موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

الصورة الثامنة فى بيان وذكر أبواب حجرة السعادة المعطرة أبوابها وقناديلها وشمعداناتها وعدد خدمها المؤقتة والدائمة عناوينهم ، ما معنى الفراشة والقسم ، ترتيب ، التأديب والمجازاة فى حق الأغوات نوبة الحراسة فى مسجد السعادة ليلا ، وتعريف أداء صلاة الفجر وذكر محاسن الأصول.

للحجرة المعطرة أربعة أبواب هى : باب فاطمة (١) ، الباب الشامى (٢) ، باب الروضة (٣) ، باب الوفود (٤) ولها أربعة وثمانون قنديلا مثل النجوم.

وشمعدانان من الذهب وإن كانت أبوابها فى عصرنا أربعة إلا أن لها باب مسدود يطلق عليه «باب التوسل».

موقع الباب المسدود هو المحل المبارك الذى يوقف فيه فى الجهة المسعودة ، وإذا ما دقق النظر قليلا يفهم أن ذلك المكان مكان الباب القديم ، ويروى أن نعش أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ قد أدخل من هذا الباب.

وقد وضعت القناديل التى ذكرت سالفا فى الأماكن المناسبة من الحجرة المنيفة ويوقد واحد من الشمعدانين الذهبيين لشرف رأس النبى صلى الله عليه وسلم والآخر فى ناحية قدميه الشريفين. ويستخدم صنفان من الأغوات فى الحجرة المعطرة حتى لا تترك خالية ليلا ونهارا ويقال لأحد أفراد الصنف الأول «بطال» ولأفراد الصنف الآخر

__________________

(١) واسم آخر لهذا الباب هو باب على.

(٢) واسم آخر لهذا الباب هو باب عائشة.

(٣) يقال لهذا الباب : باب التوبة أيضا.

(٤) وإن كان الاسم الآخر لهذا الباب «باب المواجهة» و «باب الإجابة» ، وعلى قول آخر أن باب الوفود اسم قديم لباب الروضة. ويفتح فى الشدة والكرب والمصائب وفى أوقات الفتح والغلاء للدعاء ويستجاب الدعاء مهما كان الدعاء ويظهر أثره فى وقته ومع ذلك فالدعاء فى حاجة إلى عقيدة صحيحة وإخلاص تام ..

٤١

«خبزى» ويقوم بمراقبة انضباطهم وإدارتهم ضباط يطلق عليهم «البواب ، حامل المفتاح» واسم أفراد أغوات البطالين «عجمى» وأفراد هذا الصنف أقل درجة من أفراد الخبزيين والخبزيون أقل درجة من طاقم «البوابين» وهؤلاء أقل من حاملى المفتاح الذى يقال لهم «السبعة الكبار» وكل واحد منهم يحترم الآخر ويطيعونهم حسب رتبهم.

وكان هؤلاء الخدم الذين يطلقون عليهم الأغوات لا يزيد عددهم ولا يقل عن ثمانين شخصا ويؤخذ مكان الأغوات الذين يموتون من صنف الخبزيين أقدم الأغوات من صنف البطالين ، ويؤخذ مكانهم ملازمى صنف البطال ستة عشر من الخبزيين بوابون ويحملون عناوين «نائب الحرم ، مستسلم الحرم ، خازن الحرم ، نقيب الحرم» وفيهم أربعة ضباط وكان أكبرهم «شيخ الحرم» وكان يبعث ويعين من مقام الخلافة الجليل (١) وكانت المحافظة على الحجرة المعطرة تتبع نظاما مستحسنا وكان عدد البوابين عند نوبة الحراسة أربعة وكانوا يظلون فى داخل الحجرة المعطرة فى أثناء الحراسة وكانوا يقسمون فيما بينهم ما ينفحهم به الزوار فى أثناء الحراسة وكان الضباط يرقون إلى درجة أعلى حسب أقدميتهم.

وكانت من أحكام القواعد التى اتخذت أن يتواجد فى داخل الحجرة المعطرة تسعة وعشرون شخصا من الحراس خمسة وعشرون منهم من أغوات الخبزيين أو أغوات البطال غير أربعة بوابين. والذين يخرجون من نوبة الحراسة يجلسون فوق صفة أصحاب الصفة على ركبهم يشغلون وقتهم بالذكر والتهليل وقراءة الأحزاب الشريفة والأوراد المباركة إلى أن تتم نوبة حراستهم وكان خدم الفراشة يدخلون فى داخل الحجرة المعطرة ويوقدون القناديل التى كلفوا إيقادها وخفضوا مؤخرا عدد الأغوات إلى خمسة أشخاص وأبلغوا عدد الخدم الآخرين وزادوه إلى العدد الذى درج فى الفهرس الأسفل ، وكان أحد الأغوات الخمسين مستسلما وأحدهم

__________________

(١) وظيفة شيخ الحرم الجليلة كانت خاصة بالأشخاص الذين يحرزون الأغوية فى باب السعادة ثم عمم ووجه فيما بعد إلى الوزراء ومشيرى العساكر السلطانية ذوى الاحترام.

٤٢

نقيبا واثنا عشر فيهم بوابا وتسعة عشر منهم خبزيا وأربعة عشر بطالا وثلاثة منهم من أفراد الملازمين.

سبب وتاريخ استخدام الأغوات فى الحجرة المنيفة

يقول خير الدين إلياس المدنى نقلا عن المرحوم فلاح الفلاح راويا : «لم يكن هناك أصول استخدام الأغوات فى الحجرة المعطرة إلى ظهور الدول التركية».

قد استحسن بعض المنتمين إلى الشهيد نور الدين لبعض الأسباب استخدام الأغوات فى الحجرة المنيفة وأبلغوا الأمر بواسطة بعض الأمراء الذين كشفوا الأمر إلى الشهيد نور الدين وأخذوا موافقته على هذا الأمر ، وبناء عليه اختاروا اثنى عشر أغا كلهم من حفظة القران الكريم وأرسلوهم إلى المدينة المنورة. واشترطوا فيمن يعين مكان الذين يتوفون منهم فوق حفظه للقرآن الكريم أن يكون حبشيا إن أمكن وإلا من أهل الروم وإذا لم يوجد أن يكون هنديا وسقط حكم هذا الشرط بعد فترة فأرسلوا كلهم من الهنود ثم ترك أصول إرسالهم من الهند فعين الأغوات الحاليون وفق النظام الأخير.

