موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

محل الجدار القديم هو المكان الذى أدى فيه النبى صلى الله عليه وسلم صلاته ، والمنبر الشريف الذى ذكر هنا هو المنبر القديم وهذا المنبر مع الإفريز المصنوع من حجارة أساس الحفرة على شكل حوض وعلى يمين هذا الإفريز ثلمة وعلى ويساره ثلمة وفوق هاتين الثلمتين آثار الرصاص وهما مكان التقاء أعمدة المنبر المنير القديم.

نظم

عند الصلاة ولّ وجهك شطر المحراب ..

وعند الدعاء نكّس الرأس نحو التراب ..

انحنى منه حاجب ذات الوجه الجميل ..

وبدا الهلال وهو يجعل سمت مرقاته إلى العرش فى السماء ..

وعلى العرش والكرسى عرشه شاء ..

فى تلك اللحظة لا تعقل لسانك فى بكائك ..

افتح شفتيك وفى شوق ترنم بغنائك ..

السلام عليك يا خير الخلق.

السلام عليك يا خاتم الأنبياء والمرسلين.

السلام عليك يا سيد الخلائق أجمعين.

السلام عليك يا رسول الله.

السلام عليك يا من دنا فتدلى وكان منزله قاب قوسين أو أدنى.

السلام عليك يا من ذا الذى ما زاغ البصر وما طغى.

السلام عليك يا من أوحى إلى عبده ما أوحى.

السلام عليك ما جدّ الجديدان واختلفت الألوان والقطران واستقبل الفرقدان (١) ، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين الطيبين الطاهرين.

«فتوح الحرمين»

__________________

(١) هما نجمان متجاوران أحدهما : النجم القطبى ، وهو قريب من القطب الشمالى ، ثابت الموقع تقريبا ، ولذا يهتدى به ، وهو المقصود فى قوله تعالى : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (سورة النحل / ١٦). المعجم انظر : الوجيز (فرقد) وغيره.

٢٠١

الصورة الرابعة فى تعريف جزعة مسجد السعادة والمحل القديم لمحراب النبى صلى الله عليه وسلم.

كان فى الجهة الجنوبية لصندوق المصحف الشريف قبل أن يحترق المسجد النبوى لوحة (١) مصنوعة من الخشب تسمى «جزعة» (٢) وكانت كبيرة ، وكان يطلق عليها فى تلك الأوقات «خرزة فاطمة الزهراء» وتعود الرجال والنساء أن يجتمعوا خلف تلك اللوحة وكانت تقع بعض الأمور غير اللائقة.

وكانت امرأة تستند على هذه اللوحة فوقعت وانكشف مكان عورتها ومن هنا رفع زين الدين أحمد بن المصرى من أفاضل المجاورين الذى كان يشتهر باسم «ابن حنا» هذه اللوحة وهكذا منع من حدوث هذه الأشياء الغير لائقة خلفها وذلك فى سنة (٧٠١) ه.

وكانت لوحة فضية سميكة على جدار محراب السعادة فى ذلك الوقت وكانت فى وسط هذه اللوحة مرآة جذابة ، يروى أن هذه المرآة كانت ملكا للسيدة «عائشة» ، وكان فوق تلك اللوحة رخام مذهب وفى جهة ما من هذا الرخام «حدبة» فى حجم رأس الطفل وتحت الحدبة رخام منحوت ومصقول وعلى قاعدته وتر مغروس كان النبى إمام محراب الشريعة ـ عليه أعظم التحية ـ يتكئ عليه ويستتر بعد إتمام الصلاة ، وبعد الحريق الثانى وسع محل المحراب القديم وغير وبدلوا المكان المقدس الذى أمام الصندوق الذى احتوى على المصحف الشريف وركزوا مكانه محرابا مرتفعا منحوتا من الرخام وذلك فى سنة (٨٨٨) ه وكان يقتضى إبقاء هذه الأماكن على حالها تعظيما لها إلا أن «شمس بن زمن» الحقير غير أكثر الآثار وبدلها ووضع مكانها المحراب الجديد.

__________________

(١) وكان الذين فى الجهة الشامية من هذه اللوحة لا يرون ما يجرى خلفها.

(٢) يقال الخرزة للمجوهرات مثل : ياقوت ، زمرد ، الماس ، والخرزات اليمنية ..

٢٠٢

إخطار

إن العثور على المحراب القديم لأداء ركعتى التحية أمام محراب الملكوت وزيارته يقتضى الوقوف على الجهة اليمنى لمحراب النبى الحالى وجعل منكبه الأيسر فى محاذاة المحراب الشريف الأيمن.

وكان يلزم أن تؤخذ مبانى محراب السعادة إلى جهة المنبر المنير فأخذت وسحبت ناحية قبر السعادة وكان سببا فى هذا الخطأ تعنت شمس بن زين بالجهل والذى كان أمين البناء بعد الحريق الثانى لمسجد السعادة.

