موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

ـ بشأنهم ، وإذا ما نظرنا إلى طورهم الدائم كانت الإساءة إليهم ، وإن وجد من بينهم من لم يسئ إلى أحد ، إلا أنهم كذلك لم يحسنوا لأحد وهذا ما يجب أن نعتبر به.

والحقيقة أن العباسيين ، ما عدا بضعة منهم لم يقوموا بخدمة عظيمة للحرمين الشريفين ، وأهم هذه الأعمال تعمير السيدة زبيدة للعين المنسوبة إليها وتعبيد الطريق من بغداد إلى مكة فوق الصحراء يستطيع أن يسير عليها حتى الأعمى ويعد من الأعمال السهلة التى لا تقاس بالطرق المعبدة فى الأماكن الجبلية من بلادنا.

وقد حكم الفاطميون ، مكة والمدينة باغتصاب عنوان الخلافة قبل أن تنتقل الخلافة من العباسيين إلى العثمانيين إلا أنهم عدوا أنفسهم من أولاد النبى بشرط عدم علم مدى أحقيتهم فى ذلك ومع ذلك لم يتركوا فسادا لم يرتكبوه ، مثل ارتكاب الأشراف الذين فى منصب الإمارة جميع أنواع الجور لإبعاد الشريف الآخر من منصبه إذ كانوا ضحايا لمؤامرة الفاطميين ، أو وجود شريفين فى منصب الإمارة فى نفس الوقت من الأحوال التى حدثت بسبب الفاطميين.

وعندما نصل إلى العائلة العثمانية عالية العنوان ، نجد أن أولاد أرطغرل اعتادوا حتى قبل تسلم السلطان سليم خان عصا الخلافة وصولجان السلطة على أن يرسلوا مستلزمات المحبة والإسلام وذلك بإرسال الصرة إلى الحرمين الشريفين ، وقد ثبت بما قيد فى صفحات التاريخ أنهم بعد أن نالوا لقب الخلافة بعد فتحهم مصر ، لم يسيئوا فى استخدام سلطتهم واستقلال حكومتهم الذى نالوه فى ظل الدولة المحمدية وذلك بإظهار قوتهم وعرضها على أهالى الأماكن المقدسة كما فعل الملوك السابقون كما أنهم لم يخدموا الحرمين الشريفين من أجل الأغراض الدنيوية مخالفين بذلك الشريعة الغراء الأحمدية جاحدين لمآثرها ، بل ليخدموا الحرمين الشريفين حق الخدمة بدون أى غرض دنيوى.

حتى يروى أن السلطان سليم خان حينما أحضر أمامه مكنسة من المكانس

٣٠١

الخاصة داخل البيت المعظم رفع تلك المكنسة عاليا كأنه يريد أن يعلقها على تاجه وبهذا أظهر أن هذا هو شأن من يلقب بخادم الحرمين المحترمين ، وأن هذا الاحترام حركة مناسبة لما أظهره أجداده الأماجد من غيرة نحو الحرمين الشريفين كما أن أولاده وأحفاده ذوى الأصول العريقة اتخذوه قدوة لهم.

ولم يسمع من أحد عن وقوع أى قدر من الجفاء والجور ولو بمقدار ذرة صغيرة سواء أكان على الحرمين المحترمين أو الأرض الحرام من قبل الأسرة العالية بعنوان السلطنة السنية بل على العكس فإن كافة آل عثمان قد بذلوا خدمات حسنة قليلة كانت أو كثيرة وهذه الأعمال تزين صفحات شكر لتاريخ المحال المقدسة ، ونحن نقول إذ نذكر ببعض هذه الأعمال :

كانت عين عرفات قد سدت تقريبا سدا كليا فى عهد السلطان سليمان خان ، وأوشك أهل مكة الذين تعودوا على أن يرووا ظمأهم من مائها اللذيذ على الهلاك مثل شهداء كربلاء من العطش ، فتحمل ذلك السلطان الخير نفقات باهظة فطهر عين عرفات وأجراها إلى مكة المكرمة بعد تطهيرها وتوسيعها ، ومن ذلك الوقت إلى زماننا هذا فالعين المذكورة هى التى تروى وتسقى مكة المكرمة ولما خربت فى الأيام الأخيرة كان تجديدها وتعميرها بصورة أفضل وتوسيعها من نصيب ملكنا السلطان عبد الحميد خان الذى مازال جالسا على الأريكة السلطانية القوية ، إن هذا الماء الزلال الذى به الحياة لم يسق مكة المكرمة فقط ويرويها بل كاد أن يغرقها بفضله وهذا ما سيشهد به من رأوا العين المذكورة رؤية العين.

والحكم الذى ينطبق على عين عرفات فى مكة المكرمة هو نفس الحكم الذى ينطبق على عين الزرقاء فى المدينة المنورة ، ولما كانت هذه العين أيضا على وشك الانسداد فقد طهر مجراها ووسع قدر ضعفه فى عهد السلطان عبد المجيد خان الغازى والد سلطاننا كثير المحامد.

ولم يكتب لأية دولة إسلامية القيام بمثل هذين العملين الذين قامت بهما الدولة العثمانية التى لا تنكر خدماتها فى أحباء الحرمين الشريفين ومع هذا فلما

٣٠٢

أشرفت مبانى البيت الأعظم على الانهيار والخراب فى سنة ١٠٤٢ الهجرية فتجديده من أساس مبانيه قد انتظم ضمن جملة الأعمال التى قام بها السلاطين العثمانيين وهذه الخدمة لم تتيسر لأية واحدة من الدول الإسلامية وكانت من نصيب دولتنا وولى نعمتنا والتى ترفع شأن آل عثمان إلى أعلى عليين.

ولما كان غرضنا هنا عقد مقارنة بين الخلافات المتقدمة والخلافة الجليلة والإسلامية العثمانية فيما قدمت من الخدمات الجليلة للحرمين الشريفين وإلا فالتفصيل ذكر ودرج فى الصورة الثالثة من الوجهة التاسعة فى قسم مرآة المدينة من مرآة الحرمين ، فالذين يريدون أن يعرفوا مدى ما وصلت إليه محبة السلاطين العثمانيين للنبى صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة ووفرة عبوديتهم عليهم أن يراجعوا الوجهة المذكورة.