وقد أبلغ صلاح الدين الأيوبى عدد الأغوات إلى أربعة وعشرين وعين شخصا يسمى الشيخ بدر الدين ضابطا عليهم ووقف إيراد بلدتى «نقادة وقيادة» عشر محاصيلها لإدارة الأغوات وإعاشتهم. وكان الأغوات الذين يستخدمون لذلك الوقت يخدمون حسبة لله ويتعايشون بالهدايا والعطايا التى يرسلها أصحاب البر والخير. وأخذ يطلق على شيخ الخدم بدر الدين الأسدى «شيخ الحرم» فزاد قدرا ومكانة ، وسواء كان الشيخ بدر الدين أو الأشخاص الذين أصبحوا فيما بعد شيوخا للحرم كانوا يلاقون من موظفى المدينة المنورة ومن وزراء وأمراء المسلمين الذين يزورون المدينة المنورة احتراما وتوقيرا ، وذلك تعظيما لصاحب الروضة «عليه وعلى آله أكمل التحية».

والنظام الذى وضعه صلاح الدين الأيوبى نقض فيما بعد وأرسل الأغوات إلى الحجرة المعطرة من قبل ملوك المغاربة والسودان وسلاطينها حتى تجاوز

٤٣

عددهم مع توابعهم وعبيدهم مائتى شخص ، وظهرت النفرة والعداوة بينهم وبين أهل المدينة حتى أدت هذه الحالة فى النهاية إلى قيام الجدال والقتال بينهم.

وقد دامت المنافرة بينهم فترة فى الواقع وأخذ عدد الأغوات فيما بعد يزيد وينقص ولم ينحصر إرسال الأغوات إلى الحجرة العطرة فى سلاطين المغاربة والسودان وسلاطينهم إذ أخذ بعض أصحاب الخير يشاورون عبيدا أو يوقفونهم لخدمة الحجرة المنيفة فاختلط جنس الأغوات وزاد فيما بينهم أصحاب الأخلاق الطيبة وتحولت العداوة التى بينهم وبين الأهالى إلى المودة والأخوة فانخفضت العداوة بينهم كليا فتعاملوا فيما بينهم مثال الأخوة.

لأغوات مسجد السعادة والحجرة المنيفة وظائف شهرية مخصصة لكل واحد منهم حسب موقعه ومكانته ولهم نظم جارية وقوانين مرعية مثل حراسة المسجد والحجرة المطهرة وتنظيف القناديل وإيقادها وقضاء الليل فى داخل المسجد ولهم أرزاق ومرتبات معينة من قبل السلاطين العثمانيين الكرام. ولهم ثكنات موقوفة من قبل أصحاب البر والخيرات وحدائق ذات محاصيل ولهم صرر تبعث من قبل أصحاب البر فى جميع البلاد الإسلامية وتقسم هذه الصرر بعلم شيوخهم ورؤسائهم وتوزع عليهم كلهم. وجميع الأغوات الذين فى زماننا هم من أصحاب الصلاح والخير ويتسمون بالوقار ويوثق بهم. وإذا ظهرت من بعضهم الرعونة ـ حسب البشرية ـ فإنها لا تجاوز الدائرة المنجية للشريعة الغراء وبما أنهم يخدمون ويرعون ملك الكائنات ـ عليه أكمل الصلوات ـ يلزم ألا يؤاخذوا على ذلك فإذا ما أدوا وظائفهم فى وقار تام وأدب تام فلا يتصور عمل أشرف ببنى البشر من أعمالهم.

ينقسم الأغوات الذين ينحصر عملهم فى إيقاد القناديل وإطفائها إلى قسمين يقال لقسم منهم «سندبليس» والقسم الآخر «مكادة» ، وبما أن كل جهات حرم السعادة قد عينت وخصصت لأفراد منهم فعندما يحل الوقت المعين ينشغل كل واحد منهم بعمله ولا يجوز لأى واحد منهم أن يوقد أو يطفئ قناديل الآخر

٤٤

وبهذا لا يتدخلون فى خدمات بعضهم بعضا ولا توصف السرعة التى ينجزون بها أعمالهم.

تعريف مقدار خدمة الفراشة الشريفة الجليلة :

تطلق على الخدمة القيمة للكعبة المعظمة والحجرة المعطرة الفراشة الشريفة وقد هيئت هذه الخدمة ووضعت وفق عدد قناديل الحجرة الشريفة ومشاعلها.

قد رتب واضع خدمة الفراشة الجليلة مائة وأربعين قطعة من الفراشة على أن تكون كل قطعة منها أربعة وعشرين قيراطا. وخص أربعة وعشرين قيراطا منها بالخليفة العالى الشأن واثنى عشر قيراطا بأشراف مكة المكرمة وست قراريط بالمنتسبين للحجرة المعطرة وست قراريط لنقباء الفراشين وقسم كل قيراط من اثنتين وتسعين قطعة لخمسة أو ستة أو ثمانية أو عشر أشخاص فأوجد بهذا خمسة آلاف أو ستة آلاف من خدمة الفراشة السعيدة. وقد وضع هذا النظام فى عصر الدولة العثمانية عصر الميراث للمشتاقين لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى تستوجب المفخرة وقد خصص لكل قيراط منها حبوب وافية لتكريم أهالى المدينة المنورة ومكة المعظمة ، والحبوب التى خصصت لكل قيراط تعطى من قبل الشخص الذى نال هذا القيراط بالبراءة والإذن إلى الأشخاص الذين وكلهم لأداء الخدمة اللازمة من أهالى الحرمين. كما أن أصحاب الفراشة يرسلون كل عام إلى من وكلوهم من أهل الحرمين مقدارا من الهدايا باسم «الصرة» غير الحبوب فوكلاء خدمة الفراشة من أهالى الحرمين يمضون أوقاتهم قانعين بما يأخذون من مرتبات من خزانة الأوقاف السلطانية ، وما يرد إليهم من الصرر من موكليهم.