بما أن المسافة بين المحراب الجديد والمنبر القديم أربعة عشر ذراعا وشبرا وكذلك المسافة بين الطرف الشرقى من أسطوانة التوبة ومنبر السعادة الحالى أربعة عشر ذراعا وشبرا فالذين يوفقون فى أداء الصلاة طبق التعريف السابق لا شك فى أنهم سيؤدون الصلاة فى الموقف النبوى لأن المسافة بين الحجرة المعطرة والمصلى النبوى ثمانية وثلاثين ذراعا والمسافة بين المصلى الشريف ومنبر السعادة أربعة عشر ذراعا وشبرا يثبت أن المحل المذكور آنفا مصلى النبى وبهذا يظل التغيير فى الجهة الشرقية فقط.

وبناء على هذا التعريف يلزم أن تكون المسافة بين قبر السعادة والمنبر المنير اثنين وخمسين ذراعا وشبرا وبما أن سمك قاعدة منبر السعادة ذراعان وثمانية عشر أصبعا وإذا أضيف مقدار هذا السمك إلى المسافة ما بين قبر السعادة والمنبر المنير تكون المسافة بين القبر الجليل ومنبر الرسول خمسة وخمسين ذراعا. وكان هناك عمود قريب من جدار القبلة قبل الحريق الثانى ، وصندوق المصحف الشريف الذى تكرر ذكره مرات كثيرة كان خلف هذا العمود وكان الزوار الكرام يذهبون إلى أن هذه القطعة الخشبية قد انتحبت لفراق محبوب الخالق وأنها بقية «جذع النخلة» ، ولأجل ذلك يحرصون على زيارته زيارة خاصة ويمسحونه بأيديهم.

هناك من يدعى أن ذهاب الزوار هذا خاطئ إلا أن الذين يخطئونهم هم المخطئون ، لأن قطعة من النخيل أوصلت بالرصاص قد ظهرت بين الأساطين.

٢٠٣

وإن ادعى مجد الدين اللغوى قائلا : «إن قطعة النخلة التى يزورها الزوار ليست قطعة النخلة التى يظنونها بل أنها قطعة عادية من الخشب الذى ركز ليكون علامة على مصلى النبى ، وقلعها» عز بن جماعة سنة (٧٥٥) وأراد بهذا أن يخطىء الزوار الذين يظنون أنها قطعة من النخلة المذكورة إلا أن العلماء الذين وجدوا فى عصر «عز بن جماعة صدقوا ما ذهب إليه الزوار» وقال «هذه القطعة من العمود من قطع النخلة التى أنتجت فى عصر السعادة» كما أثبتوا أن قطعة من اللبنة التى ظهرت فى أثناء تجديد مسجد السعادة من بقايا المبانى التى صنعت فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم.

تنبيه

كانت هناك فاصلة بين المكان الذى يصلى فيه سيد العالمين والجدار القبلى الذى بنى فى عصر النبوة تسمح بمرور شاة وإن هذه الفاصلة كانت المكان الذى يظل فى أثناء السجدة وبناء على هذا التعريف فالفاصلة بين النبى صلى الله عليه وسلم والجدار وهو قائم كانت فى وسع ثلاثة أذرع ، ومن هنا يقتضى للذين يريدون أن يؤدوا الصلاة فى محراب النبى تبركا أن يتركوا فاصلة تسمح بالسجدة بين رءوسهم وجدار محراب السعادة. وقد كتب على حجر رخام منقوش من الطرف الأيمن من المحراب النبوى عبارة «هذا مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفوق هذه العبارة يعنى فى الجزء الأعلى من طاق المحراب الشريف خارجا منه وبدءا من وسطه وسائرا من فوق الكمر إلى وسط الطرف الأيسر منه الآيات الشريفة «بسم الله الرحمن الرحيم».

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). (البقرة : ١٤٤).

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً). (الأحزاب : ٥٦).

٢٠٤

وفى الوسط الداخلى للمحراب المقدس سطر الآية المنيفة بخط قديم جلى مذهب.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). (التوبة : ١١٢).

والآية الكريمة «التائبون الحامدون» بدأت من اليمين واتجهت إلى اليسار فى شكل مرتب.

وقد كتب فى أعلى طاق المحراب الشريف المذكور بخط غليظ جميل الآية الكريمة (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) (آل عمران : ٣٧) وعلى الطرف الأيسر منها الحديث الشريف قال النبى عليه الصلاة والسلام : «الصلاة عماد الدين» وفى اتصال هذا الحديث العبارة المنجية «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» وفوق الأسطوانة المخلقة المتصلة بالمحراب المسعود عبارة «هذه الأسطوانة المخلقة» وفى مكان مواجهة جدار محراب السعادة والجهة الجنوبية منه كتبت عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد ؛ أمر بعمارة هذا المحراب الشريف النبوى العبد الفقير المعروف بالتقصير مولانا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباى ، خلد الله ملكه بتاريخ شهر ذى الحجة الحرام سنة ثمان وثمانين وثمانمائة من الهجرة النبوية».

