موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

أيوب صبري باشا

موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب - ج ٣

المؤلف:

أيوب صبري باشا


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٠

فاستمر الأوسيون فى القتال وطاردوا عدوهم إلى بقيع الغرقد وشتتوا عدوهم وكسبوا الحرب كما انتصروا على الخزرجيين فى واقعة «يوم الفرس» التى حدثت بعد ذلك بقليل.

ويذكر المؤرخون العرب الحروب التى وقعت حول المدينة بعد يوم الفرس ب «حرب الفجار» سبب ذلك تحرك أفراد قبيلة الأوس خلاف رأى القائد الذى يسمى الأشهلى وأبا أسيد من الأصحاب الكرام وكان قائد الأوس فى وقعة «يوم الفرس» وقد أرسل عقب الحرب سفيرا إلى الخزرج وأفهمهم أنه مستعد لعقد الصلح بشرط أن يدفع ديات قتلى الذين يزيد عددهم على قتلى الطرف الآخر ، وقبل الخزرج اقتراح خضير الكتائب ولما تبين أن قتلى الأوس يزيد ثلاثة أنفار عن الخزرج قد أعطى إلى الأوس ثلاثة أنفار رهائن إلى أن تدفع الدية ، وقد نقض الأوس العهد وقتلوا أحد الرهائن ومن هنا سميت الحرب التى حدثت واشتعلت بكل شدة بعد يوم الفرس حرب الفجار ـ ولكن الحروب التى وقعت فى المدينة لا تعد من حروب الفجار التى وقعت بين بنى كنانة وبنى قيس ، لأن حروب الفجار بين بنى كنانة وبنى قيس قامت أربع مرات لأول مرة فى السنة العاشرة من الولادة النبوية والثانية فى السنة الثانية عشرة والثالثة فى السنة الرابعة عشرة والرابعة فى السنة العشرين وزمن وقوعها شهور «رجب ، وذى الحجة ، ومحرم ، وصفر» وصادفت الأشهر الحرم ولما وعى المقاتلون ذلك قالوا متأسفين نادمين «قد فجرنا» وأطلق على هذه الحروب حروب الفجار.

يوم الحدائق ـ بدء حروب الفجار بالمدينة كان عقب وقعة يوم الفرس مع ملحمة يوم الحدائق وسبب هذه الحرب قتل أحد الرهائن التى أعطيت فى يوم الفرس ، إذ قام الخزرجيون عامة للحرب ، عقب نقض الأوس عهدهم بقتل أحد الرهائن واستطاعوا أن يضيقوا الخناق على الأوس بين بستانين نخيل المدينة وذلك لما رتّبه ونظمه قائدهم عبد الله بن أبى بن سلول من الدسائس والحيل ، وأشعلوا نار الحرب وبذلوا كل جهدهم حتى شتتوا القبائل الأوسية وجرحوا قائدهم أبا قيس من عدة أماكن فى جسمه.

١٤١

يوم المعبس والمضرس ـ وقعت معركة المعبس والمضرس بعد وقعة يوم الحدائق ، وقد وقع هذا الجدال خلف جدارين ، وقد تحشد رجال الأوس الذين نجوا يوم الحدائق خلف جدار يعرف «بمعبس» كما احتشد رجال الخزرج خلف جدار آخر يقال له «مضرس» وتحاربوا وتقاتلوا أسابيع وفى النهاية انهزم الأوسيون وتشتتوا وأغلقوا أبواب الأبراج التى كانت تعد من الحصون فى تلك العصور على أنفسهم وأطلق لهذه الحرب اسم يوم «معبس ومضرس» وبعد فترة رغبت جماعة بنى عوف فى عقد الصلح مع الخزرج ولكن بنى عبد الأشهل وبنى ظفر والرجال الآخرون الذين يوافقون رأيهم امتنعوا عن ذلك قائلين إننا لا نرضى بعقد صلح قبل أن ننتقم من الخزرجيين من هنا أخذ الخزرجيون يزعجون الأوس من حين لآخر ويطردونهم من مساكنهم ؛ حتى إن جماعة بنى سلمة باغتت قرية بنى عبد الأشهل ونهبوا أموالهم وأصابوا سعد بن معاذ الأشهلى بالجروح وسببوا له الألم والمحنة.