إن الخدمة الجليلة للفراشة قد قسمت إلى مائة وأربعين قطعة وجزاءا كما سبق ذكره أعلاه ولكنها قسمت فيما بعد إلى سبعة آلاف قطعة أو ثمانية آلاف ووزعت على أهالى الممالك الإسلامية بإذن من السلطان وكل من نال ربع قيراط من خدمة الفراشة يوكل أحدا من أهالى الحرمين ـ كما سبق ذكره ـ ويرسلون للأشخاص الذين وكلوهم صرة نقدية كل سنة ، وبناء على هذا يمكن أن يوكل

٤٥

فراش واحد من قبل عشرة أشخاص أو أزيد وبهذا يوجد من وظيفته أن يوقد «شمعة» أو «قنديلا» كل خمسة عشر يوما أو عشرين باسم موكله وبهذا يمكن لوكلاء الفراشة أن يتعايشوا بما يأخذون من الوقف السلطانى من المخصصات وما يرسله أصحاب البراءات العالية من الصرر.

أغلب أهالى الحرمين يتعايشون وفق ما حرر أعلاه والمشتاقون لخدمة النبى صلى الله عليه وسلم يبتهجون ويتباهون بحصولهم على ربع قيراط من خدمة الفراشة الجليلة ، وهذا يبين مدى رعاية السلاطين العثمانية للمرقد النبوى الجليل وحرم المسجد الحرام وعظم تقديرهم لها.

يطلق على رؤساء الوكلاء الذين تعهدوا بالقيام بخدمات الحجرة المعطرة بدلا من أصحاب الفراشة الشريفة «شيخ الفراشين» وقد أمسك هذا الشخص دفترا لتقييد أسماء الوكلاء وتسجيلها وقد تحققت أنه قد قيد فى الدفتر الحالى أسماء ما يقرب من ألف وكيل.

ولما كان الشيخ المشار إليه شخصا عظيم القدر ذا صفات عالية عند أهل المدينة فمن وظائفه أن يدخل إلى الحجرة المنيرة عند إيقاد قناديلها مع شيخ الحرم ونائبه وخازن خزانة الحرم ومن وظيفته الإشراف على عشرين شخصا هنديا المعينين لتعمير الثريات والقناديل وترميمها وتنظيفها.

مقام أبى بكر وعمر رضى الله عنهما :

فى داخل الحجرة المعطرة وتحت الغطاء القماش المصرى المزركش لقبر السعادة. وحيثما وجد هذان القبران فى الحجرة المسعودة قد نسخ فوق قطعة القماش التى تغطى القبر اسم صاحبه كما أن اسم النبى الطاهر قد زين ونقش باللآلىء الغالية.

وأرضية الغطاء القماش أخضر اللون ، وخطوطه بيضاء ، وقد زين الغطاء ـ غير الأسماء السابقة ـ بالصلوات الشريفة وأسماء النبى صلى الله عليه وسلم بخطوط نفيسة.

٤٦

ولما كان غسل داخل الحجرة المعطرة كل سنة فى اليوم التاسع من ربيع الأول وفى غرة رجب الفرد والثامن عشر من ذى القعدة من الأصول المتبعة فإنها تطيّب وتغسل فى الأيام المذكورة.

وإن كان قد خصص ثلاثة أيام لغسل الحجرة المعطرة إلا أن القيام بهذا العمل على ما هو المطلوب غير ممكن لذا أضيف لتلك الأيام المذكورة يوم لكل واحد منها ففى الأيام الأولى تنظف وتغسل الشمعدانات والقناديل. وفى اليوم الثانى ينظفون داخل الحجرة المنيفة وخارجها ويعطرونها وفق الأصول الآتية : ـ

صورة غسل حجرة السعادة

يقف أغوات الخبزيين العجمى كلهم أمام الباب الشامى منقسمين إلى ثلاث فرق ـ وذلك فى الأيام التى تغسل فيها وتمسح الحجرة المعطرة ـ وفى أيادى فرقة منهم مقاشط خاصة بالحجرة المعطرة والفرقة الثانية معهم مكانس مصنوعة من سعف النخيل والفرقة الثالثة يمسكون بقطع من الإسفنج الكبير ويرتب كلهم صفوفهم ، ثم يفتحون الباب الشريف المذكور ويدخلون فى داخل الحجرة المعطرة بكل أدب وسكون يقشطون ما يلزم قشطه وبعد أن يكنسوها جيدا ويمسحونها بقطع الإسفنج ثم يخرجون واحدا تلو آخر خارج شبكة القبر الشريف يوزعون الباقى من الماء المستعمل على سادات سكان المدينة فينالون العطايا.

ويستمر الأغوات الذين فى داخل الحجرة الشريفة فى أثناء الغسل فى ذكر «لا إله إلا الله محمد رسول الله» والأشخاص الذين اجتمعوا فى الحرم الشريف من أصحاب الشوق والإخلاص يصلون ويسلمون على النبى صلى الله عليه وسلم فى صوت واحد ، ولا يستطيع أصحاب الوجد أن يمسكوا دموعهم فى هذا الوقت الذى قد امتلأ فيه مسجد السعادة بالصفاء والدهشة والمهابة وهذه الحالة المليئة بالروحانية لا يمكن وصفها ولا بد من رؤيتها رؤية العين.

الخدمة الدائمة للخدم :

لما كان نيل سعادة خدمة الحجرة المسعودة غير ممكن التصور لأنها خدمة عظيمة

٤٧

الشأن فالذين ينالون هذه السعادة من الأمور الطبيعية بالنسبة لهم أن يقوموا بأعمالهم بالوجد والحب والحرص الشديد على أداء أعمالهم على خير وجه ؛ لذا يجتمع الفراشون بمسجد السعادة والآخرون من المخلصين والمحبين بعد أداء الصلوات المكتوبة كل صباح أمام مخزن الزيت (١) الكائن فى نهاية مسجد السعادة فيدعون حسب العادة.