وقد كتب فوق الباب المشبك المصنوع من النحاس والذى يفتح إلى الروضة المطهرة والذى يقع فى الجهة اليمنى من المحراب الشريف بخط جلى «قال النبى عليه الصلاة والسلام إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» ، وفى الطرف الجنوبى للباب الذى ينظر إلى المحراب العثمانى وفى الجهة القبلية من الباب كتب الحديث الشريف «قال النبى عليه السلام ؛ ومن زار قبرى وجبت له شفاعتى» كما كتب على الباب الصغير النحاس المشبك الذى ينظر إلى الروضة المطهرة وباتصال الجهة اليسرى من الحديث «قال النبى عليه السلام ؛ ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة» (حديث شريف) وفى الطرف الجنوبى لهذا الباب

٢٠٥

والذى ينظر إلى المحراب العثمانى المركوز فى الجدار الجنوبى لهذا الباب كتب الخبر الصحيح اللطيف «قال النبى صلى الله عليه وسلم : من زارنى بعد مماتى فكأنما زارنى فى حياتى» (حديث شريف) بخط فى غاية الجمال والذى يجذب الأنظار إليه أنه قد كتب بخط جميل ومقبول ، وكل الخطوط مطلية بذهب خالص العيار.

وقد حصلنا على نسخة من القصيدة الوصفية التى تحتوى على محاسن مسجد السعادة وآثاره المسعودة ومدائحه والتى ألقاها إبراهيم كاظم باشا من أجلة شعراء العصر فى مواجهة العتبة النبوية ورأينا تذييلها لهذه الصورة تبركا بها.

