موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

يفتحوا باب حجرة السعادة عندما يصنعون فتائل وزيوت قناديل المسجد ، فالذين يريدون أن يسعدوا بزيارة المحراب الشريف ينتظرون فتح باب الحجرة اللطيفة كما سبق ذكره ، لعلهم يوفقون فى زيارته ، وإلا فزيارته فى الأوقات العادية غير محتمله ، إلا إذا وجدوا طريقا آخر بإعطاء جوائز وفيرة أو بإيجاد واسطة ما ، وفى جانب هذا المحراب المقدس وفى خارج شبكة السعادة محراب صغير أيضا وما سبق ذكره عاليه بمحراب التهجد إنه ذلك المحراب الشريف وكتب على جناحه اليمين واليسار.

«أمر بعمارة هذا المتهجد الشريف العبد الفقير المعروف بالتقصير السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباى نصره الله سنة ٨٨٨» كما كتب فوق طاقة المعلا بخط جلى «بسم الله الرحمن الرحيم» وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال الله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً). (الإسراء : ٧٩).

كتبت تلك الآية مذهبة كما علقت فوق هذا الخط اللوحة المزينة التى كتبت بخط يد السلطان محمود خان العدلى ابن السلطان عبد الحميد خان المرحوم «حسبنا الله ونعم الوكيل».

إن المحراب الشريف الذى عرف على قدر الإمكان هو المحراب الذى يزوره الزوار متبركين على أنه محراب التهجد ، وإن هذا الأثر الذى أثبت المؤرخون بالأدلة القطعية أنه أثر مقدس هو الأسطوانة النفيسة والمسعودة التى ظلت فى داخل الشبكة وقد جددت فى عصر السلطان عبد المجيد وكتب فوقها آية التهجد ، ومع هذا ففضل كل مكان وموقع وشرفه غير قابل للاعتراض عليه ، فأى مكان من المسجد لو شرف بالزيارة فمن المأمول الحصول على أجر عظيم ومكافأة روحية كبيرة.

إن الأعمدة التى كانت فى عصر السعادة تلك الأعمدة الثمانية التى ذكرناها وقد بلغ عددها فيما بعد إلى ثلاثمائة عمود وسبعة أعمدة ، وكلما وجد مسوغ

٢٤١

شرعى لتوسعة المسجد الشريف زاد عدد أساطينه ، ولكن بما أن المهاجرين والأنصار من الصحابة العظام قد تقيدوا ووصلوا حول هذه الأعمدة الثمانية فعلى الذين يريدون أن يزوروا حجرة السعادة أن يقفوا وأن يصلوا بجانب كل واحد من تلك الأعمدة الثمانية على حدة محرمين.

وفى الروضة المطهرة للنبى صلى الله عليه وسلم ثلاثة صفوف من الأساطين التى لا تقدر بثمن على أن تدخل فيها بعض الأساطين المشروحة وفى كل صف أربعة أعمدة.

وقد كتبت فى عهد السلطان سليم خان الثالث فوق أربعة من هذه الأعمدة المباركة أربعة أبيات وعلى سبع منها بيتان وعلى واحد منها بيت واحد بديع التركيب وزينت بالتذهيب وهذه الأبيات فاضت بها قريحة السلطان سليم الثالث بن السلطان مصطفى خان الثالث وهى مما يدل على تقواه وورعه وشعار تدينه ـ عليهم الرحمة والغفران.

الأبيات التى سطرت على الأساطين الأربع من الصف الأول :

الأسطوانة الأولى (١)

السلام عليك يا مهبط الوحى الأمين

يا من يعشقك بروحه الروح الأمين

إنما الأرض على السماء فخرت

لأنها جسمك الطهور حوت

عماد شوكتك طاق الفلك

لذا أصبح الركن الركين بك

لتكن لسليم خان نعم المعين

إنه وطد الأساس للملك والدين

__________________

(١) هذه الأسطوانة الأولى بدءا من منبر السعادة.

٢٤٢

الأسطوانة الثانية (١)

يا مليك الكرم أيها السلطان الكريم

بعبوديتك يفخر السلطان سليم

كأنما يتمسك بقائمة عرشك

وهو يعظم أركان شرعك

أنا عبد لك جد بالإحسان على

وليكن فى الدنيا والآخرة لدى

على روضتك المطهرة صلوات وصلوات

وعلى كل صلاة تسليمات وتسليمات

الأسطوانة الثالثة (٢)

يا زهرة روضة دين الإسلام

عليك فى كل لحظة سلام وسلام

كيف لا يكون من الياقوت جسد

ولقصرك من الرخام عمد

طوبى للسلطان سليم الأجل

الذى أنجز هذا العمل الأمثل

أكرمه يا من أنت سيد الكرام

فاللطف بالعبيد من الكرام يرام

الأسطوانة الرابعة (٣)

رفيع الروضة فخر الرسالات

تحت عرشه روضة الجنات

__________________

(١) وهذه أيضا الثانية بدءا من منبر السعادة.

(٢) هذه الأسطوانة هى الثالثة من ناحية المنبر.

(٣) هذه الأسطوانة هى الرابعة من ناحية المنبر.

٢٤٣

أيما إنسان إلى عمودك نظر

أمن من كل ضجر وكدر

سليم خان ابن مصطفى خان المؤيد

يا حبّذا ما قدم من يد

هبه يا رسول الله بركتك فى دنياه

وأنله سعادتك فى أخراه

إن الأساطين الآتية الذكر أمام محراب النبى وإنها مرتبة فى صف واحد من منبر السعادة إلى شبكة الحجرة المعطرة.