وبعد إتمام الدعاء يذهبون فى تؤدة إلى الروضة المعطرة وهم يصلون ويسلمون وقد أخذ كل خادم إناء نحاسيا صغيرا ودستة من فتيل مزيت وبعد أن يعطوا لأربعة منهم إبريقا مزينا مملوءا بزيت الزيتون.

ولما كان فى أيادى أغوات الحراسة الذين يسيرون أمام الفراشين عصيان ذات كلاليب فكل واحد منهم ينزل القناديل الخاصة به وبعد أن يغير (٢) الفراشون الذين بجانبهم فتائلها يعلقونها فى أماكنها ، ثم يصلون صلاة الإشراق ويعودون إلى أماكنهم. وبعد أن ينتهى الفراشون من مسح القناديل وتغيير فتائلها والكناسون من كنس الحرم الشريف ينادى أحد الخدم الذين اجتمعوا أمام الباب الشامى «يا كناس» وكأنه يريد أن يبين لزملائه أن وقت كنس الحجرة المعطرة قد حان ، ويسرع الكناسون للاجتماع أمام الباب الشامى من الحجرة المعطرة ويدخلون فى الحجرة المنيفة ويكنسونها وهم يوحدون ويهللون ثم يخرجون.

تأديب الأغوات المتهمين :

من مقتضيات الأصول المرعية أن يقف الأغوات كلهم من خبزيين والعجمى حسب رتبهم مصطفين بعد الانتهاء من خدماتهم فى تنظيف الحجرة اللطيفة والمسجد الشريف ، كما سبق تحريره ، وذلك لتأديب الأغوات المتهمين. ويأتى الأغا الذى كانت عليه نوبة الحراسة بالمتهمين فى الميدان وينسحب إلى مكانه وعندئذ يتقدم أحد ضباط الأغوات عدة خطوات ويقدم للمتهم بعض النصائح ثم يأمر بإحضار العصا كما أن استجواب المتهمين ومحاكمتهم يتمان فى مكان آخر

__________________

(١) يقال لهذه الخزانة «خزانة التعمير» أيضا.

(٢) إن سرعة إنزال القناديل وتعليقها مرة أخرى مهارة خاصة بخدمة الحجرة المعطرة.

٤٨

وعند ثبوت التهمة يتم إحضار المتهم وضربه من مقتضيات القانون القديم الخاص بالأغوات.

ولما يؤتى بالعصى يدخل المتهم بواسطة اثنين من الأغوات إلى خزانة الشموع التى تقع أمام الحجرة الشريفة وتدخل رجلاه فى الفلقة (١) ويؤخذ فى ضرب المتهم على رجليه والجهر بكلمة الشهادة عند الضرب بينما يقف الأغوات الآخرون خارج باب خزانة الشموع فى حالة انتباه.

ويأخذ المتهم الذى أدرجت رجلاه فى الفلقة فى الصياح والاستغاثة ، وإذا وجد من يشفع له يخلى سبيله وإذا لم يوجد من يشفع يضرب إلى أن يقول «الفاتحة» ويغلق باب خزانة الشموع بعد الفاتحة ، ويجلس الأغوات الذين عليهم نوبة الحراسة فوق صفة أصحاب الصفة متجهين إلى القبلة بينما يذهب الذين أنهوا نوبة حراستهم إلى تناول الطعام بعد أن يمسحوا ظهرهم على العمود الذى يقع فى الجهة اليمنى لمحراب التهجد وتقبيل أيادى الحراس السابقين.

تأسف : يجهل التاريخ وقت اختراع بدعة ضرب الأغوات وتأديبهم فى داخل مسجد السعادة ولما أصبح هذا النظام فى حكم القانون ولم تفترضه أية جهة فمثل هذا العمل يعد بدعة ، خارجا عن دائرة الأدب ، ومخالفا لأحكام الشريعة ؛ فقد أحضروا للفاروق الأعظم فتى يستحق الضرب والتأديب ، ولما كان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى داخل المسجد أمر بأن يخرج المتهم خارج المسجد حيث يضرب ويؤدب ، أما فى زماننا فإن الأمر تجاوز حد ضرب وتربية الأغوات بعضهم بعضا إلى ضرب شيوخ الخدمة وتأديب أى واحد منهم ارتكب هفوة حتى ولو كان أمام قبر الرسول دون خجل واستحياء ، فيصرخ المضروبون ويولولون دون أن يراعوا الأدب فى المكان المقدس. وللأسف الشديد فإن السلوك الذى نهى عنه حضرة الفاروق قد أصبح بدعة مستحسنة بل أخذ حكم الطاعة والعبادة.

ذيل : سألت أحد أهالى المدينة الكرام قائلا : «إن الضرب فى داخل الحرم

__________________

(١) الفلقه : عود يتصل به حبلان كانت تمسك بهما القدمان عند الضرب.

٤٩

الشريف يخالف الآداب السلوكية يا ترى ضرب الأغوات ـ كما سبق ذكره ـ يستند إلى دليل موثوق؟

«فأجابنى ذلك الرجل على هذا الوجه : «فى الواقع ضرب الإنسان فى داخل مسجد النبى سوء أدب! ولكن لضرب الأغوات وتأديبهم فى داخل المسجد فائدتان :

١ ـ الفائدة الأولى : إنقاذ واحد من جماعات المسلمين ـ من الزوار ، أو المجاورين ـ المتهم من الضرب. إذا جاء وقبل يد الضارب يجب أن تقبل شفاعة هذا الرجل ورجاؤه وإن كان رجلا قليل الشأن ويعفى عن المتهم.

٢ ـ الفائدة الثانية : أن يضرب المتهم فى داخل الأصناف فإذا ما ضرب المتهم خارج المسجد وفى مكان خفى فإن الأغوات قد يضربونه إلى أن يموت لما فطروا عليه من الرعونة والشدة! وإذا قال المتهم تحت الضرب وإننى لم أرتكب هذا الذنب ، فإنكم تضربونى بدون وجه حق أو يخرج من فمه ـ كثيرا ـ ألفاظا مخلة بالآداب فيستمرون فى ضربه قائلين : «إنك تعصى من هو أعلى منك رتبة».