نعت شريف

بارك الله أيّها المعبد يا من عند العرش عتبتك

لا أوحش الله أيها المكرم وفخر الدنيا روضتك

أنت مسجد ولكنك قبلة الكعبة وبابك

تحسد الشمس حلقته كما تحسد السماء طاقتك

إنك روضة ولكن النار بجانبها تبدو وشيكا للعيان

إنها شعلة شجر تجلى ورد روضة اللامكان

يا لها من رياض إلهية وترابها الأقدس

يفخر العرش بوجوده من تراب الأرض إنها أرج الجنة

وسيل دمع العين العاشق الولهان

شمعة تحوم روح جبريل حولها

والملائكة شوقا إلى إيوانها

جواهر أرواح الخلائق فتات فيها

ويداس الناس كالرمال فى ساحتها

جامع حكمة لمحرابه أركان

٢٠٦

تقوست كأنها حاجب الحسان

لا يبلغ الروح الأمين ارتفاع المنبرين

إن الأفلاك والعقول تعدها مرقاتين مرقاتين

كأن شجرة الطور كل سارية ومغارة

تقدم لأهل العشق للتجلى أمارة

إنها برعم اللاهوت وليست قبة خضراء

لقد جعلها الله من شجرة الورد تشع الضياء

ما عسى أن أقول فى محشر الأرواح وكيف أصف

فى كل موضع منه إنسىّ وجنىّ معتكف

الفرق بينه وبين الجمع والانتشار

فالجمع فى المحشر يوما وفيه خمس مرات

ليس ما يظهر فى أيامه زجاج بلورى

عين الملائكة إليه ترنو

كل مؤذن فيه بلبل يسجع سجعا

ويقول الله أكبر من ألقى إليه سمعا

تمزقت صدورهم واضطربت قلوبهم لمكنسته

وشعر حور الجنان مثل قلبى من الغبطة والحسد

على سقفه هل أنارت قباب

أم أنها على لجة القدرة حباب

الزفرات تحت قلنسوته إلى العرش تصل

وكأن روح المولوى كل شمعدان مشتعل

كلا بل إن كل شمعة جرح فى جنان

٢٠٧

إن يد كليم الله البيضاء تبدو للعيان

إن العليل ريحاهى أصل أنفاس المسيح

والوصال فى الهوى أصل للروح

إن فى دلو لبئر للشمس محوها

إذا ما أبدت فى الفلك خيط شعاع لها

هديل حمامة يشنف من الحور الآذان

ولوحة الرخا يثير غيرة الجنان

ما ضر لو كانت أعز من الروح ذرة من ترابه

إن سيد الكون والمكان فى رحابه

إنه ملك الدنيا يتبوأ سريرها

ولروح موسى عصى يحرسه بها

سيد الدنيا ذلك العظيم

الذى وصف صفاته الله الكريم

حبيب الله وجوده الأكرم الأمثل

وهو للإنس والجن موئل

له سجايا عند الله علمت

وفى اللوح المحفوظ بالقلم رقمت

ملك تاجه «لى مع الله» وسلطان الدين

عبد ملك ماسوا والرسول السعيد

نور أوج الهداية ومشرق نور الظهور

وعلة خلق مرايا فيها للجمال سفور

فخر الأمم وسيد المرسلين

٢٠٨

الرسول الأكرم خاتم النبيين

أحمد الرسل ملاذ الأنبياء الذى جعل ذاته

تحمل لوجه الحق مرآته

القابض بيده على قاب قوسين

ومن يرمق وجهه على الدوام بالعين

من الحق إن للماهية ماء جوهر

فيه الله أمر

لعله الطاهر على خيمة العرش هلال يمتد

وأثر قدمه لعين روح الملائكة مكحلة الأسمر

إذا أثر ماء لطف شربة فى النار

أصبح أصلا لحياة الخلود كل الشرار

أما إذا وقع على الماء شرار قهره

أصبح حباب الماء تنور يقذف بناره

وإن كان لمكنته فى إقليم العدم سحاب

أصبح جنات ذلك اليباب

وإذا ما بلغته منه بعوضا أعان

كان لها حكم الدنيا كسليمان

وإذا ما نظر إلى بلبل حزين السرليل

كان لنواحه ما لصور إسرافيل

من نظر إلى جبينه وحاجبه وأهدابه

رأى سر الحكمة فى غورها والعقل فى لبابه

وإذا شاء أن يكون لحكمه صفة الأضداد فى آن

٢٠٩

بدا من ذلك تقلبات الزمان

هذا ما لشمس عدله من آثار

فبكل شعاع منها لملك تدهور وانهيار

للبلبل موئل من شوك حوله

ويحمى الشمع من الريح زجاج مصباح حوله

لقد ألفت إلى ما لا يتناهى من بعد الصحراء

يد قدرته إذا ما قدمت الكرة بالصولجان فى الهواء

يا رسول الله لك الجمال مع الجلال

هما ربيع بلا خريف وشمس بلا زوال

يا رسول الله يا من أنت نبىّ آخر الزمان

بعثك رحمة للعالمين الرحمان

إن نور وجهك مصباح محفل الكبرياء

غدا نراك ووجنتك هى لؤلؤ الضياء

إذا وقع غبار مكحلتك فى عين عليل

بدت صورة السر الخفى برقا فى مرآته

إذا اشتاقت عينى الباكية شفتك

بحرا ومعدنا للجواهر واللآلى مع الدمع صنعت

لا تحسبن أن قوس قزح يظهر بظهر المجرة فى المساء

عبدك مقيد العنق هو السماء

إذا ما بدا الهلال فى السماء

فإلى هلال حاجبك الإيماء

لا يبدو فى صدرى جراح منك بالسنان

٢١٠

وإن كان جرح فم فيه ألف لسان

حبذا سكير العشق الذى لا يعرف له صهباء

سوى دماء يزرفها فى البكاء

وددت لى صديقا أفضى إليه بسرى

ما عسى أن أصنع إن سرى لا يفشو ولو انقضى عمرى

إن ألف جبريل فى ركابك مقيدون

أما أنا فيوسف فى أسرى المسلمين

إن كاظم سوف يبقى إلى آخر الزمان

ما دام وجد مرة مع هذا القمر الاقتران

رحماك يا رسول الله أعنى فلى زورق من أفار

تتقاذفه الأمواج فماله من قرار

من شر هذه الدنيا التفكر فى هول يوم الحشر

وضيق ذات اليد من ذلك الطالع الأنكد

لا يتحصل من كل غمك وهمك من نفع

لو اختلطت قطرة المطر بذرات العالم أجمع

ارمقنى بنظرة من رحمات

حتى يثير حالى غيرة حدائق الجنات

تم الكلام وحان وقت للدعاء

فابسط حجرا لحاجتى والتجائى

ما دام نور الحق يتلألأ فى روضك

فالملائكة على الدوام تطوف بمسجدك

يسر العفو والغفران لأمتك

ولتسعد وتقر عينا بوصلك

٢١١

الصورة الخامسة تبين سبب تأسيس منبر مسجد النبى وصورته وجزع ونحيب النخلة (١).

لما كان مسجد المدينة الشريف خاليا من المنبر لإلقاء الخطبة كان مؤسس مبانى الدين ـ عليه سلام الله المعين ـ يقف طويلا على رجله فى أثناء إلقائه الخطبة ويتعب كثيرا ، وتأثر الأصحاب الكرام من هذه الحالة فأتوا بنخلة وركزوها فى المحل الذى يلقى فيه خطيب منبر الرسالة ـ عليه أسنى التحية ـ ورجوه أن يتكئ عليها فى أثناء إلقائه الخطبة ، وبعد فترة ألمح أحد النجارين من المدينة المنورة وهو «باقوم الرومى» من عبيد سعيد بن العاص ، لتميم الدارى من الصحابة والذى كان من معارفه وقال : «إذا أمكن الحصول على إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم لصنعت له منبرا» وهكذا أومأ بأنه مستعد لصنع منبر لمسجد السعادة وعرض تميم الدارى الأمر على الرسول صلى الله عليه وسلم واستحصل منه الإذن على أن يكون المنبر المصنوع ذا ثلاثة أرجل أو أربع وبعد صنعه عرضه على النبى صلى الله عليه وسلم فأعجب به وأصبح منبره وصعد عليه لإلقاء خطبه.