ولما كان عرض الحال الذى قدمه السلطان محمود خان إلى عتبة صاحب الرسالة العالية بمناسبة إهدائه شمعدان إلى الحجرة المعطرة سنة ١٢٣٥ ه‍ يدل على محبة ذلك السلطان وإخلاصه فرأينا إدراجه فى هذا المكان.

لقد تجرأت بإهداء هذا الشمعدان يا رسول الله

وغرضى هو خدمة الدرجة العليا يا رسول الله

ولا تليق بروضتك هديتى المتواضعة أنا العاجز

لتشملنى بإحسانك وعنايتك بقبولها يا رسول الله

فمن غيرك أكشف به يا رسول الله

فالإحسان والمروءة من ديدنك يا رسول الله

دخيلك الأمان ثم الأمان قد وقفت على عتبتك

فلترحمنى وتشفع لى يا رسول الله

فاستصحب محمود عدلى فى الدارين

فالدولة لك فى الأولى والآخرة يا رسول الله

٣٠٣

إن التضرع الذى صدر من السلطان محمود خان فى عرض الحال هذا على شكل منظوم من مقتضيات التضرع الذى يليق بالمسلمين وتذلل المحبين من شأن الأسرة العثمانية ولا مجال لقياسها بسلوك الملوك الآخرين الذى اتسم دائما بالتكبر والتفاخر ، وخارج عن حد إمكانية مقارنتهما بسلوك الملوك الآخرين.

ولما كان ما قام به السلطان محمود من تعمير مجرد تعمير لم يصل إلى درجة التزيين يليق بشأن الحرمين الشريفين إذ لم تسمح مشاغله الكثيرة بهذا العمل ، ويلزمنا أن ندقق النظر فيما نقوله من كلمة «مشاغل» ولم تكن هذه المشاغل عبارة عن الألفاظ المجردة ، بل كان العصيان الذى عم فى مصر ، وألبانية ، وإلغاء الانكشارية ، وهجمات روسيا ، وكانت مشكلة واحدة منها كافية لأن تترك عدة السلاطين العظام عاجزين عن العمل ، وهذه المشاغل التى فى خلالها قام السلطان محمود بإجراء تعميرات كانت كافية لجعل مكة والمدينة أجمل من ذى قبل ، إلا أن عبد المجيد خان لم يكتف بذلك ، فتح جيب حميته وسماحته ليعمر من جديد مكة والمدينة ويزينهما ويكمل تجديدهما على أكمل وجه.

ولا تكفى هذه المقالة المختصرة لتعداد المساجد المباركة التى قام بتزيينها فى أثناء هذا العمل ، وحتى نكون قد قلنا كلاما للعموم نقول : «إن جميع المساجد التى توجد فى تلك الجهات من المسجد النبوى قد أخذت حصتها من التزيين الذى وفق إلى إجرائه السلطان عبد المجيد خان».

والمسكنة التى أظهرها السلطان عبد المجيد فى أثناء الترتيبات الجليلة الجميلة فاقت المسكنة التى أظهرها والده وبهذا أثبت أنه خير خلف للسلطان محمود العدلى.

وقد كتب بخط يده تحت الذى سيفرش فى الحجرة المنيفة اسمه وشهرته بعبارات تدل على الذلة وصفحات متواضعة وبهذه الصورة يكون قد مسح وجهه على ذلك التراب بالواسطة.

ولا سيما أنه لم يقبل الأوصاف السلطانية والتعبيرات الملوكية التى كتبت على

٣٠٤

قطعة تاريخية ونظمت ، على أن يعلق فوق طاق باب السلام بما أن السلطنة خاصة بصاحب الرسالة حضرة محمد فى الدارين فاستحى من عرض خدمته أمام النبى صلى الله عليه وسلم بصفته السلطانية ، وإن مبلغ هذا التعظيم للنبى صلى الله عليه وسلم لم ير فى أحد من الملوك ما عدا السلاطين العثمانية.

وبما أن الخلافة تستلزم الخدمة والحماية ، فالموازنة التى عقدناها بين الخلافات المتقدمة والخلافة العثمانية تبين لنا بالبداهة أى الخلافتين كان أكثر رعاية لهذا الشأن.

ولكن سلطاننا الكريم سلطان المسلمين وقرة عين آل عثمان ملك ملوكنا الغازى الذى لا يدانى ، السلطان عبد الحميد خان الثانى قد فاق والده فى تعظيمه للحرمين الشريفين والذى جلب لهما الشفاعة صلى الله عليه وسلم ، على أسلافه من الملوك حقا.

وقبل أن نعرض الخدمات التى قام بها ولى نعمتنا فى حق الحرمين المعظمين المحترمين نذكرهم بمراعاة جانب آل الأماكن المباركة ، وقد بلغت مروءته السلطانية ولطفه الملوكى إلى الدرجة القصوى ليس فقط فى حق آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسا بل لكافة أصحاب اللياقة من آل الحرمين المباركين ، إذ دعا بعض هؤلاء إلى باب السعادة فى صورة خاصة وأقامهم بجانب سلطنته وأنعم عليهم بمرتبات مستوفاة وأحسن إليهم فجعلهم كلهم ممتنين بكرمه ولطفه وهذه المزية لم تر إلا فى آثار هذا السلطان العادل كالفاروق ، وعندما نعرج على بحث التعميرات والتزيينات فتعمير المسجد الحرام وتزيينه اللذان يصلان إلى درجة إبهار العيون من الآثار الحميدة لذلك السلطان ، كما أن تزيينه لضريح خديجة الكبرى ومولد النبى ومولد فاطمة ـ رضى الله عنها ـ ترك الذين قارنوا حالتها الأولى بحالتها الحالية فى حالة الذهول ، وقد ذكر إجراؤه لعين عرفات إلى مكة المكرمة من قبل ، وأما الصهريج وعين الماء ذات الستة عشر صنبورا اللذان بناهما فى منى فقد أحيت آلافا من الحجاج كل عام خلا الأرض.