الأسطوانة الخامسة (١)

أجرى أن يكتب النعت القلم

واصفا به رسول الله الأعظم

حبذا حبيب الحق منقطع القرين

كأنه سرة نور فى عين الناظرين

الأسطوانة السادسة (٢)

كانت ذاته الطاهرة لخلق الكون السبب

بين علو قدره والعرش الأعلى نسب

حمد الله الذى جعلنا من أمته قدرا

أنى يؤدى على تلك النعمة شكرا

الأسطوانة السابعة (٣)

شراء الناس من أهل الجهل والكفر

إن آمنوا عرفوا يا له من قدر

__________________

(١) هذه الأسطوانة هى الخامسة من ناحية المنبر.

(٢) هذه الأسطوانة هى السادسة من ناحية المنبر.

(٣) هذه الأسطوانة هى السابعة من ناحية المنبر.

٢٤٤

إثمد بصرى ما تحت قدمه من رغام

غبار طريقه يبدد يوم الحشر الظلام

الأسطوانة الثامنة (١)

أنت شمس العالمين يا خير الرسل

شعار شمسك منه الدين والدنيا فى أبهى الحلل

أنت لا تضن على عبدك بلطف ورحمة

يا ملك الكون فاقض له الحاجات

وهذه الأساطين الأربع المباركة تقع أيضا خلف الأسطوانات التى فى الصف الأول وتعد كذلك ابتداء من منبر السعادة.

الأسطوانة التاسعة (٢)

ألهمت ذكر ألف صفة من صفاته

فنظمت نعته الطاهر أملا فى شفاعته

كيف أستطيع وصفه بما به يليق

الحق من يصفه بما هو به حقيق

الأسطوانة العاشرة (٣)

يا معدن الكرم أطلقتنى من ظلمة الغم

أنا ملك ولكن لست من عبده من رحمة حرم

شمعة شوقى إليك لها فى القلب شعاع

وزاد بكرمك ما لها من حرقة واندلاع

__________________

(١) هذه الأسطوانة هى الثامنة من ناحية المنبر.

(٢) هذه الأسطوانة هى التاسعة من ناحية المنبر.

(٣) هذه الأسطوانة هى العاشرة من ناحية المنبر.

٢٤٥

الأسطوانة الحادية عشرة (١)

فى الأفلاك التسعة كل إنس وجن وملك له عبد

ونجدته كان لكل مليك ما له من سؤدد ومجد

فليكن وردى دائما ذكرت صلاته

سيد الرسل إن بركته منحنى

الأسطوانة الثانية عشرة

على روحه الطاهرة ألف صلاة وسلام

تلهمنى الرجا فى نيل رخصة شفاعته

إن هذه الأساطين الأربعة هى الأساطين المباركة التى فى الصف الثالث وبما أن الأسطوانة الثانية عشرة ملتصقة بمقصورة المؤذنين يطلق عليها أسطوانة المكبرين أيضا.

استطراد

فى زماننا هذا فى مسجد السعادة ٢٢٩ أسطوانة بما فيها الأساطين المباركة ، خمس وعشرون منها فى داخل الروضة المطهرة وما حولها والبقية فى الجهات الأخرى من المسجد الشريف ، ولكن أسس الركائز التى ظلت فى داخل الجدران لا تدخل فى هذا الحساب.

__________________

(١) هذه الأسطوانة هى الحادية عشرة من ناحية منبر السعادة.

٢٤٦

الصورة الثامنة فى ذكر وبيان المقام واجب الاحترام الذى يطلق عليه «الصفّة» وأين تقع هذه الصفة فى مسجد السعادة ومما تتكون ومن هم الأشخاص الذين يطلق عليهم «أصحاب الصفّة».

كانت الصفة الشريفة التى كانت محل إقامة أصحاب الصفة بناء على تحقيق المرحوم القاضى عياض وروايته فى نهاية مسجد المدينة السعيد الشمالى ، وكان الصحابة الفقراء الذين يردوا إلى المدينة المنورة المهجر النبوى يسكنون فى الصفة الشريفة ، وكانوا يعبدون الله ليلا ونهارا ، لما كانت الصلاة تؤدى فى اتجاه البيت المقدس كان محراب المسجد الشريف مكان الصفة المسعودة ، وبعد أن تحولت القبلة إلى مكة المعظمة أصبح ذلك المكان وقفا لإقامة المهاجرين الغرباء ، وبما أنه بعد تحويل القبلة لم يبق فى ذلك المكان محراب مخصوص فعقب تحويل القبلة صنع فى ذلك المكان مظلة لإقامة الأصحاب الغرباء واعتاد بناء على ذلك أن يقيم فى هذه المظلة من لا مأوى ولا سكن ولا عيال ولا أولاد لهم.

وكما أوضحنا فى الصورة الأولى من الوجهة السادسة عند ما تكاثر المهاجرون الكرام الذين لا صلة لهم بأهالى المدينة رأى النبى صلى الله عليه وسلم الذى يطيب خاطر أمته أن يؤوى هؤلاء الضعفاء فى هذا المكان المبارك ويحدثهم ويخفف عنهم كربهم ويرفع من معنوياتهم إلى أعلى مكانة ، ولما زاد إحسان النبى صلى الله عليه وسلم لمهاجرى دار ضيافة المدينة ولسكان الصفة المباركة ساعة بعد ساعة حتى تمنى أهالى المدينة وأغنياء المهاجرين أن يكونوا من أصحاب الصفة ، وأخذ فقراء المدينة يداومون على الإقامة مع أهل الصفة حتى يشاركوا أهل الصفة فيما يتناولونه من آيات الغفران ، وهكذا عدوا من أصحاب الصفة وبناء على ذلك كان العبيد الذين يحررهم النبى صلى الله عليه وسلم ويعتقهم والذين كانوا يفتخرون بخدمة النبى يصرون على ألا ينفصلوا عن قرب النبى لأجل ذلك يفضلون أن يصبحوا من أصحاب الصفة كما كان يعد

٢٤٧

أقرباء سلطان الدين والسادات والأنصار والمهاجرون وأشخاص آخرون أن يجلسوا ويحادثوا أصحاب الصفة من أقصى آمالهم ، وبهذا أدخلوا ضمن الجماعة السعيدة من أصحاب الصفة وعدوا منهم.