وإذ ابتدر الرسول صلى الله عليه وسلم فى إلقاء الخطبة صاعدا على المنبر ، فالنخلة التى استند عليها من سنين أخذت تنتحب وتصيح كالناقة التى فقدت وليدها وبعد فترة ما سقطت على الأرض وكادت أن تكون ألف قطعة.

وحينما رأى شفيق الكائنات ـ عليه أفضل التحيات ـ حالة النخلة هذه نزل من المنبر الجديد ودعا تلك النخلة واستجابت النخلة سالفة الذكر للدعوة النبوية شاقة الأرض فمسها بيده الشريفة المعجزة وأمرها أن تعود إلى حالتها الأولى فاستجابت لأمره ـ عليه السلام ـ ورجعت إلى مكانها الأول ووقفت معظمة الرسول فخاطبها الرسول قائلا : «أيها النخلة! أين تريدين أن ترجعى إلى الحديقة التى قطعت

__________________

(١) انظر فتح البارى الحديث ٣٥٨٣ ـ ٣٥٨٥ وشرحه من كتاب المناقب.

٢١٢

منها؟ أم إلى رياض الفردوس ، حيث تغرسين فى واحدة منها؟ فخيرتك فى اختيار أحد الأمرين ، إذا أردت مكانك القديم أعيدك هناك! لتنمين وتكبرين وتثمرين كما كنت من قبل أما إذا أردت رياض الجنان أغرسك فى فردوس النعيم ، حتى تستفيدى من أنهار الجنات وتجددين شبابك فى كل آن وتثمرين فيأكل من ثمارك أولياء الله» وبعد أن قال ضاحكا «نعم قد فعلت» ، فدفنها تحت المنبر الجديد وعلى قول على الجهة اليسرى منه أو فى المحل الذى كان مغروسا فيه.

مثنوى

قال النبى أيها العمود ماذا ترغب

قال قلبى من فراقك قد تلهب

منى لك عرشا طلبت

وعلى منبرك عرشا صنعت

تريد لك نخلة تزرع

وفى الشرق والغرب تمرها يجمع

قال أريد أن يدوم لها البقاء

اسمع أيها الغافل لا تكن أدنى من البلهاء

فدفن هذا العمود فى التراب

ليبقى فيه إلى يوم الحساب

إن راوى هذه القصة المليئة بالعبر الحسن البصرى ، يروى أن الأصحاب الكرام قد تعجبوا من قول النبى صلى الله عليه وسلم «نعم قد فعلت» وسألوه عن تفسير ذلك ، فأجابهم قائلا : «إن ذلك الخشب الجاف قد اختار الجنة ، وإننى وعدته بأن أسعفه فى تحقيق طلبه» ، وكان حسن البصرى يبكى وهو يزين لسانه بالمقال الآتى : «يا عباد الله الذين فطرهم بالعقل والشعور! بينما تنتجب الأشجار الجافة لمفارقتها الرسول صلى الله عليه وسلم ، بينما نحن من أمته!! هل يليق بنا أن نظل ملتفين بستائر الغفلة».

وكانت تلك القطعة من النخلة فى يمين محراب النبى صلى الله عليه وسلم وملتصقة بجدار القبلة ، وفى وقتنا فى مكان قاعدة الشمعة التى على يمين محراب الأئمة.

٢١٣

وإن كان يروى أن هذه القاعدة توجد فى الجهة الجنوبية منها أسطوانة وهى فى مكان قطعة النخلة المذكورة إلا أن هذه الرواية غير صحيحة.

ويعرف المحدثون الكرام هذه الواقعة بحنين الجذع والجذع هو جسم الشجرة ابتداء من جذورها إلى فروعها ، والحنين هو الأنين من شدة الشوق ، وقد روى هذه الواقعة تسعة من الصحابة مثل أبى ابن كعب ، جابر بن عبد الله ، أنس بن مالك ، عبد الله بن عمر ، عبد الله بن عباس ، سهل بن سعد أبو سعيد الخدرى ، أم سلمة والمطلب بن أبى وداعة ، أى أن الوقعة قد نقلت متواترة ، لذا فلا شك فى صحتها.

استطراد

وقصة حنين الجزع وصورة وقوعها ذكرها الإمام البخارى (١) والنسائى والإمام أبو ـ داود عليه رحمة الله الودود ـ ناقلا عن جناب جابر رضى الله عنه الذى قال : كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا خطب اتكأ إلى جذع من سوارى المسجد ، فلما صنع المنبر فاستوى عليه ، صاحت النخلة التى كان يخطب عليها حتى كادت أن تنشق فنزل عليه السلام حتى أخذها فضمها إليه ، وكانت تئنّ أنين الصبى الذى يسكت حتى استقرت ، قال النبى ـ عليه السلام ـ بكت على ما كانت تسمع من الذكر.