قد شوهد تكرار الضرب حتى فى داخل المسجد عدة مرات!! وذات يوم قال شيخ الحرم شوكت باشا : «إن ضرب إنسان فى داخل مسجد السعادة مخل بالآداب. وبعد هذا اليوم فليبلغ عن كل من يرتكب جرما من قبل ضابطه ثم تشكل هيئة من ضباط الأغوات لاستجواب المتهم ثم يسجن ويؤدب ويضرب فى مكان مناسب».

وألغيت عادة تأديب المتهمين بهذا الشكل داخل مسجد السعادة. وأراد ضباط الأغوات أن يبينوا خطأ رأى شوكت باشا وردهم لهذه الفكرة فقالوا : «إن زمرة الأغوات تتكون من طائفة العجمى فإذا ما ترك هؤلاء أحرارا يضلون كما يشاءون فيصعب الحفاظ على مسجد السعادة ولا سيما الحجرة المعطرة ، فتقع الأمانات والأشياء النفيسة المباركة فى يد السفلة. ومن هنا يقتضى الأمر تربية هؤلاء ولا بد لهم أن يحترزوا من رؤسائهم» إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقنعوا شوكت باشا برأيهم. ولما أصبح عادل باشا شيخا للحرم ، كرر الأغوات مطالبهم السابقة

٥٠

ورجوا منه أن يسمح لهم بإجراء أحكام عاداتهم السابقة وأصروا عليه. فقال لهم عادل باشا موافقا : «اعملوا وتصرفوا وفق عاداتكم القديمة» والآن يتصرفون كما كانوا يتصرفون من قبل.

وعندما يقترب المساء وقبل حلول وقت صلاة المغرب بعشر دقائق يشير الموقدون إلى الفراش الذى عين لإيقاد الشموع والذى ينتظر تحت محفل المؤذنين فيعلن هذا الفراش بصوت مرتفع حلول الوقت قائلا : «بسم الله» وعندئذ يجتمع الخدمة كلهم وقد سمعوا الصوت عند شيخ الحرم النبوى ويقفون أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيرفع شيخ الحرم يده داعيا وفقا للأصول ويخرج من خزانة الشموع الشمعدانين الذهبيين فيعطى أحدهما لشيخ الحرم والآخر لنائب الحرم فيدخلان إلى حجرة السعادة ، ويسيران فى داخل الحجرة المعطرة بكل أدب وتعظيم ويضع شيخ الحرم أحد الشمعدانين ناحية رأس النبى صلى الله عليه وسلم والآخر ناحية قدميه ، وبعد أن يتمسحا بقبة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخرجان. ثم يدخل شيخ الحرم إلى الحجرة الشريفة مرة أخرى بعد أن يعطى لشيخين شمعتين مدببتين لإيقاد قناديل الحجرة وإناء مدببا من النحاس (١) لكل واحد منهما.

ومن القوانين القديمة ومقتضياتها أن من يضع الشمعدان الذى يوضع بجانب رأس النبى صلى الله عليه وسلم هو شيخ الحرم وأن يدخله بذاته ، كما أن الشمعدان الذى يوقد بجانب قدمى النبى صلى الله عليه وسلم يدخل من قبل نائب الحرم ويخرج كذلك. كما أن القوانين المرعية أن يحمل خازن خزانة الحرم فى أثناء ذلك مبخرة وينهمك شيخ الفراشين بالدعاء ؛ إلا أن نقل المبخرة الذى يستوجب الفخر وإن كان خاصا بالخازن قد شوهد أحيانا قاضى المدينة المنورة ومدير الحرم السعيد قد حملاها متناوبين.

بعد أن يؤدى شيخ الحرم ونائب الحرم مهمتهما مصلين مسلمين يعودان متقهقرين أحدهما من يمين القبر والآخر من يساره ، وبما أن الأشخاص المكلفين بإيقاد القناديل يؤدون مهمتهم ومعهم المشار إليهما ، يؤذّن بعد ذلك وينصرف كل واحد إلى جهة لأداء الصلاة.

__________________

(١) تهدى هذه الأوانى من قبل أصحاب الخيرات.

٥١

إخطار

إن السعداء الذين يتواجدون فى المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يحملون البراءة السلطانية لخدمة الفراشة يستطيعون أن يؤدوا وظائفهم بأنفسهم بدلالة وكلائهم وذلك مثل إيقاد القناديل. انتهى.

وبعد أن تؤدى صلاة العشاء وتتفرق جماعة المصلين يغلق أغوات الخبزى والعجمى أبواب الحرم وقد أمسكوا فى أياديهم فوانيس ملونة ويخطرون من يصادفونهم من الأفراد بضرورة خروجهم من المسجد قائلين «بسم الله» أو «لا إله إلا الله» وبعد أن يغلقوا أبواب المسجد يستقبلون حجرة السعادة ويصيحون قائلين «الصلاة والسلام عليك يا رسول الله» وهم واقفون أمام باب الرحمة ويصلون على النبى صلى الله عليه وسلم مجتمعين فى صوت واحد.

وروحانيته عندما تنضم آيات الفيوضات النبوية إلى سكون مسجد السعادة وهدوئه وروحانيته فإن المهابة والدهشة المعنوية اللتين تحدثهما الصلوات التى يطلقها الأغوات ، تلك الصلوات المليئة بالوجد المحمدى تصيبان الإنسان بالقشعريرة وتوقفان شعر بدنه ترفرف روحه حول بدنه كأنها أثير ، ولا يمكن لهؤلاء الذين يستمعون لهذه الأصداء التى تثير الأشواق إلا أن يبكوا وإن كانت قلوبهم قدت من صخر.

صورة تسكين الأغوات :

ينسحب الأغوات عقب الصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم إلى الساحة الرملية لحرم السعادة ، وينامون فى مكان مخصوص لهم أمام باب النساء على وضع غريب ، ولكل أغا فرش للنوم يشبه الخيمة ، وحينما ينفردون للنوم يضع كل واحد منهم عمته فوق فراش النوم ثم يتجهون برءوسهم نحو الروضة المطهرة وبأرجلهم نحو باب النساء ونصف أجسامهم تحت الخيمة والنصف الآخر خارج الفراش الذى يشبه الخيمة. فإذا ما رأى أحد هذه العمم فوق الفراش يظن أن الأغوات قد وقفوا لأداء الصلاة مصطفين.