٣٠٥

وكان ما أحصيناه من الأشياء التى يفتخر بتعميرها وتزيينها أحد الملوك ليس كل ما قام به إذ كان سلطاننا القوى حريصا على حب التعمير مثل والده فشملت حميته الدينية المبسوطة كافة الآثار الجليلة للحرمين ، فقد عمّر مقام يحيى ـ عليه السلام ـ واجب الاحترام وضريح السيد بلال وأضرحة الأنبياء الآخرين ، ومقامات الأولياء ورتبها وزينها لا يشك فى خدمة من تلك الخدمات ، وإحياؤه وإنشاؤه زاوية لا مثيل لها بدلا من التكية الخربة بعد ٥٠٠ عام.

وبناء على المعلومات التى أمدنا بها الإمام تقى الدين عبد الرحمن أبو الفرح الحواسبى فى حق هذا المقام فى كتابه النفيس : «ترياق المحبين فى ذكر طبقات المشايخ العارفين» ، أن التكية الرفاعية أربعة مبان متداخلة بعضها فى بعض وكانت قد بنيت على أربعة آلاف عقدة ، وكان مائة ألف زائر يجتمع فيها وكانت التكية تستوعبهم كلهم ، وكانت سماحة القطب الجليل وكرمه يكفيان لإطعام الضيوف كلهم وكان يطعم فى التكية الشريفة ما عدا هؤلاء المجتمعين عشرون ألفا من المريدين ، وإن كانت قضية الإطعام هذه تعلن عن وجود ثروة عظيمة فى الميدان إلا أن انتفاع الشيخ وأولاده وأخلافه الكرام ندعه جانبا إذ كانوا بسطاء بدرجة لا تفرقهم عن مريديه ، وفى هذه الحالة لا يشك أن تلك الثروة مجرد رزق للفقراء وأنهم مفتقرون لذلك الرزق. والغرض من هذا الإيضاح هو لفت الأنظار إلى الزاوية الرفاعية وعرض أهميتها وأهمية أحبائها من قبل السلطان وبناء على ذلك نستمر فى الإيضاح ونقيد الآتى : «قد تولى المعين مهمة الإرشاد فى سنة ٥٤٠ الهجرية وقد بلغ عدد الرسائل التى تلقاها من مريديه الذين وصلوا إلى أربعين فردا بعد سبع سنوات ، سبعمائة ألف رسالة ، وكثرة إرشاداته لهذه الدرجة هى محل موازنة للفيوضات الإلهية التى وهبها الله لذلك الشخص عالى المقام ، وقد بنى التكية بناء على توسع جمعية وكثرة مريديه وقد قيد فى التواريخ أنه لم يبق فرد فريد فى قرى ومدن ، واسط وبطايح من لم يمد يد العون لهذه التكية.

وكان سبب انقراض تلك التكية الوباء الذى ظهر فى سنة ثمانمائة الهجرية ؛ وبما أن الوباء المذكور لم يترك قرية أو مدينة فى نواحى واسط وبطايح دون أن

٣٠٦

يهلك أهاليها ، وكان سببا فى هلاك عمومى ومن هنا قد خربت التكية الرفاعية أيضا ومن ذلك الوقت إلى زماننا هذا لم يوفق أحد فى تعميرها وها هو ذا سلطاننا الغازى عبد الحميد خان الثانى ييسر له تعميرها.

إن لذلك المقام الجليل أهمية سياسية غير أهميتها الروحانية ومن هنا احتاج بيان ذلك للتفصيلات الآتية :

وكانت بلدة واسط تشمل على بطايح ، فم الصلح ، نهر دقلى ، حدادية ، عثمانية ، ملحا ، رقة ، داور دان ، برقة الجوز ، هرث ، شحينة ، حارزة ، همامية ، أونية ، بدورة ، جعرا ، فاروث من المدن الشهيرة والنواحى المعمورة وحينما ساق المستنصر بالله معدن الحاكم بأمر الله المنصور جيشا إلى نواحى بغداد للاستيلاء عليهم ظل سكان واسط من فرط جهلهم فى الضلالة ، وحينما كان المصريون يهزون هزا تحت قيادة بساسيرى الذى تجرأ على أن يخترع بدعة حى على خير العمل بدلا من حى على الفلاح فى الأذان المحمدى يهزون نواحى واسط والبصرة دخل معظم سكانها فى دائرة الإلحاد والرفض وكادت تلك المنطقة الواسعة أن تخرج من تحت إدارة دار الخلافة فى بغداد.

واستطاع القائم بأمر الله عبد الله السابع والعشرون من الخلفاء العباسيين أن يقبض على بساسيرى ويقتله ووفق فى كسر شوكة المستنصر بالله العلوى وقوته ونصب السيد يحيى المكى المغربى الحسينى نقيبا للأشراف فى البصرة ـ وهذا الشخص عالى القدر أول من شرف البصرة من السادات الحسينية والجد الأمجد للسيد أحمد الرفاعى الكبير ، ولما كان هذا الشخص عالى القدر يشتهر بالصلاح والزهد واتباع الأثر المميز للنبى صلى الله عليه وسلم ومقتديا بأبيه عينه نقيبا للأشراف حتى يطفئ بالشريعة الغراء وما بها من ماء الحياة نار الرفض والإلحاد التى انتشرت فى أطراف واسط وبغداد وعين خط حركة بإعطائه أمرا بذلك.