وكان فقر أصحاب الصفة وشدة حاجاتهم فى حالة تجل عن الوصف ، وبناء على ما يرويه الصحابى أبو هريرة كان بينهم بعض الأشخاص الذين كادوا أن يكونوا عراة من شدة حاجتهم وإنهم استطاعوا أن يتداركوا بعد آلاف المشقات والصعوبة قطعة من قماش لا تكاد تستر محال عوراتهم ، ولم تكن قطعة القماش التى اتخذوها ملابس على طول واحد إذ كان بعضها أميل إلى الطول وكان بعضها قصير ، وكانوا يسترون بها ما تحت خصورهم ، وكان الذين لهم أقمشة قصيرة يغطون بها جسمهم من خصورها إلى ركبهم فقط ومن كان قطع أقمشتهم أطول كانوا يغطون إلى سيقانهم ، وكان أداء الصلاة بهذه الحالة وفقا للآداب الشرعية يكاد أن يكون مستحيلا لأجل ذلك كانوا يدخلون قطع القماش ما بين سيقانهم بصعوبة كالإزار وبهذا ينقذون صلواتهم من الكراهة وبعد أداء الصلاة كانوا يلفون بهذه الأقمشة خصورهم.

وكانت أقوات أصحاب الصفة اليومية من الأشياء الرخيصة مثل البلح ، إلا أنهم عند ما تقوم الحروب كانوا يشاركون فيها غالبا وكانوا يقاتلون فى منتهى الشجاعة.

قال أحد فضلاء الأصحاب وهو فضالة بن عبد الله : كنت أصلى يوما فى زاوية من الزوايا الشمالية من المسجد ، وفجأة قام أصحاب الصفة على أرجلهم ووقفوا وقفة الاحترام والتعظيم وفى سكوت تام ، إذ كان سلطان عرش الدين ـ عليه صلوات الله المعين قد شرف المكان ، وقال فريد العالم صلى الله عليه وسلم فى أثناء تقربه من صفوف أهل الصفة ، «لو وقفتم على مدى حب الله لكم لتمنيتم أن تزدادوا فقرا وحاجة».

وكان أصحاب الصفة فى غاية الفقر وكانوا فى حاجة إلى نصف لقمة من الخبز ومن هنا كان معدن السخاء ـ عليه وعلى آله أصفى التحايا ـ يطعمهم صباحا

٢٤٨

ومساءا وكان الأصحاب الأغنياء يمتثلون لأوامر النبى صلى الله عليه وسلم التى يطيعها العالم كله ويصحبون معهم اثنين أو ثلاثة من هؤلاء إلى منازلهم لإطعامهم كل على قدر ثروته.

وإن كان ما يرويه حضرة فضالة كافيا لإيضاح مدى فقر أصحاب الصفة وشدة جوعهم وشدة تحملهم للحاجة والفقر إلا أن أبا هريرة بما أنه كان معينا للاطلاع على أحوالهم وشئونهم من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لذا فهو يعرف أحوالهم أكثر من الأصحاب الآخرين.

يتفضل حضرة أبو هريرة قائلا : «رأيت أن بين رفقائى سبعين نفرا كانوا عراة تمام العرى إذ لم يكن معهم إزار أو رداء وإن كان بعضهم قد وجد قطعة من القماش وستروا أماكن عوراتهم إلا أن أكثرهم لم يستطيعوا العثور على قطعة قماش قديمة فغطوا أمامهم بأيديهم وستروا عوراتهم بهذا الشكل.

أقسم بالله الذى لا إله غيره ـ تعالى شأنه عما يقولون ـ إننى لم أستطع أن أتحمل يوما الجوع وأسندت بطنى على الأرض متصورا أنه يساعدنى على الصبر والتحمل ومع مرور الزمن اشتد جوعى وزاد اضطراب جسمى فالتقطت من الأرض حجرا وشددت به بطنى ، كان غرضى أن أجد حلا للجوع وقد وصلت حالتى لدرجة أنى يئست من الحياة ، وخرجت إلى الطريق لعلى أجد أحدا من أهل المروءة يمر من الطريق ، وبعد وقت قصير ظهر الصديق الأكبر وبعده ظهر الواقف على أسرار البشر ، ونظر إلى بابتسامة تبعث الحياة وأجال نظره ثم قال : «تعال يا أبا هريرة» فمشيت خلفه ودخلت بيته بعد الاستئذان ووجد قدحا من اللبن وسأل عن الذى أتى بهذا اللبن فقيل له إن أحد خدم الحرم أهداه وقدمه ، ثم توجه إلى بالحديث قائلا : «إن هذا اللبن من حق أصحاب الصفة! اذهب وائت بجميع إخوانك إلى هنا ، إنكم ضيوف المسلمين الأعزاء والمحترمين ؛ إنكم لا تملكون أهلا ولا عيالا ولا أموالا وليس لكم مأوى ولا مسكن!» وكان جوعى قد تجاوز حده ورأيت اللبن فى القدح قليلا ومن هنا قلت يا رسول الله كيف يشبع قدح من اللبن هؤلاء! إنهم سبعون رجلا بالتمام والكمال وأردت بهذا أن

٢٤٩

أشير إلى عدم كفاية اللبن ، إلا أننى قد أخذت منه الجواب المعجز إذ قال : «ما عليك إلا أن تأتى بهم فالله ـ سبحانه وتعالى ـ ينعم بالبركة للبن» فذهبت إلى أصحاب الصفة وسحبتهم خلفى حتى عفرت وجهى بتراب أرجل الرسول صلى الله عليه وسلم وشربنا من ذلك اللبن حتى شبعت بطوننا وقدح اللبن ينتقل من يد إلى يد ولم تنقص قطرة من لبن القدح ، إلا أننا لم نستطع أن نشرب أكثر مما شربنا وقد شبعنا إلى درجة أنه بعد أن شربنا بحرص الجائع أصبحنا نتنفس بصعوبة.