وقد صدقت الرواية بهذا الحديث الشريف يعنى أن حضرة جابر قال وهو يبسط تلك القصة بينما كان النبى صلى الله عليه وسلم معلم العالم يخطب مستندا لإحدى أساطين مسجد السعادة وهى جذع نخلة وكان يتحدث عن الأوامر والنواهى الشرعية وأحكامها ويوصلها إلى مسامع المسلمين ، ولما توسطت شمس الإيمان كبد السماء وماج بحر حقائق الحكمة ودخل قبائل العرب والعجم بناء على السر الجليل الذى يقول «يدخلون فى دين الله أفواجا» واقتحموا شعار الإسلام وبعد ما كانت الفرقة الناجية المؤمنة قطرة فأصبحت بحرا وبعد أن كانت ذرة أصبحت شمسا

__________________

(١) فى كتاب المناقب الحديث ، ٣٥٨٣ ـ ٣٥٨٥ ، باب علامات النبوة فى الإسلام. فتح البارى ٦ / ٦٩٦ ـ ٦٩٨ ط. الريان.

٢١٤

وهكذا تزايدوا وكثروا فأصبح الذين يظلون فى آخر المسجد النبوى من البررة الكرام لا ينالون متعة رؤية وجه النبى الجميل ويتمتعون بصوت النبى صلى الله عليه وسلم ويحرمون من فوائد فرائد ألفاظ حبيب الإله وذلك لشدة الزحام فصنعوا منبرا جديدا فصعد النبى صلى الله عليه وسلم فوق المنبر وجلس عليه ، عندئذ صاح العمود صيحة حنين حينا وأن أنينا آخر حتى كاد أن ينشق قطعتين وسمع أهل المجلس صيحة الجزع الأليمة بآذانهم ، ونزل النبى صلى الله عليه وسلم من المنبر رحمة بحال العمود الحزين وضمه بصدره وعانقه بكل رقة وشفقة. ومن هنا أخذ الجزع يبكى ويئن كصبى صغير وفى آخر الأمر سكن من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم له كما يسكت الطفل عندما يسليه أبوه وأمه وانقطع عن الصيحة والأنين وبناء على خطب الرسول صلى الله عليه وسلم فى أصحابه الكرام قال يا أمتى وأصحابى! قد أن هذا العمود وبكى لأنه تأثر من مفارقته ما سمعه من الذكر والتسبيح الخاصين بالأوصاف الإلهية. انتهى.

هذه المعجزة من المسائل المشهورة والمصدقة بين الأئمة. قد حكى مؤلف المناقب الشافعية ابن أبى حاتم نقلا عن والده عن عمرو بن سوّاد عن والإمام الشافعى أن الإمام الشافعى قال : «إن النبى الأكرم قد أعطى الله له من المعجزات ما لم ينعم به على أحد من الأنبياء» وحكى ذلك فى صورة مفصلة. يقول عمرو بن سواد : «كنت قد قلت أن عيسى ـ عليه السلام ـ قد أعطى معجزة إحياء الموتى» قال الإمام الجليل «وقد أنعم الله على النبى صلى الله عليه وسلم بمعجزة حنين الجزع حتى سمع صوت الجذع ، وهذا أكبر من معجزة إحياء الموتى» (١).

قد روى بكاء الجزع وأنينه وصيحته بسبب فراقه الأليم للنبى صلى الله عليه وسلم ، سواء أكان المؤرخون أو العلماء الذين شغلوا أوقاتهم من أئمة الحديث بنقل الأخبار النبوية وإخراجها ، يعنى أن الأصحاب الكرام ـ رضى الله عنهم ـ الذين حضروا أحداث القصة المشروحة فى يوم وقوعها وسمعوا بآذانهم حديث حنين الجزع كأبناء البشر ونطقه وهو يعرض حاله للنبى صلى الله عليه وسلم وأقاموا على ذلك بينة عادلة إلا أن زمرة

__________________

(١) انظر : فتح البارى ٦ / ٨٩٨.

٢١٥

المعتزلة والفلاسفة حملت حديث الأحجار والحبوب ، والأشجار والنباتات على المجاز وتجرءوا على تأويل معجزة حنين الجزع وقالوا إن حنين جذع النخلة وأنينه قد أسمع للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه المختارين سماعا باطنيا وملكوتيا مع أن القول الصحيح سماع أنين ذلك العمود وصياحه ظاهرا بالأذن ، وبعض العلماء الذين يشغلون أنفسهم بتأويل هذا القول وتوجيهه ينكرون مثل المعتزلة والفلاسفة أن الجمادات والنباتات والحيوانات يعرفون الله ورسوله وأنها تسبح الله سبحانه وتعالى تسبيحا حقيقيا ، لأن أكثر علماء الكلام الذين اختاروا مذهب المعتزلة والفلاسفة حملوا الكلام والصيحة اللذين ظهرا من الجزع على المجاز قطعيا وقالوا ، لم يكن فى الجزع شعور حتى يصدر منه صوت ، يمكن أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أظهر الكلام كمعجزة للنبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك الوقت ، لأن النطق والكلام والتقديس والتسبيح والخوف والخشية فى حاجة إلى العقل والعقل فى حاجة إلى الحياة والحياة فى حاجة إلى اعتدال مزاج وجوارح وأجهزة مستعدة للنطق والكلام ، وإن التسبيح فى قول الله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (الإسراء / ٤٤) تسبيح بلسان الحال ، وأولوا الخشية التى فى قول الله تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة : ٧٤) إنها انقياد وطاعة بناء على فحوى أن الخشية مجاز عن الانقياد وحملوها على الانقياد كما حملوا ما صدر من عمود الحنان من صياح على المجاز.