إن التوفيق الذى حدث بجهود السيد يحيى المكى ليس فقط طرد ودفع الرفض والإلحاد كليا من تلك النواحى ، بل إعداد مئات من الذوات الكرام الذين كانوا

٣٠٧

ثمرة إرشاد التكية الرفاعية والتى أصبحت فيما بعد منبع العلماء ومنشأ الأولياء وضمن هؤلاء الذوات الكرام شيخ الكل الحافظ الإمام تقى الدين الواسطى ، وشيخ الطوائف وإمام الطرائق تاج العارفين أبى محمد طلحة الشنبكى الأنصارى الحدادى الحسينى ، والأستاذ الكبير شيخ القوم الإمام الأجل أبى بكر بن هواز البطايحى ، والفقيه الصوفى أبو محمد الداور دانى والشاعر الشهيد أبو الغنايم نجم الدين الهرثى الواسطى وشيخ البقرى الصوفى. الجاروزى ، والشيخ حسين بن الحليم المحدث الجليل والحافظ قاسم بن محمد الشافعى الواسطى ، والحافظ قاسم بن الحجاج الواسطى والشيخ الكبير أبو بكر الهمدانى والحافظ شيخ الإسلام جمال الدين أبى محمد الخطيب الأونيوى الفقيه والشيخ الكبير ثابت بن الصالح الحدادى الصوفى ، والإمام الحافظ المفسر وحجة المحدثين عز الدين أحمد بن محيى الدين إبراهيم ابن الشيخ عمر أبى الفرج الفاروثى الواسطى والعلامة ابن سعدويه الواسطى وأبو الفتح محمد بن أحمد بن بختيار الواسطى ، وتقى الدين إبراهيم بن على الواسطى ، والحافظ الإمام الكبير تقى الدين عبد الرحمن الأنصارى الواسطى ، وشيخ القراء الإمام المحدث أبو القراء محمد بن الحسين الواسطى ، والعلامة مجد الدين يحيى بن الربيع الواسطى والحافظ ابن محمد الواسطى ، والإمام مهذب الدولة سيد على بن عثمان الرفاعى الواسطى ، وأخوه ، والسيد عبد الرحيم ، قدس الله أسرارهم.

والمؤرخون مثل : الذهبى والبرازانى ، وابن كثير ، وابن خلكان والعينى ، وابن حوزى ، وابن شحنة والصفدى ، وابن حماد ، وابن المهذب والآخرون قد زينوا الصحائف بترجمة أحوالهم.

وهكذا كانت التكية الرفاعية موقعا مهما عاليا وظلت متساوية مع الأرض مئات السنين وهذا ما أثار نخوة السلطان الدينية وحميته الإسلامية وقد عنى بإحيائها على أحسن صورة وأجملها فى هذه المرة ويرجى أن يعيد هذا التعمير والتجديد أهمية التكية الأولى.

٣٠٨

وقد أراد السلطان صاحب الحكمة أن يوضح مدى رعايته للقطب الجليل واحترامه له فأمر بألا يجند أولاد السادة الذين من سلالة أحمد الرفاعى ، كما أمر بإعمار حول مرقده المبارك بإسكانه بالناس ، وهذا التوفيق العظيم أثار رضا وسرور جميع سكان البلاد العراقية من القبائل والعشائر واستفادوا من هذا التعمير ؛ لذا بعث إلى مقام الخلافة الجليلة نقيب الأشراف فى ولاية البصرة السلطانية والسكان فى التكية الرفاعية السيد سعيد أفندى وعشرون شخصا من أكابر السادات الرفاعية ببرقية عارضين عليه شكرهم وثناءهم ، إن هذا الكرم السلطانى الذى لا مثيل له لدليل واضح على عودة العمار والانتعاش اللذين كانت تتمتع بهما واسط وبطائح وما حولها ، كما يذكر لنا التاريخ.

وفى ضمن إنشاءات سلطاننا العظيم التى وفق فيها ثكنتان للمشاة وثكنة للمدفعية فى مكة المكرمة المسميتان بغيرتية والحميدية نسبة لاسمه ودائرة حكومية ومركز كبير للشرطة ، ولما كانت مكة المكرمة قد تعرضت لهجمات الأشقياء والظالمين فى عهد الدول الإسلامية الأخرى فإن هذه الإنشاءات السياسية والعسكرية ستؤمن هذه البلاد وبهذا نستطيع أن نقول إن هذه المدينة المباركة ستظل مصونة من هجمات الأشرار إلى الأبد.

والآن إن حمل لقب خادم الحرمين الشريفين يقتضى القيام بمثل هذه الحماية الجليلة والخدمات المهمة ومن هنا يتضح أن أية دولة إسلامية أخرى لم تقم بإحياء منبع زلال الإسلام مثل السلاطين العثمانيين ولما كان سلطاننا قد تفوق على أسلافه الكرام فى هذا الخصوص فمن واجبنا نحن العثمانيين بل من واجب جميع المسلمين الذين يسكنون على وجه البسيطة أن يرفعوا أياديهم بدعاء الخير المترتب على ما قدمته الذات السلطانية من خدمات شاكرين له.

٣٠٩

الصورة الرابعة فى تعريف تجديد مسجد السعادة وكيفية توسيعه للمرة الرابعة

وقد وسع المسجد الشريف للمدينة للمرة الرابعة المهدى بالله ابن أبى جعفر المنصور من خلفاء بغداد.

كتب حضرة حسن بن زيد بعد تجديد الوليد بن عبد الملك مسجد السعادة رسالة إلى أبى جعفر المنصور وهو ثانى الخلفاء العباسيين وبين له أن بعض أماكن مسجد السعادة فى حاجة إلى التعمير والترميم ، وذكر له إذا ما أضيف إليه بعض المحال فى الجهة الشرقية أن قبر السعادة الجليل سيظل فى نقطة تتوسط مسجد السعادة.

ورغب المنصور أن يوسع المسجد ويجدده فى صورة طبيعية فأسند إلى الحسن بن زيد أمانة البناء وأمره أن يجدده ويوسعه كما يريد ، ولما توفى عقب ذلك لم يشرع الحسن بن زيد فى إجراء عمليات التجديد ، وفى ذلك الوقت سافر المهدى بن أبى جعفر إلى مكة المكرمة محرما بنية ، الحج ، وبعد الحج أسند ولاية المدينة إلى جعفر بن سليمان وأمره بأن يعين ، عبد الله بن عاصم بن عمر ابن عبد العزيز الذى أحال له أمانة البناء لتوسيع مسجد السعادة أن يعينه ماديا ومعنويا وعاد إلى دار الخلافة بغداد فى سنة ١٦٠.