وذهب رؤساء الأوس بعد نهب قرية بنى عبد الأشهل إلى مكة المعظمة بنية زيارة البيت الأكرم وفى نفس الوقت حرصوا على أن يعقدوا روابط الاتفاق والمعاهدة مع صناديد قريش ضد قبيلة الخزرج وفعلا وجدوا كثيرين ممن يؤيدونهم ، إلا أن أبا جهل اللئيم قد وصل لعلمه عقد اتفاق الأوس مع قريش فقابل أعيان قبيلة قريش الذين تعاهدوا مع الأوس فى دائرة دار الندوة وألقى فيهم هذه الكلمة التى تفتت الكبد إذ قال : كأنكم غافلون من مؤدى المثل الذى يقول : «ويل من أهل المنازل» بما أن الأوس من ذوى القدرة والنفوذ وأصحاب الثروة فإنهم سيطردونكم ويبعدونكم من مكة ؛ ولا يخفى لكل من يعرف وقائع الأسلاف أن كل قوم باتوا فى بلاد قوم آخرين إلا وطردوهم من منازلهم وأخرجوهم من مأواهم ، وأشار بهذه الكلمات إلى وجوب نقض المعاهدة ، وقد جعلت كلمات أبى جهل القرشيين يندمون على عقد اتفاق مع الأوس ولكنهم لم تصل بهم الدناءة لارتكاب حقارة نقض المعاهدة وقالوا : «إننا قد عاهدنا الأوس! كيف نجسر على نقض عهدنا؟ هل هناك دناءة أعظم بين العرب من نقض العهد؟! وأرادوا أن

١٤٢

يسكتوا أبا جهل بهذه الكلمات ، إلا أن أبا جهل قال اتركوا هذه النقطة من المسألة لى أنا ، وخرج من دار الندوة وتلاقى مع الأوس وقال لهم : «يا أعيان قبائل الأوس! قد عقدتم العقد والميثاق مع القرشيين ، وإننى لفى شدة الأسف لعدم وجودى فى ذلك المجلس! وإذا كنت وجدت فى هذا المجلس لكنت عاهدتكم أنا أيضا ، وكنت آتى لعونكم مع أبطال قريش! إذا قبلتم نعقد مقاولة أخرى لتحديد المعاهدة! أننا لا نخفى نساءنا وبناتنا عن بعض ونسمح لجوارينا بملاطفة الرجال بالسر فى أسواقنا! إذا اتفقتم معنا فى هذه الأفكار وسمحتم لنسائكم وجواريكم بملاطفتنا وملاعبتنا ، فإننا نعينكم! وإذا لم توافقونا فى أفكارنا فمن العبث أن تنتظروا العون منا!!!.

وبهذه الكلمات قد كشف مسألة إباحة النساء التى كان يحترز منها أهالى المدينة ، لأنه كان يعرف جيدا أن الأوس ينفرون من هذه المسألة غير المشروعة ويتجنبونها.

وصرف الأوسيون النظر عن عون القرشيين إذ فهموا أفكار أبى جهل الضارة وعادوا إلى أرض يثرب وحرصوا على عقد اتفاق مع القبائل اليهودية وأحدثوا «يوم الفجار الثانى» تلك الملحمة الكبرى.

يوم الفجار الثانى ـ ظهرت واقعة يوم الفجار الثانى عقب عودة الأوس إلى المدينة ، وذلك عندما عرف الخزرج أن الأوس قد عقدوا الاتفاق مع «بنى قريظة ، وبنى النضير» من القبائل اليهودية فأرسلوا إليهم شخصا يدعوهم إلى القتال معهم ، فأجاب اليهود حتى لا تراق الدماء عبثا : «إننا لم نتفق مع الأوس ولم نفكر فى أن نتفق معهم واضعين أيدينا فى أيديهم» ، وأرسلوا أربعين نفرا من اليهود رهائن حتى يطمئنوا الخزرج ، ولكن بما أن قرى اليهود كانت منتظمة وفى أماكن حصينة طبيعية فإنهم طمعوا فى الحصول على قرى اليهود وأرسلوا رجلا آخر يقول لهم : «اتركوا مواقعكم ابتداء من هذا اليوم وهاجروا إلى أماكن أخرى!» وإذا رفضتم فإننا سنقتل رهائنكم فأجابهم اليهود قائلين : «إننا لا نرى

١٤٣

سببا يجبرنا للجلاء عن وطننا!!» إذا أجريتم الإهانة فاقتلوا رهائننا وقد غضب الخزرج من هذه الإجابة وتهوروا وقتلوا اليهودى (١) الذى كان فى حفظ عمرو ابن النعمان ، ولما رأى اليهود هذا من الخزرج اتحدوا مع الأوس.