يفهم من تعريف أبى هريرة هذا أن فقر أصحاب الصفة وشدة حاجتهم لم يكونا ينقصان من قدرهم لدى النبى صلى الله عليه وسلم بل كان يزيد قدرهم عنده كلما زاد فقرهم وحاجتهم وكلما كان حامى دين الإسلام ـ عليه الصلاة والسلام ـ يشرف مسجد السعادة كان يلاطف المشار إليهم ويطيب خاطرهم بالحديث إليهم وعقب الصلوات كان يستدعى كل واحد منهم على حدة إلى مجلسه مجلس الملائكة ويستفسر عن أحوالهم.

فى الوقت الذى أخذت القبائل ترسل سفراءها لغرض قبول الإسلام ، وعندما كثر القرشيون فى المدينة دار السكينة متحيرين بين قبول الإسلام ورده ، حسد أشراف قريش ما يظهره النبى صلى الله عليه وسلم نحو أهل الصفة من آيات المودة وأخذوا يتقولون فى طرد المشار إليهم من المجلس النبوى وإبعادهم منه ، حتى إن الأقرع بن حابس التميمى وعيينة بن حصن الفزارى والآخرين نالوا شرف حضور المجلس النبوى ورأوا أن ثلاثين من أصحاب بدر الفقراء يحيطون بالنبى صلى الله عليه وسلم كهالة القمر فأخذتهم العزة والغرور بالإثم وخرجوا عن شعورهم ووعيهم وقالوا : «يا رسول الله أبعد عن مجلسك العالى ابن مسعود ، وبلال الحبشى ومقداد بن الأسود وسلمان الفارسى وصهيب بن سنان الربيعى وأمثالهم من الغرباء! إننا من العظماء الذين يرعى جانبهم بين الأقوام القرشية فيجب رعاية جانبنا ، نحن نتحادث مع ذاتك الكريمة ونستفسر عن الإسلام ونستمع إلى الأحاديث والقرآن ، إن الوفود العربية تأتى وتذهب بكثرة ويروننا بين أسافل الناس ، وإن هذه الحالة تجلب لنا العار!! إننا ذوو قدر وتوقير بين الناس ، فإذا ما

٢٥٠

خصص لنا مكان عال يصدق سفراء أقوام العرب فضلنا ورحمائنا على الفقراء!» وتباهوا وتفاخروا بمثل هذه الكلمات.

وقال سيدنا سرور الأنام ـ عليه الصلاة والسلام ـ «إننى لا أستطيع أن أطرد المؤمنين من مجلسى» مجيبا ، إلا أنهم قالوا إن مجالسة الفقراء تجلب لنا العار والحقارة والخجل ، على الأقل فكلما نأتى إلى مجلسك فلينصرف هؤلاء الفقراء من مجلسك متعللين بأى سبب كان إذا ما روعى هذا النظام فنحن نعرض انقيادنا وطاعتنا لك وأرادوا بهذا النهج أن يحصلوا على رضا النبى صلى الله عليه وسلم وأن يعطى لهم عهدا بذلك وإذ رجوا ذلك أحضر معدن الحلم والكرم صلى الله عليه وسلم سيدنا على حيدر الكرار ليكتب لهم عهدا وفق مطالب المذكورين ، ولكن عقب ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى ـ الآية التى تقول (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ). (الأنعام : ٥٢). فصرف النبى صلى الله عليه وسلم النظر عن كتابة العهد وأحضر أصحاب الصفة ـ رضى الله عنهم ـ وقرأ عليهم الآية التى نزلت فى حقهم.

استطراد

كان فى ذلك الوقت بين القبائل العربية وخاصة بين شعبتى بنى أمية بنى مخزوم كثير من الحمقى انتعلوا الغطرسة والتكبر والتعظم وهم من الطائفة العرشية.

وقد وصل الغرور ببعضهم حد أنهم لم يجدوا فى هذه الدنيا الواسعة رجلا يستحق مصاحبتهم وقالوا : «لا يدانينا إلا فرقدا (١) السماء».

وإنهم لم يدركوا أن الكبر يجلب غضب الحق ويستوجب نفرة الخلق وأنه عندما ينفر الناس من أحد لن يستطيع أن يعيش حياة طبيعية سليمة وبناء على القول الذى يقول فى حق المتكبر : «الكبر على أهل الكبر صدقة» فكل الناس سينظرون إليه بالحقارة ومن هنا لن تستقيم حياته.

__________________

(١) الفرقدان : نجمان ظاهران فى مكان ثابت تقريبا يهتدى بهما ليلا. أحدهما النجم القطبى ، وآخر بجانبه.

٢٥١

أنعم أشرف الأنبياء سيدنا محمد على وائل بن حجر واقتطع له قطعة من الأرض وكلف حضرة معاوية بكتابة وثيقة بملكيتها وأن يرى حدود هذا الموقع ؛ وبعد أن أخذ وائل قطعة الورقة التى سطرت عليها ملكيته للأرض ركب جمله وخرج مع حضرة معاوية إلى الطريق.