ومات عبد الله بن عاصم مؤخرا وعين مكانه عبد الله بن موسى الحمصى وقد أسرع المشار إليه إلى القيام بمهمتهما وأضافوا ابتداء من العمود الخامس عشر من الجهة الشامية إلى باب النساء فى مربع قبر السعادة خمسة عشر عمودا وجعلوا

٣١٠

قاعدة العمود الخامس عشر القديم مربعا لتكون علامة على مبدأ تجديد المهدى وأبلغوا طول الجهات الثلاث لحرم السعادة إلى ٣٠٠ ذراعا وعرضه إلى مائة وثمانين ذراعا.

إخطار

إن الذراع الذى ذكر إلى الآن والذى سيذكر فيما بعد والذى يسمى ذراعا آدميا فى البلاد العربية هذا الذراع يساوى سبعة أجزاء من ثمانية من المقياس الحديدى الذى يستعمل إلى الآن فى البلاد المصرية والبلاد الحجازية وقدره شبر تقريبا ، ويطلق على ضعف مثله أو على أربعة أشبار ذراع معمارى انتهى.

والمنازل التى ألحقت بمسجد السعادة كانت دور خادم الآخرة عبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف وشرحبيل بن حسنة ومسور بن مخرمة وكان يطلق فى ذلك الوقت على دار ابن مسعود دار قرى وعلى دار ابن عوف دار ملكية.

وشرعت فى هذا التعمير فى خلال سنة ١٦١ وأتم سنة ١٦٥ وسد باب عمر بن الخطاب الذى فتحه عمر بن عبد العزيز ناظر دار حفصة ـ رضى الله عنها ـ والمقصورة التى بناها عثمان ابن عفان أو مروان بن الحكم قد جددت وزينت فى صورة مطلوبة.

وإن كان ما ألحقه المهدى القدر الذى حرر آنفا إلا أن الأماكن التى جددت قد زينت فى صورة فوق التعريف وذهّب ونقش طلاؤها وقد زينت جميع أماكنها على طراز جديد وثمين وفرشت ؛ ولكن للأسف الشديد قد احترق كل شىء ولم يبق له أثر. وقال بعض المؤرخين إن الخليفة المأمون كان قد وسع المسجد الشريف وزينه فى سنة ٢٠٢ ه‍ إلا أن المأمون لم يضف شيئا لمسجد السعادة واكتفى بتجديد بعض أماكنه وتعمير المواقع التى تحتاج إلى ذلك.

وبعد تعمير المأمون كانت الحكومات البغدادية ترسل إلى ولاة المدينة المبالغ الكافية والأوامر الأكيدة ويصلحون الأماكن المحتاجة للتعمير والتسوية ؛ ولما

٣١١

أصبح الناصر لدين الله خليفة جعل من عادته أن يرسل كل سنة ألف قطعة ذهبية وبعض العمال المهرة واتبع الخلفاء الذين أتوا بعده أثر الناصر لدين الله ، وكان أجر عمال اليومية يزيد على ألف قطعة ذهبية وتؤدى من قبل حكومة المدينة وكلما احتاجت مبانى مسجد السعادة والآثار المسعودة إلى التعمير ترمم بلا استئذان.

وتعهد الملوك المصريون بتعمير الحرمين بعد انقراض الخلفاء العباسيين ، وقاموا بترميم السبيل بهمم عظيمة وخدمات جليلة ، والملك الأشرف قايتباى كان أكثر من خدم الحرمين الشريفين من سلاطين مصر وانتقلت خدمة الحرمين الشريفين بعد انقراض هؤلاء إلى السلاطين العثمانيين ـ أيد الله ملكهم إلى يوم الآخرة ـ وقد قام السلاطين المشار إليهم بخدمات جليلة تخجل أرواح ملوك الأسلاف كما سيذكر فيما بعد.

٣١٢

الصورة الخامسة فى تعريف الحجرة المعطرة والقبور الثلاثة المنورة

إن الموقع الذى يطلق عليه الحجرة المعطرة هو الساحة المباركة لحجرة حبيبة حبيب الله السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق ـ رضى الله عنها وعن أبيها ـ وهذا القبر ظاهر الأنوار يصدق عليه هذا البيت الذى يثير الأشواق.

إنه قطعة من الجنة

المسكن الممزوج بالرحمة

إنه هبة العرش المشرف والفرش واللوح والقلم وكان ارتفاعها فى حياة الرسول ثمانية أذرع وأكثر من ستة أذرع فى العرض وكان لها بابان هما باب الرحمة. والحجرة اللطيفة كانت قد بنيت باللبن ومن سعف النخيل وظلت على تلك الحال إلى قرب خلافة عمر الفاروق ، وأراد عمر بن الخطاب أن يعرض تعظيمه وتوقيره للسيدة عائشة فأحاطها بسور منخفض وقد هدم هذا الجدار والسور عبد الله بن الزبير فيما بعد وقد دعت الحاجة إلى تجديده.

كان الجدار الذى أحاط به عمر بن الخطاب حول المقبرة النبوية والذى جدده عبد الله بن الزبير مكشوفا وكان له باب فى الجهة الشامية للدخول منه لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. كان ريحانة النبى السيد الحسن بن على قد أوصى أخاه حين احتضاره أن تؤخذ جنازته داخل المربع الذى فيه قبر الرسول وتعرض هناك قد أوصى بذلك أخاه الحسين بن على ـ رضى الله عنهما ـ وقد أخذ حضرة الحسين رضى الله عنه ـ جنازة أخيه كما ذكر فى ذيل الصورة الثالثة من هذه الوجهة بناء على وصيته إلى مربع قبر الرسول لإيفاء الوصية وقد ظن بعض السفلة أن حضرة الحسين يريد أن يدفن أخاه فى داخل حجرة السعادة فقاموا ومنعوا إدخال الجنازة

٣١٣

فى داخل المربع وأوصلوا المنازعة إلى درجة المقاتلة ؛ وفى النهاية انتهى الأمر بتدخل بعض الذوات ذوى الهمة نهاية حسنة ودفن حضرة الحسن فى مقبرة بقيع الغرقد ، وحتى لا يحدث مثل هذه الأمور أغلق باب مربع قبر السعادة وسد تماما.