وهجموا على القبائل الخزرجية وأحدثوا قتالا كبيرا وهذا القتال ملحمة يوم الفجار الثانى.

عندما قتل عمرو بن النعمان الرهينة الذى كان تحت يده وأبرز الإهانة قال عبد الله بن أبى بن سلول لقاتل اليهودى «إنك غدرت» وتخلى عن الاتفاق كما أطلق الأوسيون الذين يتبعون ابن سلول سراح رهائنهم وأرسلوهم إلى قراهم.

يوم بعاث ـ قد اندلعت ملحمة يوم بعاث بشدة بعد يوم الفجار الثانى وبعد هذه الحرب لم يقع قتال قط بين قبائل الأوس والخزرج.

سبب حدوث وقعة يوم بعاث هو سبب وقوع ملحمة يوم الفجار الثانى ؛ لأن قبائل بنى قريظة وبنى النضير اتحدت مع قبائل الأوس واتفقت معها وجلبت رجال قبائل مزينة حليفها وجمعتهم ، كما أدخل الخزرجيون فى دائرة اتفاقهم حلفاءهم من بطون بنى أشجع وجهينة ، وأخذ أفراد الطرفين يستعدون للقتال ويهيئون أدوات وآلات أربعين يوما بعد حرب يوم الفجار الثانى وجهزوا مالا يحصى من الجيوش وتلاقوا فى النهاية فى مكان يسمى «بعاث» وشرعوا فى قتال شديد ، وقد وقعت هذه الحرب فى شكل مفزع وصورة دامية.

وكان خضير الكتائب قائد الأوس وعمرو بن النعمان البياضى قائد القبائل الخزرجية ، ولكن عبد الله بن أبى بن سلول ومن يتبعونه ومن كان تحت إدارة بنى حارثة كانوا على الحياد ، وبذل أبطال الطرفين أقصى جهدهم وأظهروا غاية شجاعتهم وحرص كل واحد منهم على إهلاك الآخر وإتلافه ، وطال القتال مدة وفى النهاية تفرقت فرق الأوسيين وشرعوا فى الهرب.

ولما رأى خضير بن سماك قائد الأوسيين أفراد المقاتلين الذين تحت قيادته أخذوا يفرون وقد تخلوا عن القتال وقد مالت أسباب النصر والظفر إلى طرف

__________________

(١) وقد قتل هذا اليهودى عمرو بن النعمان شخصيا.

١٤٤

الخزرجيين قطعيا ، فغرز رمحه فى رحله وبرك على الأرض مثل الجمل بناء على القاعدة العربية القديمة وقال : «إننى لا أرجع من هنا ما لم أقتل فإذا أردتم أن تتركونى فى حالتى هذه للعدو فاتركونى» ، وأنشد بعض الأشعار المناسبة للموقف وهكذا شجع أبناء قبيلته ، وقد أشفق رجال الأوس على حال خضير الذى يفكر فى وطنه وهو مجروح ويحرص على الدفاع عنه وحتى لا يتركوه ليد العدو وهو فى حالته هذه فاضطروا للثبات فى ميدان الوغى وأثبتوا شجاعتهم الفطرية بقتلهم قائد الخزرج عمرو بن النعمان (١) البياضى وهزموا عدوهم هزيمة شنعاء وأخذوا يتعقبونهم من خلفهم ، وفى أثناء ذلك سمعوا صوتا هاتفيا يقول : «يا معشر الأوس لا يليق أن تقتلوا إخوانكم بهذا الشكل ، إن مجاورتهم أولى من مجاورة اليهود» حينئذ تركوا الحرب ثم حملوا خضيرا الذى شجعهم بكل تعظيم وأوصلوه إلى منزله.

وقد فرح خضير بن سماك فرحا لا حد له لانتصار الأوس على الخزرج على الصورة المطلوبة ، إلا أن الجرح الذى أصيب به لم يكن قابلا للالتئام فمات متأثرا به بعد مرور وقت قليل.