مثنوى

قل ما تقول ما لم يكن من يعلمون

ولك أن ترد كل ما يقولون

ما أكثر هؤلاء المتشككين

وهم فى شكهم يعمهون

٢١٦

ومع هذا فقد رد أصحاب المشاهدة والمشايخ الصوفية كما بين فى تفسيرى معالم التنزيل ، وأبى الليث ردا قويا على جماعات الفلاسفة والمعتزلة وأبطلوا تأويلاتهم فى هذا الخصوص وأظهروا الحقيقة.

مثنوى

فى مجلس وعظ يختص بالحاضرين

فيه ترى الشباب والشيوخ مزدحمين

وقع فى الحيرة أصحاب الرسول

من صيحة عمود ذى عرض وطول

وقد عرف كاشف الأسرار مولانا جلال الدين الرومى وهو من كبار أهل المكاشفة والمشاهدة وبين فى كثير من مواقع كتابه المثنوى الشريف أن الجمادات والنباتات والحيوانات تنطق وتسبح وتهلل.

مثنوى

كما تعلم من يتجه بالخطا إلى الله اعلم

أنه من يقطع العلائق بينه وبين دنياه

كل من كانت له صلة بالله وجد

الحبيب وانقطع عن كل ما سواه

حكاية

قال أحد الأشخاص من كبار المشايخ لإخوانه حتى يبين لهم درجة فيكنون له من المحبة ـ بقدر إدراكهم وفهمهم ـ ويبين لهم ماهية المحبة فى الحقيقة ويرشدهم كلهم مرة واحدة : «إذا كنتم تحبوننى ، اخرجوا لهذه الصحراء وهاتوا لى زهر الشتاء على قدر محبتكم لى» ، وقد جمع كل واحد من الدراويش الذين خرجوا إلى الصحراء بنية خالصة لكسب محبة شيخهم ما استطاعوا وحملوه إليه. وقد أحضر أحد الدراويش غريب الأطوار وأكثرهم عشقا وقلبه مكشوف وكبده محروق بنار الحب الإلهى نبتة واحدة جافة خالية من الرائحة وعرضها على

٢١٧

شيخه ، وعندما قال له شيخه يا ترى أنك تحبنى بهذا القدر فقط؟ ألا ترى أن إخوانك أتى كل واحد منهم بحزم من الزهر؟ ، فقال له الدرويش : «يا سيدى إن الحقير يحبكم أكثر من جميع الإخوان ، إلا أننى كلما مددت يدى لأقطف زهرة وجدتها مشغولة بذكر الله وتسبيحه ورأيت ذلك بعينى وسمعت بأذنى ، ومن هنا خفت من أن أكون مانعا فى الاستمرار فى تسبيحها وذكرها فلم أتجرأ على قطفها ، وهذه النبتة التى تجرأت على تقديمها لك كانت قد فرغت عن التسبيح والتهليل فاصفرت وذبلت وجفت فأخذتها وأتيت بها!!!» وبهذا بين أن النباتات تسبح الله وتذكره وتنطق وهى حية فصّل ذلك. انتهى.

وخلاصة الكلام إذا أراد الإنسان أن يسمع نطق النباتات بأذنه حقيقة يجب عليه أن يرفع من نفسه الموانع المعنوية والحجب البشرية وستائر العقلانية وهو يسعى لمعاشه أن يزيلها من فوق أسماع روحه وأن يجرد بصيرته من غشاء الغفلة والعمى وغطاء البطالة والكسل وإلا فالذين قد سدت أسماع عقولهم بسدادة الغفلة فلابد وأن ينكروا ذلك السر الجليل حاملين ذلك على المجاز. انتهى.

استطراد

اختلف المؤرخون فى الشخص الذى صنع منبر السعادة وقال بعضهم «أنه من صنع معمارى الكعبة المعظمة باقوم» ، وقال بعضهم صنعه نجار يسمى «ميمونة» وقال بعضهم صنعه عبد العباس ، فقابله قائلا : «بما أن حضرة عثمان بن عفان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خلص من اختيار عمل مرهق صعب فمن هنا فله عليكم حقوق كثيرة! لو لم يكن عثمان بن عفان على الدرجة الثالثة من منبر خطيب الإسلام صلى الله عليه وسلم الزم على ذات عظمتكم أن تخطبوا فى أسفل السافلين من قبر الأرض» وبهذه الإجابة المح بأن طعن عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ غير لائق ؛ رحمة الله عليه رحمة واسعة.

٢١٨

الصورة السادسة فى ذكر عدد المرات التى جدد فيها منبر السعادة وعدد المرات التى عمر.

