من النعيم ، فيسهل عليه خروج روحه. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يدخل أحد الجنة إلا رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، " ولا يدخل أحد النار إلا رأى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة".

قيل : لما أوتى إبراهيم بالكبش يداه مشدودتان إلى قرنه ، لأن إسماعيل قال له : اطلق لى رجلا واحدة لتعلم الملائكة أنى فعلت ذلك عن رضا منى وطيب نفسى ، وأنى لم أجزع ، فأوتى بالكبش كذلك.

وأنت يا محمدى لو وافقت ربك فيما أمرك به لرأيت العجائب من لطفه فى موافقة جميع المخلوقات لك ، لكنّك خالفت فاختلفت عليك الأمور ، ولذلك قال بعضهم : إنى لأعلم حالى مع ربى حتى فى غلامى ودابّتى.

ومرّ ابن المبارك بفرس يباع بأبخس ثمن ، فقال : ما بال هذا؟ فقيل له : به عيوب كثيرة ، من حرن (١) وركض ، وذعارة (٢) ، فاشتراه وقال فى أذنه :

__________________

(١) الفعل كنصر وكرم. والدابة الحرون : التى إذا اشتد جريها وقفت.

(٢) من الذعر ، وهو الخوف ، ومنه المذعورة : الناقة المجنونة.

١١٠

إنى أتوب من جميع ما عصيت الله به ، فإياك والمخالفة ، فذلّله الله له ، وصار كأحسن ما كان ، كلّ ذلك من طاعة الله ، وعدم المخالفة.

ولما فدى الله إسماعيل من الذبح دعا بدعوات منها : اللهم اغفر لكل من وحّدك ، ومن أصابته محنة ـ فتذكّر محنتى ـ ففرّج عنه. وقال : يا رب ، حاجتى إليك أن تغفر لكل مؤمن ومؤمنة يذكرك فإنى أسألك كما بردت النار على خليلك إبراهيم ، وأنجيتنى من الذبح ، كذلك خلّص المؤمنين من النار.

فانظر ما أعظم حرمتك عند ربك يا مؤمن ؛ الملائكة والأنبياء وجميع المخلوقات يستغفرون لك ، ورسولك صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع فيك ؛ أفتراه يعذّبك بعد هذه الفضائل؟ بل يفديك من النار بيهودى أو نصرانى كما فدّى إسماعيل بالكبش الذى تقرّب به هابيل وربّاه فى الجنة لإسماعيل.

فإن قلت : لم وصف الفداء بالعظمة؟

فالجواب : لكيلا يدخل فى حدّ محدود ؛ إذ لو كان محدودا لوجب الافتداء به ؛ وكذلك سائر المسلمين. وكان فيه مشقة. وقيل : لأنه من عند الله. وانظر كيف وصفه بالعظمة ، مع أنه وصف نفسه وكتابه والأجر بالعظيم ، والفوز العظيم ، والعذاب العظيم ، والظلم شرك عظيم ، والبهتان ، وكيد النساء عظيم ، وزلزلة الساعة شىء عظيم ، والعرش العظيم ؛ وقال : " أن تميلوا ميلا عظيما". فقد افترى إثما عظيما ، وتحسبونه هيّنا وهو عند الله عظيم.

وقيل : إن الله أمر إبراهيم بتعليق قرن الفداء على الكعبة إشارة له أن علّق قلبك بعرشى ، ولا تلتفت لسوائى ؛ لأنى ربّ الكل.

وأنت يا محمدىّ إذا علقت قلبك بربك ، وأخفيت ما بينك وبينه ،

١١١

ولم تطلع عليه أحدا من خلقه ، أفتراه لا يقبلك ، وقد أخفى لك ما لا يخطر ببالك من قرّة أعين؟

فإن قلت : لم يقل فى هذه القصة كما قال قبل : إنّا كذلك نجزى المحسنين ؛ فيكون ذكره تفخيما لأمره؟

فالجواب أنه تقدم فى قصة إبراهيم نفسها : إنا كذلك ؛ فاستغنى عن إعادتها.

(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١) : عجّز قريشا بهذا الخطاب ؛ لأنهم ليس لهم كتاب يحتجّون به ، وكذلك (٢) : (فَاسْتَفْتِهِمْ) ؛ أى سلهم على وجه التقرير والتوبيخ عما زعموا من أن الملائكة بنات الله.