٥٢

ومن أحكام القوانين القديمة أن يظل أحد الأغوات فى داخل مسجد السعادة لنوبة الحراسة وأن يفتح الباب كل ليلة لرئيس المؤذنين الذين يؤذنون قبل الصباح بثلاث ساعات من باب النساء وينادى مخاطبا أغوات الحراسة قائلا : «لا إله إلا الله» ؛ فيجيب الأغا الذى فى نوبة الحراسة من الداخل «محمد رسول الله» العبارة المنجية ويفتح له الباب. وبعد ما يفتح باب النساء ويضع الأغوات فرشهم فى المكان الخاص بها يقف رئيس المؤذنين أمام المئذنة الرئيسية يأخذ الدستور وهو يصلى على النبى صلى الله عليه وسلم قائلا : «اللهم صل وسلم وزد وأنعم وبارك على أسعد العرب والعجم إمام طيبة والحرم سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم ورضى الله تعالى عن كل الصحابة أجمعين الفاتحة» ، ثم يصعد على المئذنة سابقة الذكر ويأخذ فى التهليل والتسبيح ويوقظ سكنة دار السكينة من نوم غفلتهم ثم يتبدد الصوت وهو رخيم حزين محرق فى الأذان والذين يسمعون الأذان يستيقظون ويتوضئون ويوقظون أهل البيت ثم يذهبون إلى المسجد الشريف ويواظبون فى قراءة الأذكار إلى أن يحين وقت الصلاة ، وذلك لأداء الصلاة والسلام فوق المآذن إلى طلوع الفجر وبعد ذلك يؤذن للإعلان عن حلول وقت صلاة الفجر.

ومن أحكام القوانين الجارية بين الأغوات إغلاق باب النساء بعد دخول المؤذن وعندما يصل المؤذنون الآخرون يفتح الباب المذكور مرة أخرى ويغلق بعد دخولهم وتستغرق الأوقات غير أذان المغرب نصف ساعة وتستغرق التهاليل والتسليمات والتسابيح التى تلقى قبل صلاة الفجر ساعتين ونصف ساعة ويتناوب المؤذنون سواء كان فى الأذان أو التسابيح والتهاليل. ومن عادات أهل المدينة التى لا يطرأ عليها التغيير ، صعود رئيس المؤذنين على المئذنة الرئيسية قبل طلوع الفجر بساعة ، وإبقاء الأغوات القناديل والثريات عندما يبدأ المؤذن فى الصلاة والسلام ، ووصول الأهالى واحدا تلو آخر ليظلوا فى انتظار حلول وقت صلاة الفجر.

وفى الوقت الذى يمضى بين الأذانين ينهمك بعض الجماعة فى تلاوة القرآن وبعضها فى ذكر الله والبعض الآخر يسفحون دموع الندامة من عيونهم ، ويحل

٥٣

فى المسجد بإصدار أصوات الحفاظ همهمة تخرج أصحاب الوجد والإخلاص من شعورهم ، وفى هذه الحالة من السعادة ينزل المؤذنون من المآذن وينادى الذين فى المحفل قائلين ، الفاتحة ، ويؤدى العلماء الكرام مع الجماعة ركعتى السنة وعند الإقامة يصلون فرض صلاة الفجر مقتدين بإمام المذهب الشافعى ثم يدعون ويبتهلون ثم تبدأ رحلة الوعظ والنصيحة ويستمع إلى القرآن الذى يتلوه الحفاظ المحترمون.

ويمضى الوقت على هذه الحالة ما يقرب من ساعة ثم ينادى أغوات نوبة الحراسة قائلين «الصلاة» فينهى العلماء دروسهم ونصائحهم ثم تقام الصلاة مرة أخرى فتصلى جماعة المذهب المالكى ، وبعد أداء الصلاة والدعاء يفتح باب الحجرة ويلج شيخ الحرم ونائب الحرم فى الحجرة الطاهرة ويخرجان الشمعدانين منها ويدعوان بعد إطفاء القناديل.

خدمات خدم مسجد السعادة الدائمة والمؤقتة :

وكان للمسجد الشريف قديما غير أغوات حجرة السعادة مائة وعشرون شخصا من الخدم والموظفين ، وكانوا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام هى «البوابون ، الفراشون ، والكناسون» وكان كل قسم تحت رياسة شيخ ما ، كما كان يستخدم ثلاثون شخصا من الخارج يطلق عليهم «وكلاء الخدم» وكان للمسجد الشريف فى تلك الأوقات خمسة وعشرون إماما حنفيا ، اثنا عشر إماما شافعيا ، وعشرون خطيبا حنفيا ، وعشرة خطباء من المذهب الشافعى ، وخطيب مالكى وآخر حنبلى ، وخمسة وثلاثون مؤذنا ، وكان هؤلاء كلهم يؤدون خدماتهم بالمناوبة ، ومع مرور الأيام زاد عدد الخدم حتى وصلوا إلى العدد الذى سيرى فى الفهرس الآتى :

الخطباء والأئمة فى الحرم النبوى الشريف

العدد الشخص

٤٦ الخطباء الكرام «يقومون بالإمامة أيضا بعض الأوقات»

٥٤

٣٧ الأئمة الكرام

٣١ مراهقون

٣٤ صغير

١ نقيب

١٤٩ المجموع

١ شيخ

٣٨ رؤساء

٣٩

مكبرو الحرم الشريف

١ شيخ

٢٥ مكبر

٢٦ المجموع

١٩ (١)

٧

١ برقى

١ نقيب الرؤساء

١ موقت الحرم الشريف

٣ المجموع

__________________

(١) ربما أن من يقومون بمهمة الرؤساء وقد قيدوا فى صف الرؤساء طرحوا من هنا.