وقطعا مسافة لا بأس بها ، وكان معاوية ماشيا على قدميه لأنه لا يمتلك جملا ولما اشتدت حرارة الشمس مع مرور الوقت وأصبح المشى فوق التحمل استأذن معاوية من وائل أن يكون رديفه فى ركوب الجمل كما جرت العادة بين العرب ، وكان هذا الرجاء قد جرح عظمة وائل وكبره إذ قال له يا معاوية إنك لست جديرا بأن تكون رديفا لواحد من أعاظم العرب وأشرافهم وعندئذ قال له معاوية إذا كان كذلك فأعرنى نعليك فإنهما أكثر متانة من نعلى حتى لا تؤذى قدماى فقال له وائل : «يا ابن أبى سفيان ، إننى لست رجلا بخيلا ؛ ولكن الملوك الذين فى حوالينا إذا ما سمعوا الخبر سيؤذى كبريائى ، كفى لك شرفا بأن تسير فى ظل جملى» ، وبهذا بين له أنه لن يتنازل حتى عن نعليه ، وبعد مدة استولى على عظمة وائل وأرضه جيوش الفقر وتبدلت أحواله بينما أصبح معاوية بن أبى سفيان واليا على معظم سواد الشام ، وسافر ابن حجر إلى الشام ليشتكى تقلبات الزمان الظالمة وتلاقى بمعاوية مضطرا ، فاستقبله معاوية باحترام عظيم وأجلسه على سريره الخاص وسره بأن أجزل له العطاء ولم يتذكر الواقعة السابقة بل أخجل ابن حجر وأومأ له بأن الذين يتخلقون بالأخلاق المحمدية يتصفون بهذه المزايا العظيمة.

إذا ما وازنا مقابلة معاوية الجميلة لابن حجر فى ضمائرنا نحكم أن أخلاق أشراف القبائل العربية قد تبدلت فى عصر السعادة تبدلا جذريا.

قد فهم متكبرو الطوائف العربية أن الكبر والعظمة من الصّفات التى توجب غضب رب العزة وأنهم لا شك قد أصلحوا من أخلاقهم فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم إلا أن المرويات الآتية تثبت أنه كلما ابتعد عصر السعادة حدثت تحويلات كبيرة فى حال متكبرى العرب وشأنهم.

٢٥٢

مثال ـ عندما قيل فى عصر الخلفاء العباسيين لأحد المتكبرين من بنى عبد الدار لماذا لا تسافر إلى الخليفة وتعمل على كسب حسن توجهه نحو قبيلتنا؟ فأجاب أخاف ألا يتحمل الجسر الذى سأعبر عليه أو الجمل الذى سأركبه ثقل شرفى ومزيتى وكأنه أراد أن يرمى إلى أن الخليفة إذا ما قصر فى حسن قبولى ورعايتى سيؤذى كبرى.

وكان الحجاج بن أرطأة من متكبرى العرب القدماء يتجنب الصلاة مع الجماعة ، ويقول للذين يسألونه عن عدم إتيانه إلى المسجد لأداء الصلاة مع الجماعة إننى أخجل أن يقف على جانبى رجال بسطاء لأداء الصلاة.

وكان كبر ابن ثوابه يفوق جميع تكبر جميع متكبرى العرب وكان تعاظمه ونخوته أشنع وأقبح بدرجات عن غرور الحجاج بن أرطأة وهذا الأحمق الذى كان من عظماء العرب إذا ما أضطر لمكالمة أحد الزراع كان يغسل فاه بعد المكالمة.

لمؤلفه الفقير :

إذا ما عرف المتكبر مضرة كبره

بقبضة الندامة يضرب صدره

«انتهى»

فهؤلاء وأمثالهم من المتكبرين من رجال قبائل العرب والمتعاظمين كانوا يعدون وجود جماعات أصحاب الصفة فى مجلس السعادة حقارة لهم وإقلالا من شأنهم ؛ لذا سعوا معهم بطردهم منه ؛ وكانت لهم وسائلهم وحيلهم الشيطانية وفى النهاية أطلعوا النبى صلى الله عليه وسلم على ما فى ضمائرهم وطلبوا كتابة عهد بذلك ؛ ولكن هذه الجماعة العظيمة كانت قد انصرفت سواء أكانت عن الدنيا أو عن مكاسبها كلية ولازموا مسجد السعادة وادموا فى عبادة رب العزة ومن هنا لم يستطع هؤلاء المتكبرون ترويج أفكارهم المسمومة ، وقد صدقت الآية الجليلة (ولا تطرد الذين ...) (الأنعام : ٥٢) صدقهم وصفاء قلوبهم ، ويعد بعض الناس عدد أهل الصفة أربعمائة نفر ويوصلهم البعض إلى ستمائة نفر ، وبناء على تدقيق أبى نعيم الأصفهانى فى مؤلفه «حلية الأولياء» بغض النظر عما ورد فى أسماء

٢٥٣

أصحاب الصفة من الاختلافات أن بعض أصحاب الصفة قد تأهلوا وتركوا الإقامة فى الصفة الشريفة كما أن بعضهم خرجوا للسياحة ولم يقيموا فيها فى صورة دائمة ومن هنا لا يمكن تعيين عددهم بالضبط : ولكن سواء أكان المتزوجون فيهم أو من خرجوا للسياحة كانوا يعدون موجودين فى الصفة ويتساوون حسب المزية فى درجة واحدة ، وكان بينهم من لهم نفوذ ومن يراعى جانبهم وكان أبو هريرة ، كما أشير أعلاه ، يعد رئيسهم ونقيبهم. حتى إن أبا هريرة كان يتولى تفقد أحوالهم والاستفسار عن شأنهم بموجب الأمر النبوى ويعرض أحوالهم إلى السدة النبوية وكان يعمل وفق الأوامر التى تصدر من النبى صلى الله عليه وسلم.