ظل المنبر الشريف إلى عهد الحكم ابن أبى سفيان على الهيئة التى صنعها باقوم النجار ، كما ذكر من قبل.

أراد معاوية عندما عاد من مكة المكرمة أن يأخذ المنبر الشريف إلى الشام بعد أن أضاف إليه درجتين إلا أنه لم يوفق فى ذلك ، وأحد أسباب عدم نجاحه فيه بل سببه المستقل المهم هو كسوف الشمس ؛ لأنه قد حدث كسوف مفزع ، عندما أمر بفك المنبر الشريف وحله فأظلمت الدنيا حتى ظهرت النجوم فى السماء وتحولت مدينة الرسول إلى سجن مظلم واستولى الفرع والقلق على أهل المدينة وأخذوا يطلقون ألسنتهم ضد ابن أبى سفيان ، وإذ رأى ابن أبى سفيان أن سكان دار السكينة سيقومون كلهم ضده وأن نقل منبر السعادة سيؤدى إلى شر عظيم وسيحطم القلوب ، غير أفكاره بسرعة ومهد لها قائلا : «ليس قصدى نقل المنبر الشريف إلى الشام! إذ رأيت بعض أجزاء منبر السعادة قد بليت بمرور الزمن ، وخفت من سقوطه ؛ لذا أردت أن أطهر وأسوى تحته وأن أصلح وأرمم أجزاءه التى مالت للسقوط والانهدام!!!» وبسط عذره بهذا الشكل فسكن من ثائرتهم وطمأن علماء المدينة بهذه الطريقة ثم قفل راجعا إلى الشام فى سنة ٤٩ ه‍.

وكان غرض معاوية من محاولة نقل منبر السعادة إلى الشام ، بناء على قول ابن الأثير ، هو أن يجافى أهل المدينة ويهينهم لأنهم تغافلوا عن قتل عثمان بن عفان وتهاونوا فى قتله ، وحاول أن يأخذ عصا النبى صلى الله عليه وسلم المحفوظة لدى سعد القرظى أيضا ، وكان أبو هريرة وجابر بن عبد الله قالا له لا يجوز انتزاع منبر النبى الذى وضعه بنفسه من مكانه إلا أنه لم يعر سمعا لأقوالهما ، إلا أن كسوف الشمس التى تنير العالم ـ كما عرف آنفا ـ وظهور النجوم الزاهرة وانكشافها نهارا

٢١٩

جعله ترك التعرض لمنبر السعادة ولم يستطع أن ينفذ ما فى ضميره ومن هنا فهم أنه غير مصيب فى رأيه ومخطئ فى اجتهاده.

وقال بعض المؤرخين الذين ذهبوا إلى أن الذى أراد أن يقلع منبر السعادة من مكانه هو مروان بن الحكم.

أمر ابن أبى سفيان واليه فى المدينة المنورة مروان بن الحكم أن يقلع المنبر الشريف من مكانه وأن يرسل به إلى الشام وذلك من خلال الرسائل الخاصة ، وقد فتح مروان ابن الحكم رسائل معاوية وقرأها وتجرأ أن يرسل بعض النجارين على أن ينتزعوا منبر السعادة من مكانه ليرسل إلى الشام ، وذلك دون أن يخبر أحدا ، إلا أن الجو اكفهر فجأة وأظلمت الدنيا حتى أصبحت العيون ترى عيونا كما أن عاصفة هو جاء ثارت وملأت قلوب الناس رعبا فاستغرقوا فى بحار الهم والغم ومن هنا غير ابن الحكم رأيه بناء على هذا وغير الأمر الذى أصدره للنجارين وطلب منهم أن يضيفوا إلى المنبر ثلاث وعلى قول ست درجات وهكذا أوصل درجات المنبر إلى تسع درجات.

وأكثر المؤرخين على أن أحدا لم يزد من درجات منبر السعادة قبل ابن الحكم كما أن أحدا من بعده لم يتجرأ على أن يقوم بهذا العمل المستكره وأثبتوا ذلك بإيراد أدلة مقنعة.

واستأذن المهدى العباسى الإمام مالك قائلا : «إننى أريد أن أعيد المنبر الشريف لسابق عهده» وتصور أنه يستطيع أن يهدم الدرجات التى أضيفت من قبل مروان ابن الحكم وأراد أن يعيده لحالته الأولى على الهيئة التى صنعها باقوم النجار ؛ إلا أنه قد تخلى عن فكرته هذه بناء على قول الإمام مالك : «قد صنع المنبر الشريف من خشب شجرة الطرفاء وسمر ما أضافه مروان على المنبر القديم» وبهذا قد أفهم المهدى أن ترك المنبر الشريف على حالته هذه لا يخلو من الحسنات ، وبناء على هذه الرواية فإن الأمر يقتضى قبول الرواية الثانية وتصديقها ، والتى مفادها أن مروان بن الحكم هو المتشبث بنقل منبر السعادة إلى الشام.

٢٢٠