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ)(٣) ؛ يعنى بما تعبدون من الأصنام وغيرها. وما تعبدون عطف على الضمير فى إنكم ؛ ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع. ومعنى فاتنين مضلّين. والضمير فى عليه يعود على ما تعبدون ، وعلى سببية ؛ معناها التعليل. و (مَنْ)(٤) مفعول بفاتنين. والمعنى إنكم أيها الكفّار وكل ما تعبدونه لا تضلون أحدا إلا من قضى الله أنه يصلى الجحيم. وقال الزمخشرى (٥) : الضمير فى (عَلَيْهِ) يعود على الله تعالى.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ)(٦) ؛ أى إلى حضور آجالهم. وقيل : حضور يوم القيامة. وقيل : حضور يوم بدر ، وهذه موادعة منسوخة بالقتال.

__________________

(١) الصافات : ١٥٧

(٢) الصافات : ١١

(٣) الصافات : ١٦١ ، ١٦٢

(٤) فى قوله تعالى فى الآية التى بعدها : إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ ـ آية ١٦٣ من السورة نفسها.

(٥) فى الكشاف : ٢ ـ ٢٧٢

(٦) الصافات : ١٧٤

١١٢

(فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)(١) : وعد للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيد لهم.

فإن قلت : ما فائدة تكرير هذه الآية؟ ولم حذف [٢٣٧ ا] فى الثانية المفعول (٢)؟

فالجواب : من وجهين : أحدهما أنه اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا ، فحذفه اختصارا. والآخر أنه حذفه ليفيد العموم فيمن تقدم وغيرهم ، كأنه قال : أبصر جميع الكفار ، بخلاف الأول ، فإنه فى قريش خاصة.

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ)(٣) : الساحة : الفناء حول الدار ؛ والعرب تستعمل هذه اللفظة (٤) فيما يرد على الإنسان من محذور. وسوء الصباح مستعمل فى ورود الغارة والرزايا ؛ ومقصد الآية التهديد بعذاب يحل بهم بعد أن أنذروا فلم ينفعهم الإنذار ؛ وذلك تمثيل بقوم أنذرهم ناصح بأنّ جيشا يحلّ بهم ، فلم يقبلوا نصحه ، حتى فاجأهم الجيش فأهلكهم.

وفى صحيح البخارى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد على الصّفا ، ونادى بأعلى صوته : يا صباحاه! ففزعت إليه قريش ، فقال : ما تقولون ، لو أنذرتكم خيلا تصبحكم أو مصدّقى أنتم؟ فقالوا : نعم. فقال لهم : إنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد ؛ ثم أنذرهم عموما وخصوصا ، فقال له أبو لهب : تبّا لك! ألهذا جمعتنا ؛ فأنزل الله تعالى (٥) : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ).

(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ)(٦) : هذا تعجيز لهم وتهكّم بهم. ومعنى يرتقوا

__________________

(١) الصافات : ١٧٩

(٢) الآية الأولى : وأبصرهم فسوف يبصرون : آية ١٧٥ والثانية : وأبصر فسوف يبصرون ، وهى هذه الآية.

(٣) الصافات : ١٧٧

(٤) يريد قوله : ساء صباح ...

(٥) اللهب : ١

(٦) ص : ١٠

١١٣

يصعدوا ، والأسباب هنا السلاليم والطرق وشبه ذلك مما يوصل به إلى العلو. وقيل : هى أسباب السماء. والمعنى إن كان لهم ملك السموات والأرض فليصعدوا إلى العرش ويدبّروا الملك.

(فَواقٍ)(١) : فيه ثلاثة أقوال : أحدها ـ رجوع ؛ أى لا يرجعون بعدها إلى الدنيا ، وهو على هذا مشتق من الإفاقة. الثانى ـ ترداد ، أى هى واحدة لا ثانى لها. الثالث ـ ما لها من تأخير ولا توقّف مقدار فواق ناقة ، وهو ما بين حلبتيها ؛ وهذا القول إنما يجرى على قراءة فواق بالضم ؛ لأن فواق (٢) بالضم ، كذا فى الحديث ؛ والقولان الأول على الفتح ، والثانى على الضم.

(فَصْلَ الْخِطابِ)(٣) : هو فصل القضاء بين الناس بالحق عند ابن عباس ، وعند على بن أبى طالب ـ هو إيجاب اليمين عليه والبيّنة على المدّعى. وقيل كلمة أما بعد ، فإنه أول من قالها. وقال الزمخشرى (٤) : معنى فصل الخطاب : البيّن من الكلام الذى يفهمه من يخاطب به ؛ وهذا هو الذى اختاره ابن عطية ، وجعله من قوله (٥) : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ).