وكان هزيمة الخزرج وتشتتهم شيئا يبحث عنه الأوسيون ولا يجدونه ؛ ولذا نهبوا الخزرجى الذى وقع تحت أيديهم وتركوه مجردا من كل شىء وهدموا منازلهم وشتتوا أسرهم وهدموا وأحرقوا بساتين نخيلهم وبهذا أظهروا دناءتهم التى لا توصف وجرحوا ثابت بن قيس بن شماس الذى قبضوا عليه وكان ذلك الجرح شارة حريته وأسرعوا فى قطع نخيل بنى سلمة وإحراقها ؛ وأسرع سعد بن معاذ الأشهلى حتى أنقذ نخيل قومه.

وأخذت أضواء شمس النبوة تضىء آفاق المدينة المنورة عقب وقعة يوم بعاث وشرعت الدعوة المحمدية تنير أرض يثرب والبطحاء وبدأ السلطان الذى ظهر جديدا يرفع أستار الظلام والخصومة والعداوة بين قبائل الأوس والخزرج ، ولم يبق لها أثرا واتحد أفراد جميع القبائل التى تنتسب وتنتهى إلى ثعلبة بن عمرو مزيقيا واتفقوا جميعا فى نصرة الدين الأحمدى واتحدت كلمتهم.

__________________

(١) إن هذا الرجل هو الذى قتل الرهينة التى أخذت قبل يوم الفجار الثانى غدرا.

١٤٥
١٤٦

الوجهة الخامسة

وتشمل ثلاث صور تعين إرسال مصعب ابن عمير إلى يثرب ليقوم بإمامة موحدى أهل المدينة ووقائع الهجرة النبوية التى تستلزم الفخر.

١٤٧
١٤٨

الصورة الأولى فى ذكر بيعة السابقين من الأنصار للإسلام وفى دعوة مصعب بن عمير أهل المدينة إلى الإسلام.

بينما كان الأوس والخزرج يحاربون بعضهما كان النبى صلى الله عليه وسلم رئيس الذاكرين لنعم الله يتلاقى مع الحجاج الواردين من أقطار العالم إلى مكة المعظمة ويدعوهم إلى الإسلام الذى فيه خيرهم فى حياتهم ومعادهم ويبلغهم أحكام الشريعة ، وفى السنة الحادية والخمسين من ولادته السعيدة ذهب إلى صحراء منى حتى يلتقى مع الحجاج الواردين وفق عادته وتقابل مع بعض الأشخاص من قبيلة الخزرج الذين يطلبون الهداية فى سفح جبل «ثبير». ولما عرف أنهم من قبيلة الخزرج أخذهم إلى ركن ليحدثهم قليلا ثم أخذ يبين الدين الحنيف ويعرفهم به وفق رجائهم وتلى لهم بعض الآيات الكريمة أيضا ، وكان الخزرجيون يرغبون فى الدخول من قديم فى حصن الإسلام المتين ، وقالوا لابد أن يكون نبى آخر الزمان الذى ينتظر اليهود ظهور نوره وأرادوا أن يسبقوا اليهود فى يثرب فى التصديق وأسلموا بلا تردد وعادوا إلى المدينة وأخذوا يذكرون اسم النبى صلى الله عليه وسلم وأوصافه فأسعدوا كل بيت وقصر.

إن الذين يقال عنهم الأنصار السابقون يعنى أول من أسلم من أهل المدينة هم هؤلاء الأشخاص الذين ذكرناهم ؛ ولكن اختلف فى عددهم ، بناء على أشهر الروايات تقدم فى الإسلام أسعد بن زرارة وستة أشخاص معه ، ولكن عند البعض سبعة أشخاص (١) خمسة منهم من الخزرج واثنان من الأوس ، رغّبهم فى سبق اليهود فى الإسلام ما سمعوه من اليهود : «إننا نبايع نبى آخر الزمان قبلكم» ، لأن يهود يثرب كلما كانوا ينهزمون فى المناقشة والجدال مع قبائل

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى ٢ / ٣٥٣ ، ابن هشام ٢ / ٦٩ ، ابن سعد ١ / ١ / ١٤٥ ، ابن عبد البر (الدرر) ص ٦٧. وهى بيعة العقبة الأولى.

١٤٩

الأوس والخزرج يقولون : «قد اقترب زمن ظهور سيد البشر صلى الله عليه وسلم وإننا سنجعلكم علفا للسيف بمعيته» ويعلقون انتقامهم إلى ظهور نور نبوة محمد ـ عليه وعلى آله صلوات الله الستار.