ولما كانت هذه الواقعة من تدبير الوليد إذ رفع الجدار الذى كان يحيط بمربع قبر السعادة وغطاه وهكذا أخفى القبور الشريفة عن أعين الخلق وسترها ، وكان غايته كما ذكر عاليه ألا يترك مجال فيما بعد لإيقاع الفتنة والفساد.

وعندما أعلى الجدار المذكور وسقف وكان باب المربع قد سد من قبل فى الواقعة المؤسفة فنمت فى داخل كل إنسان أمنية زيارة قبر رسول الإنس والجن من داخل السور الذى بنى ورفع.

الحجرة المسعودة : يعنى الدار المقدسة التى تنسب للسيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ كانت دويرة صغيرة ولم يكن سقفها عاليا حتى لا يمسه ولا يتبرك به إنسان بيده ، وقال حسن البصرى سواء أكانت فى حق هذه الحجرة اللطيفة أو حجرات النبى الأخرى ، كنت فى طفولتى أدخل فى حجرات زوجات النبى المطهرات وكنت أرفع يدى وأمسك بأسقفها ، كانت جميع منازل النبى حجرات معطرة صغيرة وقد روى هذا القول موثقا ، وكانت كل حجرة مصنوعة من اللبن وسعاف النخيل ، وكان فوق أبوابها ستائر قديمة من الملس ، هذا ما رواه كما روى أن للحجرة المعطرة بابين يفتح أحدهما ناحية الغرب والآخر ناحية الشام وكانت الأبواب ذات مصراع واحد مصنوع من خشب شجر الساج أو العرعر والباب الذى يسمى الآن باب محرس من الأبواب التى كانت فى عصر السعادة.

وكان بين بيت حضرة الصديقة ـ رضى الله عنها ـ وبيت حفصة ـ رضى الله عنها ـ طريق (١) وكانتا كلما تتلاقيان تتحدثان معا.

وكان بيت حضرة حفصة ـ رضى الله عنها ـ الذى ذكر فى الجهة اليمنى لنافذة آل عمر التى ذكرت أعلاها وساحة هذه الدار المسعودة هى الموقف الذى يزوره زوار زماننا سواء أكانوا فى داخل الشبكة أو خارج الشبكة.

__________________

(١) هذا المكان الآن موقع القبر الجليل.

٣١٤

وحينما ارتحل النبى صلى الله عليه وسلم شرع أهل المدينة عقب ذلك يأخذون من ترابه العنبرى مقدارا من التراب للاستشفاء وبهذا جعلوا قبر الرسول منقوبا محفورا ، ولما كانت هذه الحال مخلة بأدب التعظيم ، فقامت الصديقة ـ رضى الله عنها ـ ببناء حائط حول مضجع السعادة حتى يحافظ عليه ، وقام أصحاب الإخلاص بثقب هذا الحائط أيضا إلا أن الصديقة قد سدت هذه الثغرة أيضا ومن هنا ظل قبر الرسول فى جهة من الجدار المبنى وذاتها السامية فى جهة أخرى من الجدار ، وبهذا قسمت الحجرة المعطرة إلى جزأين ، وكانت المشار إليها حينما تزور قبر الرسول وتنظفه بالكنس لم تكن تتستر وتظل مكشوفة ، ولما توفى والدها ودفن بجانب النبى صلى الله عليه وسلم ظلت على تلك الحالة إذ كانت تدخل فى الحجرة بدون حجاب ، ولكن بعد ما دفن فيها عمر بن الخطاب بعد موته كلما كانت تذهب ناحية قبر السعادة كانت تتستر لأن حضرة الفاروق لم يكن محرما ، أى أنها لم تزر الحجرة بعد دفن عمر فيها مكشوفة دون حجاب.

وظل مربع مرقد السعادة إلى أن وسع عمر بن عبد العزيز المسجد الشريف على الهيئة التى جددها عبد الله بن الزبير عليها يعنى ظل مكشوفا وبالباب ، وقد أحاط عمر بن عبد العزيز كما سبق ذكره أعلاه ، السور المنخفض الذى بناه عمر بن الخطاب حول مرقد السعادة بجدار متين ؛ وحتى لا يكون هذا الحائط شبيها بالكعبة المعظمة بناه على شكل شبه مثلث.

ولما كان الجدار الذى أقامه عمر بن عبد العزيز فى غاية الارتفاع ومسقوفا فكانت رؤية القبور من الخارج غير ممكنة ، وقد جعل أحد جهات ذلك الجدار على شكل شبه مثلث بناء على رأى عروة بن الزبير واجتهاده ، إذ تذكر الوليد بن عبد الملك الإهانة التى لحقت بالحسين بن على ـ رضى الله عنه ـ من أسافل الناس بسبب جنازة أخيه الحسن بن على ـ رضى الله عنهما ـ وفكر فى إحاطة مربع مرقد السعادة بجدار قوى الأساس ليحجب القبور الثلاثة عن أعين الناس ، ويخيفها وكتب الأمر والكيفية إلى أمير المدينة عمر بن عبد العزيز ، وحينما أخذ عمر بن عبد العزيز الرسالة التى كتبت بهذا الخصوص استهجن تنفيذ هذا الأمر

٣١٥

غير اللائق مع ذلك راجع عروة ابن الزبير قائلا له : «إننى أحترز من إحراز هذا الأمر الخطير ولكن الوليد يصر على ذلك ، فما رأيك فى هذا الخصوص فأجابه عروة قائلا : «ما دام الوليد يصر كما أن مولانا يرغب فى تنفيذ أمر الوليد مع الكراهية له ، يجب أن تأمر أن يكون البناء الذى سيبنى على شكل شبه مثلث ويتجه طرفها المدبب ناحية بيت السيدة فاطمة» ، وكان الوليد أمر فى الرسالة التى كتبها هدم الحجرات العاليات وضم ساحاتها إلى مسجد السعادة ، وقد فكر عمر بن عبد العزيز فى هذا الأمر كثيرا وفى يوم من الأيام جلس فى مكان مناسب فى حيرة واضطراب وأصدر أمره بهدم الحجرات العاليات وهدم سكان أهل المدينة وهم ينتحبون ويصيحون من الحسرة وجعلوها أثرا بعد العين وشرعوا فى وضع الأساس وفق رأى عمر بن عبد العزيز وتعريفه.