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ)(٦) : هذا تهديد ومبالغة فى الخذلان والتّخلية لهم على ما هم عليه.

(فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)(٧) ؛ أى أدخل المطر وأجراه. والينابيع : جمع ينبوع ، وهو العين ؛ وفى الآية دليل على أنّ ماء المطر هو المخرج للعيون.

__________________

(١) ص : ١٥

(٢) فى القاموس : ويفتح.

(٣) ص : ٢٠

(٤) الكشاف : ٢ ـ ٢٧٩

(٥) الطارق : ١٣

(٦) الزمر : ١٥

(٧) الزمر : ٢١

١١٤

(فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ)(١) ؛ أى فى حق الله. وقيل فى أمره ؛ وأصله من الجنب ، بمعنى الجانب ، ثم استعير لهذا المعنى. ومعناه اتقوا يوما تقول فيه كلّ نفس : يا حسرتى على ما فرطت فى جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ؛ ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى.

فإن قلت : لم نكرت النفس (٢)؟

فالجواب أن المراد بها بعض الأنفس ، وهى نفس الكافر ؛ ويجوز أن يراد نفس (٣) متميّزة من الأنفس إمّا بلجاج فى الكفر شديد أو بعذاب عظيم ؛ ويجوز أن تكون للتكثير ؛ قال قتادة : لم يكفه أن ضيّع طاعة الله حتى سخر من امتثالها.

وروى أنه كان فى بنى إسرائيل عالم ترك علمه وفسق ـ أتاه إبليس ، فقال له : تمتّع من الدنيا ثم تب. فأطاعه ، وكان له مال ، فأنفقه فى الفجور ، فأتاه ملك الموت فى ألذّ ما كان ؛ فقال : يا حسرتى على ما فرّطت فى جنب الله ؛ ذهب عمرى فى طاعة الشيطان ، وأسخطت الملك الدّيان ، فندم حين لم ينفعه الندم ، فأنزل الله خبره فى القرآن.

فليتأمل العاقل هذا الوعيد الهائل ، فإنّا لله وإنا إليه راجعون ، على طمس قلوبنا ، وغفلتنا عما يراد بنا. صدق الله العظيم فى قوله فى بعض كتبه : " يا علماء السوء ، قد وعظتكم وأنذرتكم ، ومن فعل القبيح حذّرتكم ، وكثير من الآيات أريتكم فلم تنتفعوا بالمواعظ والآيات ، وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ، تطيعون أنفسكم فيما [٢٣٧ ب] تشتهون وهى تعصيكم فيما تأمرون ،

__________________

(١) الزمر : ٥٦

(٢) فى الآية نفسها : أن تقول نفس يا حسرتى على ما ...

(٣) والكفاف : ٢ ـ ٣٠٢

١١٥

بئس العبيد أنتم إذا علمتم أنكم لا تنالون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون ، ولا تبلغون ما تأملون إلا بصبركم على ما تكرهون ؛ تريدون مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، بأى عمل عملتموه؟ بأى غيظ كظمتموه؟ بأى رحم وصلتموه؟ بأى قريب باعدتموه؟ بأىّ بعيد قرّبتموه؟ وبأى زلة لإخوانكم عفوتم عنها؟ بأى شهوة تركتموها؟ هل أنتم إلا كالحمقى؟ أما علمتم أن من كثر شبعه كثر لحمه ، ومن كثر لحمه كثرت شهوته ، ومن كثرت شهوته كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه قسا قلبه ، ومن قسا قلبه غرق فى الآفات؟ أما علمتم أن المسيء ميت وإن كان فى منازل الأحياء ، والمحسن حىّ وإن انتقل إلى منازل الأموات."

(فَوْجٌ)(١) : مفرد أفواج ، وهى الجماعة من الناس.

(فَطَرَنِي)(٢) ؛ أى خلقه ابتداء ؛ ومنه فاطر السموات والأرض ، وفطرة الله التى فطر الناس عليها. وأفطر بالألف من الإطعام.

(فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)(٣) : هذا من قول موسى إلى فرعون ، يعنى إن كان موسى كاذبا فى دعوى الرسالة فلا يضرّكم كذبه ، فلأى شىء تقتلونه؟

فإن قلت : كيف قال : وإن يك كاذبا ـ بعد إيمانه به؟

فالجواب أنه لم يقل ذلك على وجه التكذيب ؛ وإنما قاله على وجه زعمكم أنه كاذب ، وقصد بذلك المحاجّة عليهم. وفيه احتجاج عليهم ، كأنه قال : قدّرنا كذبه ، ما ذا عليكم من كذبه ، هبه رجلا منكم كذب عليكم ، فأقام عليهم الحجة على تقدير الكذب والصدق.

__________________

(١) ص : ٥٩

(٢) يس : ٢٢

(٣) غافر : ٢٨

١١٦

(فَأَطَّلِعَ)(١) : بالرفع عطف على (أَبْلُغُ)(٢) ، وبالنصب على إضمار «أن» فى جواب لعلى ، لأن الترجى غير واجب ، فهو كالتمنى فى انتصاب جوابه ، ولا نقول إن لعل أشربت معنى ليت ، كما قاله بعض النحاة.

وهذا من قول فرعون لما أمر هامان ببنيان الصرح الذى رام أن يصعد به إلى السماء ، وانظر ضعف عقولهما وعقول قومهما وجهلهم بالله فى كونهم طمعوا أن يصلوا إلى السماء ببنيان الصرح.

وقد روى أنه أول من علمنا الآجر ، وصعد على الصرح بعد بنيانه ، ورمى بسهم إلى السماء ، فرجع السهم مخضوبا بالدم ؛ وذلك فتنة له ولقومه ، وتهكم به.

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)(٣) ، ضمير التأنيث (٤) يعود على السموات ، وقوله : ائتيا مجاز ، وهو عبارة عن تكوين طاعتهما ، وكذلك قولهما : أتينا طائعين ، عبارة على أنهما لم يمتنعا عليه حين أراد تكوينهما. وقيل : بل ذلك كلام حقيقة ، أنطق الله السموات والأرض بالطوع ، ولهذا جمعهما جمع العقلاء لفعلهما فعلهم (٥). وقول الله لهما عبارة عن لزوم طاعتهما كما يقول الملك لمن تحت يده : افعل كذا ، شئت أو أبيت ، أى لا بدّ لك من فعله. وقيل تقديره : أتيتما طوعا وإلا أتيتما كرها. وقيل : إن المجيب له من الأرض موضع الكعبة ، ومن السموات البيت المعمور ، فلذا أكرمهما الله بالطواف بهما.

فإن قلت : هلّا قال طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى ، لأنها سماوات وأرضون؟

__________________

(١) غافر : ٣٧

(٢) فى الآية قبلها : لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ.

(٣) فصلت : ١١

(٤) أى فى «لَها».

(٥) أى فعل العقلاء.

١١٧

فالجواب لما جعلن مجيبات ومخاطبات ووصفن بالطوع والكره قال : طائعين فى موضع طائعات ، نحو قوله : ساجدين ـ تغليبا.

فإن قلت : لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمهما فى الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟

فالجواب قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوّة (١) كما قدمنا ، فالمعنى ائتيا على ما ينبغى أن تأنيا عليه من الشكل والوصف ، ائتى يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك ، وائتى يا سماء مقبية سقفا لهم ، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع ، وتنصره قراءة من قرأ واتتا من المواتاة ، وهى الموافقة ، أى لتوات كلّ واحدة أختها ولتوافقها ، قالتا : وافقنا وساعدنا.

(فَتَنَّا سُلَيْمانَ)(٢) : قد قدمنا أنه لما نظر إلى ملكه ، واستعظمه ، ابتلاه بأن ألقى على كرسيه جسدا ، فقيل ولده الذى مات. وقيل : الصنم الذى اتخذته بنت ملك الروم التى أسرها سليمان ثم تزوجها ، وهذه عادته سبحانه مع أنبيائه وأحبابه ؛ ولذلك أمر حبيبه بألّا يلتفت إلى غيره غيرة منه عليه ، ولما لم يلتفت إلى غيره قرّبه منه ، فكان كقاب قوسين أو أدنى.

(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ)(٣) : [٢٣٨ ا] الويل : واد فى جهنم تستعيذ منه كلّ يوم سبعين مرة ، وقد ذكره الله لثمانية عشر صنفا : اليهود (٤) : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ). ((٥) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ). و ((٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ). و ((٧) وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ...)