أصحاب الصفة الذين أورد أبو نعيم أسماءهم الجميلة ومناقبهم الجليلة من بين هؤلاء :

أوس بن أوس الثقفى ، أسماء ابن حارثة الأسلمى ، أبو عبد الله ثوبان بن بجدد ، أبو سعد ثابت بن وديعة الأوسى ، أبو ذر جندب بن جنادة الغفارى ، أبو عبد الرحمن جرهد الأسلمى ، أبو سريحه حذيفة بن أسيد الغفارى ، أبو عبد الله حارثه بن النعمان الأنصارى ، أبو عبد الله سلمان الفارسى ، أبو عبد الرحمن سفينة ، أبو كبشه سليم الفارس ، أبو هريرة عبد الرحمن الدوسى ، أبو رزين أبو فراس الأسلمى ، ابن الخصاصية ، بشير بن يزيد ، أبو عبيده عامر بن عبد الله الجراح ، أبو مويهبة ، أبو ريحانة شمعون الأزدى ، وبرة ، نضلة بن عبيد الأسلمى ، أبو عسيب أحمر ، أبو عيسى بن مريم بن سالم ، أبو اليقظان عمار بن ياسر ، بلال بن رباح الحبشى ، ثابت بن الضحاك الأشهلى ، جرهم أبو ثعلبه الحسينى ، جعيل بن شرأفة الضميرى الغفارى ، جارية بن حميل الأشجعى ، حبيب بن زيد الأنصارى ، حازم بن حرملة الأسلمى ، حنظلة بن أبى عامر ، حجاج بن عمرو المازنى ، حكم بن عمرو الثمالى (١) ، حرملة بن إياس ، خبيب بن إساف الخزرجى ، الحسين بن على بن أبى طالب ، حجاج بن عمرو الأسلمى ،

__________________

(١) انظر الإصابة ٢ / ٨٠ ترجمة رقم ٢٠٩٩ ، وقبلها ٢ / ٣٠ ترجمة رقم ١٧٨٢.

٢٥٤

خباب بن الأرت التّميمىّ ، خنيس بن حذافة السهمى ، خالد بن زيد الخزرجى ، خريم بن أوس الطائى ، دكين بن سعيد الخثعمى ، رفاعة بن عبد المنذر الأوسى ، زيد بن الخطاب العدوى ، سعد بن مالك أبو وقاص الزهرى ، سعيد بن عامر الجمحّى ، سعد بن مالك الخزرجى ، سالم بن عبيد ، سالم بن عمرو الأنصارى ، سائب بن خلاد ، سالم مولى أبى حذيفة ، شداد بن أسيد السلمى ، صالح شقران الحبشى ، صفوان بن دهب الفهرى ، صهيب بن سنان الرومى ، طخفة بن قيس الغفارى ؛ طلحة بن عمرو البصرى ، عبد الله بن ذو البجادين المزنى ، عبد الله بن حرام السلمى ، عبد الله بن مسعود الهذلى ، عبد الله بن عبد الأسد المخزومى ، عبد الله بن حرام السلمى ، عبد الله بن زيد الجهنى ، عبد الله بن أنيس الجهنى ، عبد الله بن حارث الزيدى ، عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عبد الرحمن بن قرط الأزدى الثمالى ، عبد الرحمن بن جبير الحارثى ، عتبة بن غزوان ، عقبة بن عامر الجهنى ، عباد بن خالد الغفارى ، عمرو بن تغلب النمرى ، عويم بن ساعدة الأوسى ، عويمر بن عامر الخزرجى ، عبيد بن سليم ، عكاشة بن محصن الأسدى ، عرباض بن سارية السلمى ، عبد الله بن حبيش الخثعمى ، عتبة بن عبد السلمى ، عتبة بن النّدّر السلمى ، عمرو بن عبسة السلمى ، عبادة بن قرط الليثى ، عياض بن حمار المجاشعى ، عبد الله بن طهفة الغفارى ، عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ، عبد الله بن منذر الجهنى ، فضالة بن عبيد الأوسى العمرى ، فرات بن حيان البكرى العجلى ، كعب بن عمرو الخزرجى ، كعب بن عمر السلمى ، كناز بن حصين الغنوى ، كنانة بن حصين العدوى أبو المدينة ، مصعب بن عمير العبدرى ، مقداد بن الأسود ، مسطح بن أثاثه القرشى ، مسعود بن ربيعة الهونى ، معاذ بن الحارث النجارى ، معاوية بن الحكم السلمى ، مسعود بن ربيعة القارى وهو الهونى المتقدم ، واثلة بن الأسقع الليثى ، وابصة بن معبد الأسدى ، هلال بن مولى المغيرة ، هند بن حارثة بن هند ، هبيب (١) بن يسار ـ رضى الله عنهم الستار.

__________________

(١) لم أجد فى الصحابة بهذا الأسم إلا هبيب بن مغفل. انظر : الإصابة ٦ / ٢٨١ الترجمة ٨٩٣٥.

٢٥٥

كيفية إعاشة أصحاب الصفة :