وفى العام المقبل أى فى السنة الثانية والخمسين من ولادة السلطان الجديد الذى سخرت له الرسالة صلى الله عليه وسلم شرف أيضا صحراء «منى» حتى يدعو الحجاج الواردين إلى الإسلام وليهديهم إلى طريق النور المستقيم ويرحب بحجاج القبائل ، وتلا الآيات البينات للذين رأى فيهم استعدادا لقبول الإسلام وتلاقى فى هذه المرة مع عشرة أنفار من قافلة المدينة عند العقبة عرضوا بيعتهم عليه بالشروط الآتية : «ألا يشركوا بالله ، ألا يسرقوا وألا يقتلوا وألا يزنوا ، وألا يفتروا على أحد وألا يرموه بالبهتان فى الحال والمستقبل ، وألا يعصوا أوامر الشارع وأن يمتثلوا لأوامر النبى المطاعة فى العسر واليسر فى المنشط والمكره ، وإن يحبوا النبى صلى الله عليه وسلم بأن يقدموه على أنفسهم وألا ينازعوه فى أى شىء وأنه يقول الحق فى جميع الأحوال وألا يخافوا لومة لائم فى إظهار الأمر الحق».

وعقب هذه البيعة (١) فتح النبى صلى الله عليه وسلم فمه الشريف ناصحا وقال : «إذا ثبتم فى أقوالكم موفين بعهدكم لكم الجنة ، أما إذا تركتم أحد هذه الأمور فالله ـ سبحانه وتعالى ـ إما يعفو أو يعذب ويعاقب».

عاد الذوات الكرام الذين قبلوا الإسلام وفق الشروط المحررة وبعد أن ودعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وعندما وصلوا إلى المدينة المنورة أخذوا يظهرون شعار الإسلام وبادروا فى أداء الصلاة هنا وهناك.

وبعث معهم بناء على رجاء الأنصار السابقين مصعب بن عمير (٢) حتى يصلى مع المسلمين وليعلمهم أحكام الشريعة الغراء وتلاوة القرآن الكريم على طريقة صحيحة ، وأمروا بأن يختاروا أسعد بن زرارة من بينهم لإمامة صلاة الجمعة.

ونزل مصعب بن عمير فى الدار التى يسكن فيها أسعد بن زرارة ونال شرف الإمامة الغالية للأنصار الذين قبلوا الإسلام بجهود مصعب بن عمير وترغيبه.

__________________

(١) إن مصعب بن عمير أول من أطلق عليه لقب المقرى من الأصحاب الكرام.

(٢) وهى بيعة العقبة الثانية : انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٧٣ ، ابن سعد ١ / ١ / ١٤٧ ، وتاريخ الطبرى ٢ / ٣٥٥ ، وغيرها.

١٥٠

وقد أخذ أسعد بن زرارة مصعب بن عمير عقب أداء صلاة الجمعة الأولى (١) إلى بيوت الأنصار فى قرية بنى عبد الأشهل ومن هناك أخذه إلى قرية بنى ظفر القريبة من القرية السابقة وطلب من حضرة مصعب أن يدعو أهالى القريتين المذكورتين إلى مائدة الإسلام ذات الفوائد العميمة بينما هو جلس فى ركن من الأركان ، وأخذ الناس يقبلون على قبول الإسلام بجهود أسعد بن زرارة وغيرته ، واجتمعوا حول مصعب وأقبلوا على استماع القرآن الكريم منه ؛ إلا أن سعد بن معاذ وأسيد بن حضير من أشراف بنى عبد الأشهل غارا من استجابة أهالى القرتين إلى دعوة مصعب ودخولهم إلى الإسلام فرادى وولوجهم فى دائرة الإيمان الباهرة ذات الفيوضات وأخذا بفكران فى أسباب إخراج أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير (رضى الله عنهما) من القريتين سالفتى الذكر.

وكان سعد بن معاذ ابن أخت أسعد بن زرارة ، وأحنى سعد رأسه مدة مفكرا قال رافعا رأسه : «يا أسيد! إنك شريف بين القبائل ورجل مع علية القوم! فإنك ترى أن مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة (رضى الله عنهما) يحسبان نفسيهما من يمثلان الحق وبهذا يغفلان سادة رجال القرية! عليك أن تزجرهما وتزعجهما وتخرجهما من حدود قريتنا وتطردهما! إن أسعد بن زرارة ليس منا بعد الآن وهكذا شجع رفيقه أسيد بن حضير.