٥٥

بوابو الحرم الشريف

٢ بواب باب الرحمة

٢ بواب باب السلام

٢ بواب باب النساء

٢ بواب باب التوسل

٢ بواب باب جبريل

١ بواب السور الخشبى

١١ المجموع

سقاء والحرم الشريف

١ الشيخ

٩ السقاءون

١٠ المجموع

الحراس الذين يقفون مصطفين عندما يفتح باب الحجرة المعطرة صباحا ومساء

١ شيخ

استطراد

لم يكن فى صدر الإسلام أمام خطباء المدينة المنورة مؤذن منبر ، وبعد ما احترق مسجد السعادة وخرب وضع نظام وجود أحد الأشخاص أطلق عليه مؤذن المحراب لحماية الخطباء من اعتداءات الأشقياء ، وكان أكبر دافع لوضع هذا النظام هو اعتداء فرقة من غلاة الفرقة الإمامية وإساءتها ، وقد استولت تلك الفرقة المذكورة على المدينة المنورة قبل الحريق وبالتدريج تغلب أفرادها على أفراد مذاهب الحق بالتدريج وسيطروا على مسجد السعادة وعلى جميع المساجد الأخرى والأضرحة التى أداروها وفق تعليمات وطقوس مذهب الرفض والإلحاد ومنعوا أصحاب المذهب الحق من الدخول فى مسجد السعادة وطبقوا فى المسائل الشرعية أحكام مذهبهم وحرفوا دقائق الكتب الفقهية كيفما شاءوا.

٥٦

وانتزعوا زمام الحكم فى فترة ما واغتصبوا دور إفتاء مذاهب الحق ، وتدخلوا فى الأحوال الشخصية لهذه المذاهب الحقة من حيث عقد النكاح وأخضعوا على الأحكام الفرعية لمذهبهم وأصبح لا يعقد النكاح دون الاستئذان من قضاة تلك الطائفة ودون وجود أحد أئمتهم. وطفح كيل أهل المدينة من مظالمهم التى لا تطاق وتشتتوا فى أطراف البلاد الأخرى فرادى ومثانى ، واتحد أفراد الملاحدة واتفقوا على ألا يدخلوا أحدا من علماء المذاهب الحقة فى دار الهجرة ، وطردوا العلماء الذين فى داخل المدينة واحدا تلو آخر ؛ وبهذا أصبحت المدينة المنورة تحت أيدى طائفة الرافضة وخلع كل واحد منهم برقع الحياء والأدب وخرجوا جميعا من دائرة الشرع المنجية ، وابتدعوا بدعا كثيرة متعددة وارتكبوا مساوئ تستدعى غضب الله ، وهكذا كانوا سببا فى احتراق مسجد السعادة ، حتى إنهم رأوا بعض الأبيات كتبت على جدران المسجد الباقية دون الاحتراق من قبل الرحمن وأخبروا ذلك وكانت الأبيات المشهودة تبين إساءات الطائفة المذكورة وقد سطرت أيضا فى الصورة من الوجهة الأولى ، ولما استمرت وقاحة هذه الطائفة بعد تجديد مسجد السعادة أيضا قويت إرادة أحد ملوك «نصير» الشراكسة فعين مفتيا لموحدى المذهب الحق فى المدينة المنورة ، وهكذا أرسل إلى طيبة الطيبة المفتى «شاهى» من أفاضل الفقهاء ، ولما وصل المفتى المرسل من «نصير» إلى المدينة رأى أن أفراد المذاهب الحقة لا حكم لهم فى المدينة المذكورة لأجل ذلك فضل أن يؤدى مهمته فى مسجد ينسب إلى أبى بكر الصديق وقد أصبح مسجد السعادة تحت سيطرة غلاة الملاحدة وأخذ يصلى هناك ليلا ونهارا يعظ وينصح الناس فى خفاء وعزلة ، وقد ظهر فى أثناء ذلك كثير من الموحدين الذين احترقت أكبادهم بنار الغيرة على الإسلام ، وبذل المفتى جهده للتغلب على طائفة الملاحدة واستطاع بتصرفه الحكيم أن يدخل فى المسجد الحرام مع جم غفير ممن التفوا حوله من أتباعه وأخذ يعظ هناك وينصح وبهذه الطريقة الأصيلة استطاع أن يزيد عدد أتباع جماعات المذهب الحق يوما بعد يوم وبهذا ظهرت علامة إمكانية التغلب على الملاحدة.

٥٧

ولما رأت الطائفة المذكورة ازدياد أتباع المذهب الحق أخذت تتبع المفتى حيثما يذهب وتؤذيه فى جسمه وترجمه بحجارة الجور والإهانة حيثما يعظ وينصح من المساجد ، إلا أن المفتى قد فتح صدره بالصبر لتحمل اعتراضات الملاحدة وزاد من عدد جماعته يوما بعد يوم وبهذه الطريقة استطاع أن يعظ ويخطب أحيانا حتى فى مسجد السعادة إلا أن جور ملاحدة الإمامية وأذاهم زاد قدر سعيه وجهده إذ أخذوا يرجمونه حينما يخطب فى المسجد حتى وهو يستأذن النبى صلى الله عليه وسلم واقفا أمام قبره وتعرض إلى غير ذلك من الأذى والتعب حتى أصبح يخاف على نفسه فقلت جرأته ـ وفق عادات البشر ـ وأراد أن يحصر وظيفته ـ الإمامة والخطابة ـ فى المسجد الذى ينسب لاسم الصديق الأكبر ـ رضى الله عنه ـ ومع هذا لم يتركوه على راحته حتى فى مسجد أبى بكر ولم يستطع أن يؤدى مهمته مستريحا.

وقد تأثر أفراد سادات المذاهب الحقة من هذا الوضع وثقل عليهم ، لذا قرروا فى مجلس عقدوه لبحث هذا الموضوع أن يخطب المفتى فى مسجد السعادة فإذا ما التزمت الطائفة المذكورة طريقة الإساءة والأذى والتسلط كان له أن يقاومهم بالسلاح وقد كثر عددهم وعلى هذا عادوا يوما لأداء الصلاة فى مسجد السعادة ، وقد اتحد مردة دائرة الرفض والإلحاد على أن يؤذوا ويسيئوا للخطيب فى داخل جماعته إلا أنهم جبنوا عن ذلك لما وصلهم من اتفاق أهل المدينة على المقاومة وأنهم كلهم متسلحون وعلى هذا لم يستطيعوا أن يتسلطوا على الخطيب بالرجم بل أطالوا ألسنتهم وأظهروا خبثهم بهذا الشكل.