تعرضت أشجار النخيل فى أواخر عهد السعادة لنوع من الآفات وأشجار النخيل التى أصابها الآفة عندما أشرفت على إظهار ثمارها ذبلت أزهارها وبليت وسقطت على الأرض وأصابت الآفة خمسة وتسعين فى المائة من النخيل ، وبهذا الشكل كان رأسمال الملاك وثروتهم قد ذهبا هباء ومحيا تماما. وقام الزراع للقضاء على هذه الآفة بآلاف المحاولات حتى يجدوا حلا سريعا لهذه الآفة ، وقاموا فى سبيل ذلك ببعض التضحيات إلا أن سعيهم وجهودهم ذهبت هباء ، وإذا ما دامت هذه الحالة أصبح احتمال الحصول على المحاصيل من حدائق المدينة مستحيلا ، ومن هنا راجعوا طبيب الكائنات ـ عليه أسبغ التحيات ـ راجين أن يجد دواء لدائهم. فما كان من النبى صلى الله عليه وسلم الواقف على أسرار الحكمة إلا أن اتخذ قرارا بأن يأتى كل من أصابت الآفة نخيله بعنقود من البلح صدقة خالصة لأصحاب الصفة وبنية صحيحة ، وامتثل للأمر النبوى معاذ بن جبل من سادات الأصحاب وكان أول من امتثل وأسرع بقطف عنقود من البلح الطازج وأتى به إلى مسجد السعادة وبما أن الآفة انقطعت من حديقة معاذ بن جبل إثر هذا العمل وأبلغ الأهالى الرسول صلى الله عليه وسلم أصدر النبى صلى الله عليه وسلم تعليماته أن يأتى كل من ابتلى بالآفة بعنقود بلح لتوزيعه على أصحاب الصفة وأعلن ذلك على الزراع.

ومن هنا اتخذ أصحاب الحدائق عادة ألا يطعموا أولادهم وعيالهم قبل أن يقدموا عنقودا من البلح لأصحاب الصفة ، واستمر أصحاب اليسار والثروة بعد زوال الآفة فى تقديم البلح إلى مسجد السعادة كصدقة لأهل الصفة متبركين وعدوا هذا العمل كنفع عام ومن هنا تنافسوا فى هذا العمل المبارك.

وتولى معاذ بن جبل بحفظ ما يقدم من البلح وأخذ يوزعه على أصحاب الصفة فى أوقات معينة مخصوصة ، وكان محمد بن مسلمة من أكابر الصحابة معروفا بالسماحة والسجايا السامية وكان رجلا فاضلا يسلك دائما أحسن المسالك ، إذ كان فى باكورة مواسم البلح يأتى بعناقيد البلح التى يجمعها ويضعها

٢٥٦

بين عمودين من أعمدة المسجد ومن رأى ذلك اتخذ عادة الإتيان ببعض عناقيد البلح ويضعها بجانب عناقيد البلح المشار إليه ، ولما كان هذا النظام الحسن سببا فى إعاشة أصحاب الصفة وتسهيل حياتهم فقد تعمم تقديم البلح حتى أصبح كقانون البلد ، وعمل زراع البلد بهذا القانون ذو الفرائد واستمروا على ذلك فى عصر السعادة وهكذا أطعموا حضرات أصحاب الصفة.

وعندما كثرت عناقيد البلح فى مسجد السعادة ربط معاذ بن جبل بين الأعمدة التى تراكمت فيها العناقيد حبلا وعلق عليه العناقيد وكان الأصحاب الكرام يهزون العناقيد بعصيهم ويدعون أصحاب الصفة وبعد تناول البلح كان أصحاب الصفة ينصرفون إلى الأروقة التى صنعت من أجلهم فى نهاية مسجد السعادة من جهة الشمال حيث يمضون أوقاتهم فى الطاعة والعبادة.

واستمر توزيع البلح بهذه الصورة إلى أزمنة الخلفاء الراشدين ، ولكن فيما بعد كثرت حقول البلح وكثر الغرباء من الوافدين إلى المدينة حيث أصبحت الصفة الخاصة بأصحاب الصفة لا تتسع لإيوائهم ومن هنا أخذ ولاة المدينة المنورة ما يتبرع به الزراع من بلح التبرك وباعوا بعضه واشتروا بعض قرب الماء والنعال وأشياء أخرى وأخذوا يطعمون الفقراء الوافدين فى مواسم الحج طول إقامتهم حسب النظام السابق وأسعدوهم عند عودتهم بإعطاء كل واحد منهم قربة ماء ومقدارا من البلح ، وقد ألغى الولاة المتأخرون النظام السابق وأحالوا إدارة الزوار الفقراء إلى دار الضيافة النبوية ، وبما أنه لم يبق الآن فى المدينة المنورة ، لا الزراع الذين يقدمون البلح لإطعامهم ولا القادرون الذين يعنون بإطعام الفقراء ويفكرون فيه ومن هنا فالفقراء الذين نفدت نقودهم وطعامهم لم يجدوا إلا صاحب الرسالة عليه أكمل التحية يعرضون عليه حاجتهم وهكذا ينالون مطالبهم كما سيفصل فى المقال الذى فى خاتمة الكتاب.

ومكان المظلة والرواق اللذان صنعا خصيصا من أجل أصحاب الصفة الذين يعيشون كما سبق ذكره فى الجهة الشمالية من محراب التهجد وتقع هذه الصفة

٢٥٧

المسعودة بين محراب التهجد الشريف إلى باب جبريل تظل مقصورة محراب التهجد فى الجهة اليمنى ومقصورة صفة أصحاب الصفة المباركة فى الجهة اليسرى.

وأراد الأسلاف الكرام أن يحافظوا على مكان الصفة الشريف إلى يوم القيامة وبهذا التفكير المصيب رفعوا الصفة عن سطح المسجد الشريف بمقدار ذراع واحد وأحاطوا أطرافها بسور خشبى فى ارتفاع نصف ذراع وخصصوها لجلوس أغوات حجرة السعادة ، ويقيم الزوار الأفاضل وشيخ الحرم والآخرون من الذوات الكرام ليصلوا الصلوات المفروضة فى صفة أصحاب الصفة كما أن حراس الحجرة المعطرة يمضون أوقات نوبتهم فى هذا المكان الجميل بقراءة أورادهم الخاصة ، إن هذا المكان موضع مبارك فى غاية اللطف والروحانية ولا ينكر أهمية الصلوات التى تؤدى فى هذا المكان لشرفه إلا أن أداء الصلاة فى الروضة المطهرة ما دام يجد الإنسان مكانا خاليا أفضل من الصلاة فى الصّفّة. ولكن فى حالة ازدحام الروضة المطهرة بالمصلين وعدم وجود مكان للصلاة تؤدى الصلاة فى مقصورة أصحاب الصفة ، وإذا ما تذكر الإنسان تراحم أحوال أصحاب الصفة ومناقبهم وفضائلهم فلابد أن يقدر أهمية موقع ذلك المكان.