__________________

(١) مدحوة : مبسوطة

(٢) ص : ٣٤

(٣) الزمر : ٢٢

(٤) البقرة : ٧٩

(٥) الجاثية : ٧

(٦) المرسلات : ١٥

(٧) المطففين : ١

١١٨

الآيتين. و ((١) وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). ((٢) يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ). ((٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ). ((٤) يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا). ((٥) يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا). ((٦) وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ). ((٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي). ((٨) وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ). ((٩) وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ). ((١٠) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)(١١)

ولا أظن أحدا فى هذا الزمان سلم من هؤلاء الأصناف ، وخصوصا القاسية قلوبهم من ذكر الله ، فقد اتصفنا بها أجمعون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وهذه حالة تقتضى ختم القلوب وتغذيها بالحرام الذى يبعد عن المربوب.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ)(١٢) ؛ أى صنعهن ؛ وانتصابها على التمييز تفسيرا للضمير ؛ وأعاد عليها هنا ضمير الجماعة المؤنثة لأنها لا تعقل.

فإن قلت : قد قال أولا فى يومين ، وبعده فى أربعة أيام ، وهنا فى يومين ؛ وهذا يقتضى أنها ثمانية أيام؟

والجواب لما ذكر أنّ الأرض خلقت فى يومين علم أن ما فيها خلق فى يومين ، فبقيت المخايرة بين أن يقول فى يومين ، وأن يقول فى أربعة أيام ؛ فتلك أربعة أيام ؛ ثم خلق السموات فى يومين ؛ فتلك ستة أيام حسبما ذكر فى مواضع كثيرة من القرآن ؛ ولو كانت هذه الأربعة الأيام زائدة على اليومين المذكورين قبلها لكانت الجملة ثمانية أيام ، بخلاف ما ذكر فى مواضع كثيرة.

__________________

(١) الهمزة : ١

(٢) القلم : ٣١

(٣) الماعون : ٤

(٤) الأنبياء : ٩٧

(٥) الكهف : ٤٩

(٦) الأنبياء : ١٨

(٧) الفرقان : ٢٨

(٨) فصلت : ٦ ، ٧

(٩) إبراهيم : ٢

(١٠) الزخرف : ٦٥

(١١) سرد المؤلف خمسة عشر صنفا ، ولم يكمل العدد الذى سبق أن قاله إنه ثمانية عشر صنفا.

(١٢) فصلت : ١٢

١١٩

قال بعض العلماء : إن الله تعالى خلق السموات والأرض فى يوم الأحد ؛ فمن أراد البناء فليبن فيه ؛ وخلق الشمس والقمر فى يوم الاثنين وصفتهما السير ؛ فليسافر فيه ؛ وخلق الحيوان يوم الثلاثاء ، وأباح ذبحها وإراقة دمها ؛ فمن أراد الحجامة فيه فليحتجم فيه ؛ وخلق البحار والأنهار يوم الأربعاء وأباح شربها ، فمن أراد شرب الدواء فليشرب فيه ، وخلق الجنة والنار يوم الخميس وجعل الناس محتاجين إلى دخول الجنة والنجاة من النار ؛ فمن أراد قضاء الحوائج فليسأل فيه وخلق آدم وحواء يوم الجمعة وزوجهما فيه ، فمن أراد عقد التزويج فليتزوج فيه ؛ أخذه من قول الإمام على رضى الله عنه (١) :

لنعم السبت يوم السبت حقا

لصيد إن أردت بلا امتراء

وفى الأحد البناء ، لأن فيه

ابتدأ الله خلق السماء

وفى الاثنين أسفار وربح

وأمن فى الطريق وفى العطاء

وإن ترد الحجامة فالثلاثا

ففي ساعتها هرق الدّماء

وإن شرب امرؤ يوما دواء

فنعم اليوم يوم الأربعاء

وفى يوم الخميس قضا حوائج

وفيه الله يأذن بالقضاء

ويوم الجمعة التزويج فيه

ولذات الرجال مع النساء

وهذا العلم لا يحويه إلا

نبىّ أو وصىّ الأنبياء

فإن قلت : كيف ذكر الأيام التى خلق الله فيها المخلوقات ، وإنما تعتبر بوجود الشمس؟

والجواب إنه يحتمل أن يجعلها على التقدير ، وإن لم تكن الشمس خلقت بعد ، وكان تفصيل الوقت أنها الأحد ويوم الاثنين ، كما ذكر فخلق

__________________

(١) بعض هذه الأبيات فى حاجة إلى تحرير.

١٢٠