وأخذ المفتى بعد هذه الواقعة يكثر من خطبه ومواعظه فى مسجد السعادة. إلا أن هذا العمل أثار غيظ علماء الطائفة المذكورة وغضبهم لذا فكر عقلاء الأهالى أن يحموا شخص المفتى ذو المحاسن من سهام إهانة الأشقياء وعن سوء قصد الملاحدة وقرروا أن يسير أمام الخطيب المفتى حينما يقوم من مكانه الخاص ويتجه إلى منبر السعادة حارسا وشخصا آخر أطلقوا عليه مؤذن المنبر ، وفى الواقع إن هذا القرار كان صائبا ومناسبا لوقته.

٥٨

وبناء على ما عرف ـ فى الصورة العاشرة من الوجهة الثالثة ـ أن الأمور سارت على ذلك المنوال فترة ما إلا أن الأهالى تغلبوا على جماعة الملاحدة المكروهة وأخرجوهم كافة من بلدة المدينة المنورة المباركة إلا أن الأهالى قد أبقوا خدمة مؤذن المنبر لسبب ما ، ومن ذلك الوقت أصبح من العادة أن يسير أمام خطباء الحرمين مؤذن منبر فى أيام الجمع والأعياد ، والآن يوجد مؤذن منبر أمام الخطباء الذين يتجهون لإلقاء الخطبة رعاية لهذا النظام سواء أكان فى المدينة المنورة أو مكة المكرمة وفى بعض البلاد العربية.

ولا ينكر فوائد هذا النظام الشامل للمحاسن فإن كان مثل هذا النظام فى باب السعادة لما أصيب خطيب جامع الوالدة فى أقسراى بجرح فى أثناء خطبته.

مولد النبى صلى الله عليه وسلم يحيى أهالى المدينة ليالى المولد الشريف فى داخل المسجد الشريف ويجتمعون فى حلقات قرب الصباح أمام «باب النساء» وبعد أن يحضروا كرسيا إلى الساحة الرملية لحرم السعادة ، يستمعون إلى المولد الشريف من قبل خمسة أشخاص ذوى أصوات رخيمة والشيخ الخطيب ويشربون الشراب الذى يوزع عادة ويعودون إلى منازلهم.

ويشرع فى قراءة القصيدة المذكورة مع طلوع شمس اليوم الثانى عشر من كل سنة وإن كان قرّاء المولد من أئمة مسجد السعادة إلا أن لهم وظائف أخرى ، وقارئ المولد الأول خاص بقراءة منقبة مولد السعادة وإنه يصعد فوق كرسى موضوع فى ساحة الحرم الشريف الرملية ويقرأ حديثا ثم يدعو لسلطان الزمان وينزل ، ثم يصعد الثانى ويقرأ ولادة النبى صلى الله عليه وسلم الباهرة ، ويقرأ الثالث الرضاع ، والرابع يقرأ جزءا خاصا بالهجرة السنية ، والخامس يدعو ، وهكذا يؤدى كل واحد منهم وظيفته.

فتح المحال فى يوم مولد النبى للبيع والشراء ، والانشغال بأشياء أخرى ممنوع قطعيا بين أهل المدينة المنورة ، يلبس فى ذلك اليوم الفيروزى الكبير والصغير الغنى والفقير كلهم ملابس فاخرة ويحتفلون بالعيد ويهنئ بعضهم بعضا قائلين

٥٩

حينما يتقابلون إن هذا اليوم السعيد اليوم الذى ولد فيه سيد الكائنات إن أجسام الكائنات التى كانت ميتة تقريبا تجددت حياتها ، المواسم المقدمة الأخرى خلقت لحرمة هذا اليوم ، وقد نزل القرآن الكريم المبين لأجل هذا النبى المختار هذا اليوم يوم العيد الأكبر ، هيا نظهر أقصى ما نستطيع من الفرح والسرور ونعلن هذا اليوم بإطلاق المدافع من القلاع وتفجير حشو البارود.

زيارة مشهد حمزة : ولما كان من عادة سكان البلاد الحجازية زيارة ضريح سيدنا حمزة بن عبد المطلب ـ رضى الله عنه ـ فى الليلة الثانية عشرة من رجب الفرد من كل سنة ، فيذهب أهالى المدينة الطاهرة لزيارة مشهد سيدنا حمزة فى الليلة الثانية عشرة من شهر رجب وبعد الزيارة ينتشرون فى الخيم التى نصبت بجوار مرقد الشهيد المشار إليه ويحتفلون إلى الصباح وهم يطلقون حشو البارود.

ويخرجون فى الثالث والعشرين من رجب لاستقبال قافلة الزوار الذين يطلق عليهم «الرجبية» إلى خارج المدينة ، وهؤلاء يفدون من الأطراف والأكناف قاصدين الزيارة ، وبما أن هؤلاء الزوار يأتون إلى دار الهجرة راكبين الهجان قد يطلق عليهم «ركاب» أيضا.

وتتكون طائفة الرجبية من الزوار الذين يأتون من اليمن ومكة والطائف وأهالى البلاد العربية وخاصة من البلاد والقرى القريبة المجاورة لدار الهجرة ، وكل هؤلاء يأتون راكبين الهجان ومعهم أولادهم وعيالهم وكل قبيلة قد رفعت علمها وجلبوا رئيس قبيلتهم أمامهم ويدخلون بالشوق والإخلاص داخل حرم السعادة وينالون شرف مسح وجوههم على عتبة مرتبة العرش النبوى ويتلون النعوت الشريفة والصلوات الشريفة ويبكون متأثرين بما يحدث هذا الموقف من أثر شديد فى نفوسهم.

عندما يدخل زوار الرجبية فى حرم السعادة يبكون قليلا إذ ترق قلوبهم ، يسفحون الدموع الدامية إلى حدّ أن من يرونهم تذوب قلوبهم كالملح وإن كانت فى قساوة الحجر الأسود ، إنهم يفدون إلى المدينة المنورة ويقتحمونها مزدحمين

٦٠