وكيف لا يبعث هذا المكان صفاء وسكونا للقلب؟ فمحراب التهجد أمامه ودار السيدة فاطمة الزهراء ـ رضى الله عنها ـ خلف محراب التهجد والروضة المطهرة فى الجهة الشرقية القبلية منه وحجرة النبى صلى الله عليه وسلم المعطرة فى التقاء الروضة المقدسة من الجهة الغربية.

٢٥٨

الصورة التاسعة فى تعريف الحجرة النبوية المعطرة.

ترك بانى أساس الشريعة عديم الاندراس ـ عليه أكمل التحية ـ عندما تفضل بوضع أسس مسجد المدينة مكانا خاليا فى جهة من جهات المسجد ليبنى عليه لزوجاته المطهرات أمهات المؤمنين حجرة عالية لكل واحدة منهن ، وبعد ما تم بناء المسجد الشريف ابتدر ببناء دارين للسيدتين سودة وعائشة (١) ـ رضى الله عنهما ـ وسواء أكانت عمق هاتين الدارين أو حجرات زوجات النبى الأخريات كاملة ملكا لحارثة بن النعمان ، أو قدم حضرة حارثة العرصة المذكورة للنبى صلى الله عليه وسلم ورحل إلى مكان آخر وهكذا نال شرف مجاورة النبى صلى الله عليه وسلم الغالية لمدة مديدة.

وقد كان لحارثة بن النعمان أولا عرصة الدارين سالفتى الذكر ورحل إلى الدار التى على اتصال بهذه الساحة ، وتعود أن يعطى قطعة أرض للنبى صلى الله عليه وسلم كلما احتاج لبناء دار ويرحل هو إلى دار أخرى وبهذه الطريقة كان قد تنازل عن جميع ما يملكه من الأرض عند ما تم بناء حجرات زوجات النبى صلى الله عليه وسلم.

إن الحجرات التسعة التى أسسها النبى صلى الله عليه وسلم لزوجاته كان بعضها مبنيا من الحجر والطين اللبن وبعضها من جذوع النخيل قد طلى فوقها بالطين وصنعت أسقفها جميعا من جريد النخيل ، وكان ارتفاع جدرانها عامة فى حدود ثلاثة أذرع ، وكانت بين دار السيدة عائشة وباب الرحمة ، أى حجرات نسائه جميعا كانت فى الجهة القبلية والشرقية والجهة الشمالية للمسجد الشريف ، والدار التى كان يحبها النبى صلى الله عليه وسلم وأكثر ما كان يسكن ويقيم فيها كانت دار عائشة ـ رضى الله عنها ـ وكان يفتح بابها إلى الساحة الرملية وكان مصراعه مصنوعا من خشب العرعر أو من خشب الساج على قول آخر ، وكان الأصحاب الكرام والتابعين يدخلون فى

__________________

(١) عندما بنى مسجد السعادة لم تكن للنبى صلى الله عليه وسلم إلا زوجتان.

٢٥٩

حجرات النبى بعد ارتحاله عن دنيانا ويؤدون فيها ركعات التحية ويذكرون المحاسن النبوية وينتحبون متحسرين كما أن المشتاقين للجمال المحمدى يؤدون صلاة الجمعة فى داخلها ، وهذا التصرف دليل كاف للدلالة على مدى حب أصحاب النبى الكرام لرسولهم.

حكاية

رأى النبى صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام ثوبان ـ رضى الله عنه ـ فى غاية الهم والغم وهو واقف فى حضرته فسأله قائلا : «يا ثوبان مالى أراك فى هذه الدرجة من الحزن والهم؟» فتحضر حضرة ثوبان للإجابة قائلا «يا رسول الله إنك ستكون فى مقام عال مع الأنبياء الكرام! ففكرت ماذا سيكون إلى فى ذلك الوقت إذا سأحرم من رؤية جمالك الكامل ، ومن أجل ذلك ملأنى الهم والغم» وبناء على قوله هذا نزل قول الله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ). الآية (٦٩ : النساء) ويروون هذه القصة فى حق زيد بن عبد ربه أيضا ، كان زيد يحب النبى صلى الله عليه وسلم حبّا جمّا ، وعندما ارتحل النبى صلى الله عليه وسلم كان زيد مشغولا فى حديقته ، وعندما جاء ابنه وأخبره بهذا الخبر المؤثر رفع يديه عاليا وقال : «يا رب أزل نور عينى!!! حتى لا تريا بعد وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد!» وأصاب سهم دعائه هدفه فعميت عيناه من تلك اللحظة ؛ رضى الله عنه.

حكاية أخرى

كان زيد بن الدثنة من الذين يحبون الرسول الأكرم حبا مفرطا ، ولما وقع فى يد مشركى مكة وأخرجوه من الحرم ليعيدوه جاء أبو سفيان وقال : «يا زيد قل لى بالله لما كنت تود أن يكون مكانك محمد وضرب عنقه بدل عنقك وتعود أنت إلى عيالك» فأجابه قائلا : «يا أبا سفيان لو شاكت شوكة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يجلس وكنت أنا بين أولادى وعيالى ، لكنت تألمت من ذلك» فقال أبو سفيان ، إننى لم أر أحدا من أبناء آدم يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا وهكذا أظهر .. شدة تعجبه. انتهى.

٢٦٠