وفى أثناء هدم الجهة التى فيها المدفن الأقدس لحجرة السعادة انهارت الجهة الشامية من الجدار الذى أقامه عبد الله بن الزبير قضاء وقدرا ونتيجة لذلك سقط مقدار من السور القديم الذى كانت أقامته حضرة الصديقة ، ولما ظهرت فى داخل مربع قبر السعادة ثلاثة قبور قد فرش فوقها بالرمل قال عمر بن عبد العزيز ، «إن هذه القبور هى قبور الرسول صلى الله عليه وسلم الذى نال حياة أبدية وأبى بكر وعمر رضى الله عنهم ، يا مزاحم (١) يجب أن تسوى هذا المكان بنفسك ذاتها». ثم ظهرت عليه علامات الندامة وقال لا ، لا ، إننى سأسويه بنفسى وسواه بنفسه ، إلا أنه فى أثناء ذلك قد سقطت الجهة الشرقية لأحد القبور وانتشرت رائحة طيبة فى شوارع دار السكينة وستر ذلك المكان بقطعة قماش وجدد ذلك المكان فى اليوم الثانى تجديدا جيدا.

قال عبد الله بن محمد : «كان جدى عقيل يذهب إلى مسجد السعادة فى الثلث الأخير من الليل وبعد أن يسلم على النبى الجليل يدخل إلى الحرم الشريف ، وفى ليلة من الليالى توجه إلى مسجد السعادة وشم رائحة طيبة لم

__________________

(١) مزاحم هو عبد لعمر بن عبد العزيز.

٣١٦

يشمها طيلة عمره أمام بيت المغيرة بن شعبة رائحة تثير الأشواق وتسحر القلوب فمثل وغاب عن نفسه ، وإذا بتلك الليلة كانت الليلة العجيبة التى تهدم فيها بيت عائشة ـ رضى الله عنها ـ وظهرت القبور الثلاثة المشحونة بالنور! واقترب جدى وهو مغمور بهذه الفرحة والابتهاج من مرقد السعادة ورأى أن الجدار الشرقى لمربع القبر الجليل قد انهار وأن عمر بن عبد العزيز كان منهمكا بتعليق ستارة للجهة المنهارة من مربع القبر وعرف أن الرائحة التى غمرت دار الهجرة المدينة المنورة قد انتشرت من مرقد السعادة وعندئذ عاد إلى بيته وجمعنا حوله وأخبرنا بما حدث».

واستدعى عمر بن عبد العزيز صباح الليلة التى انهار فيها جدار مربع قبر السعادة ابن الوردان (١) وأمره بأن يدخل فى داخل مربع قبر السعادة ليعاين ويتفقد الجدار المنهار ، ولما بين له ابن الوردان أنه فى حاجة إلى من يعينه فى داخل المربع فشمر عمر بن عبد العزيز ساعديه وأراد أن يدخل فى داخل المربع ، ولما رأى قاسم بن محمد وسالم بن عبد الله يستعدان أيضا قال لهما : «لماذا تستعدان؟» فأجاباه قائلين : «نريد أن نعين ابن الوردان».

فقال إننى أحترز أن أقلق أهل القبور بكثرة الازدحام ؛ يا مزاحم ادخل بمفردك وأعن ابن الوردان وبهذا تخلى عن الدخول بنفسه وبموقفه هذا أراد أن يومئ ويشير إلى عدم جواز دخول الشخصين الذين رغبا فى الدخول فى مربع قبر السعادة. وبينما كان ابن الوردان منهمكا بإجراء اللازم بعد أن وجد أساس الجدار المنهار قد رأى فى داخل القبر الشريف الذى سقط من صدمة الجدار المنهار قدمين توأمين فانسحب إلى جهة وأخذ يرتعش من الخوف والفزع وقلق ، واضطرب اضطرابا شديدا.

وعندما رأى عمر بن عبد العزيز قلق ابن الوردان واضطرابه فتقدم إلى الأمام ليتحقق من الأمر فرأى فى داخل القبر الشريف الذى كان تهدم من قبل القدمين

__________________

(١) كان هذا الشخص فى ذلك الوقت رئيس المعماريين للأبنية المقدسة.

٣١٧

الشريفين ، القبر الذى كان فى اتصال أساس مربع قبر السعادة فرجع وهو فى شدة الدهشة وغاب عن شعوره ووعيه.

وكان عبد الله بن عبيد الله جهة قبر عمر بن الخطاب لامع الأنوار ، وعرف الأمر الذى أخاف ابن الوردانى وملأ قلب عمر بن عبد العزيز بالرهبة والقلق وقال أى عمر! لا تخف! إن القدمين اللذين رأيتهما فهما قدما جدك عمر بن الخطاب وكانا قد بقيا فى داخل أساس جدار الحجرة المنيفة ، وهكذا وضح الأمر عندئذ قال عمر بن عبد العزيز لابن الوردان ، يا ابن وردان! خف واستر ما رأيته أى قدمى ابن الخطاب ـ وبهذا القول أظهر فرحته وسروره ؛ لأنه كان قد ظن أن القدمين اللذين رآهما قدمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هنا استولت عليه الحيرة والدهشة. وبعد أن بنى ابن الوردان الجدار المنهار ، أحاط الجهات الأربع للجدار القديم بحائط أعلى وأوضح من الجدار الأول ، وسقف مربع قبر السعادة كسابق عهده ثم أمر ببناء الباب الذى كان قد سد عقب الحوادث التى وقعت ضد جنازة الحسين بن على ، بشكل متين محكم وصبغه والجدران التى كانت جددت فى عصر عبد الله بن الزبير كانت قد بنيت بحجارة سوداء صبغت صبغة جيدة وجعلت الجهة القبلية أكثر ارتفاعا من الجهات الأخرى وسد باب الرحمة الذى فى الجهة الشامية.

ولم تكن الفاصلة التى كانت بين الحائط القديم والحائط الذى مده عمر بن عبد العزيز متساوية فى جهاته الأربعة ، فقد كانت الجهة الشرقية ذراعين ، والطرف الغربى ذراع واحد ، والطرف القبلى شبرا واحدا ، أما جهة الشام فكانت واسعة جدا وبما أن عمر بن عبد العزيز أمر بطلاء الجهات الأربع لجدران حجرة السعادة طلاء جيدا وأخفى الباب المسدود بحيث لا يميز فمن هنا لم يستطع أحد أن يعين مكان الباب المذكور.

وإن يروى المؤرخون أن أبا غسان قال : «قد عمر سقف مسجد السعادة سنة ١٩٣ ه‍ ، وإننا كنا قد عرفنا مكان الباب المسدود إلا أن الإمام السمهودى قال قد

٣١٨

جدد المسجد الشريف والحجرة اللطيفة فى زماننا وعمر ، ولكن ما أمكن أن يعيّن الباب المسدود فضلا عن مكانه وهذا القول يؤيد الرواية الأولى ويؤكدها ، وإن كان غرض الإمام السمهودى أن يشير إلى أن الباب المسدود قد أصبح مجهول المكان بمرور الزمان فمن المحتمل أن يكون قد شوهد مكان الباب المذكور فى سنة ١٩٣ ه‍ حتى يقترن قول أبى غسان بالصحة.

يقول أبو غسان وهو يخبرنا أن الفاصلة التى بين الجدار الذى مده عمر بن عبد العزيز وجدار الحجرة المعطرة القديمة قد مسحت سنة ١٩٣ : «قد مسحت ، فى زماننا ، الفاصلة التى بين جدران الحجرة المقدسة ووجد طرفها الشرقى ٣ أذرع وطرفها الغربى ذراعا واحدا وبلغت فى هذا الوقت الجهة الشرقية من الطرف القبلى ذراعا واحدا ، إلا أن جميع أماكن هذه الجهة لم تكن متساوية فالمحل القريب من وجهة السعادة كان فى اتساع شبر والأسفل منه فترة ما بين الإبهام والسبابة ـ وكانت نهاية الجدار الشرقى ضيقة بحيث لا تسمح بالمرور.

وكان بعض أماكن جدار الحجرة الشريفة القديم قد انهارت تقريبا فى سنة خمسمائة أو ٦١٣ أو ٦٤٠ وعمرت مستأذنا من مركز الخلافة وأصلحت دون تأخير ، وبينما كان الجدار ينهار فى خلال سنة ٥٢٠ سمع صوت من داخل مربع القبر الجليل إلا أن سكان أهل المدينة لم يتجرءوا أن يخبروا به أحدا رعاية للنبى صلى الله عليه وسلم مدة أربعين عاما ، وفى النهاية أخبروا وعرضوا الأمر فى سنة ٥٧٠ على المستضىء بالله العباسى.

وبناء على القرار الذى اتخذه المجلس الذى عقده المستضىء بالله سنة ٥٧٠ تحت رياسته والذى ضم أكابر العلماء وأفاضل الفقهاء أمر واليه فى المدينة أن يدخل فى داخل حجرة السعادة واحدا من فضلاء خدام الحرم النبوى ومتبحريهم لأجل الفحص ، واتحدت آراء أهل المدينة على أن يوكل هذا الأمر إلى شخص زاهد من بنى العباس يسمى بدر الدين.

ودخل حضرة بدر الدين من الباب الصغير الذى فتح فى الجهة الشرقية إلى

٣١٩

الحجرة الشريفة ورأى أن بعض الأماكن فى الجهة الغربية من السور القديم الذى فى داخل الجدار الذى بنى فى عصر عمر بن عبد العزيز قد انهار ، فصنع مقدارا كافيا من اللبن من تراب مسجد السعادة وعمرت الأماكن المنهدمة من الجدار وأخذ منه الصحن الخشبى الذى وجده بجانب الجدار المنهار وأخرجه وبعثه إلى بغداد ، وكان هذا الصحن قد ظل فى داخل الجدار الذى جدده عبد الله بن الزبير ، ولما انهار الجدار انكسر أحد جوانبه وظل الباقى فى داخل الجدار فبدر الدين الضعيف أخذ معه الجزء المنكسر فيه كما أخذ من تراب الجدار المنهار قدرا من التراب بقصد التبرك فقط وذهب ، وقد عرضت الكيفية إلى مقام الخلافة الجليلة مفصلا من قبل إلى المدينة.

اليوم السعيد الذى دخل فيه بدر الدين إلى بغداد كان عيدا كبيرا وعظيما فترك الجميع أعمالهم واستقبلوا جناب بدر الدين وأوصلوه إلى دار السلام فى تعظيم وتوفير واحترام.

وقد سمع أيضا فى سنة ٥٤٨ ه‍ صوت انهيار الجدار فى داخل الحجرة المعطرة الشريفة وأبلغ الأهالى أمير المدينة قاسم بن مهنى الحسينى ، وأمر قاسم بن مهنى بإنزال شخص يتصف بالزهد والصلاح والعفة والاستقامة ومتدينا فى داخل القبر الجليل وقد قوبل هذا الرأى الرزين باتفاق الجميع ورئى أن من المناسب تعيين عمر النسائى الموصلى من المشايخ الصوفية وأفاضل المجاورين والذى عرف فى المدينة بالزهد التام والتدين والتقى وبلغ المشار إليه الفاضل بهذا الأمر (١).

ولما كان حضرة عمر النسائى مصابا بمرض سلس البول استمهل لبعض الوقت حتى يستجمع قوة بدنه لتكفى للدخول والخروج فى قبر السعادة ، وذلك بالتريض.

وبعد ذلك ربط حضرته بحبل وأخذ معه شمعة وأدوات أخرى لازمة ودخل فى الفاصلة التى بين غطاء مربع قبر السعادة وحجرة السعادة ومن هناك من قبة

__________________

(١) يروى بعض الرواة أنه قد جعل بجانب عمر النسائى هارون المشانى وشخص آخر.

٣٢٠