وأخذ أسيد بن حضير حربته وتوجه بكل شدة وحدة إلى المنزل الذى شرفه مصعب بالإقامة فيه ، وكان أسعد بن زرارة قد ركز أنظاره إلى الأطراف والأكناف حتى يعرف كيف سيتحرك سعد بن معاذ ، ولم يعجبه وجهة توجه أسيد ، ولما أطلع أسعد بن زرارة مصعبا على شأن أسيد قال مصعب بن عمير : إذا ما ألقى الله سبحانه وتعالى حب الإسلام فى قلبه تتيسر مهمتنا!! وبعد فترة وصل أسيد وقال وهو فى أشد غضبه ما غرضك من جلب مصعب بن عمير إلى قريتنا يا أسعد بن زرارة؟ وما هو قصدك من إضلال وخداع ضعفاء قومنا؟ إذا كانت لكم

__________________

(١) أول صلاة الجمعة التى صليت فى المدينة هى التى كانت الإمامة فيها لمصعب وكانت فى هزم حرّة بنى بياضة فى بقيع يقال له بقيع الخضمات ـ ويقال نقيع بالنون ـ وكانوا أربعين رجلا. انظر : الدر فى اختصار المغازى والسير لابن عبد البر ، ص ٦٩.

١٥١

حاجة خاصة بكم بينها ، وإلا فقوما وانصرفا من هنا وأراد أن يكدر أسعد بن زرارة بهذه الطريقة ، إلا أن مصعب بن عمير قال له : «يا أسيد!! اجلس قليلا واستمع إلى الأقوال التى سأقولها فإذا ما رأيتها معقولة تقبلها وإذا رأيتها كريهة ترفضها!!» فأجابه قائلا : «فى الواقع إن قولك هذا حق» وجلس فى ركن من الأركان وآثار البشاشة التى شوهدت على بشرته كانت تدل قطعيا على أنه سيقبل الإسلام ويرضى به دينا.

وحينما رأى ابن عمير جلوس أسيد بن حضير تلا عدة آيات كريمة ودعاه إلى مائدة الإسلام عميم النوال ، وظهرت فى قلب أسيد بن حضير آثار المحبة والقبول ، وقال : «ما أحسنها من أقوال! وما أوضحه من طريق هذا الطريق الحق! يا ترى ما التكاليف الشرعية التى يكلف بها الذين يريدون أن يدخلوا فى هذا الدين المختار؟» فأجابه مصعب قائلا : «يجب على الذين يريدون الإسلام أن يغتسلوا أولا ثم يطهروا ملابسهم ، ثم يعترفوا بوحدانية الله تعالى المطلقة ثم يصلوا».

وقد تأثر أسيد بن حضير من الإجابة الصحيحة وابتدر بتجديد ثيابه وفق تعليمات حضرة مصعب بن عمير وأقر بقلب نقى طاهر بتوحيد الله وتعلم أركان الصلاة ثم قال : «هناك بين قبائل الخزرج رجل شريف! إذا ما استطعتم أن تدخلوه فى دائرة الإسلام المنجية فثقوا تماما أن قبائل الخزرج كلها ستسلم. ها أنا ذاهب لأرسله إليكم ، إن هذا الشخص ذات صفات مشحونة بالهداية هو سعد بن معاذ» قال هذا وقام وذهب.

ولما رأى سعد بن معاذ عودة أسيد بشوش الوجه ونور الإيمان يلمع فى وجهه أحس أنه صدق بالنبوة المحمدية وأدرك ذلك وقال لمن بجانبه من الأشراف : «إن الشخص القادم يشبه أسيد بن حضير ، وإن مجيئه بهذا الشكل لا يسرنى ، لا أظن إلا أنه قد عرض البيعة لمصعب بن عمير!! فليجعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ ألا يخفى أمره هذا منا عندما يأتى ، لننتظر حتى يصل إلينا» وقد وصل أسيد بمجرد ما انتهى من أقواله فاستجوبه قائلا : «يا أسيد! ماذا فعلت؟ وكيف تعاملت

١٥٢

مع هذين الشخصين؟ فمنذ أن فارقتنا فأنا قلق» وتلقى من جانب أسيد الإجابة الآتية : «إننى لم أتنسم من أقوالهم رائحة الفساد والغاية السيئة ، وأقسم بالله إن قوليهما لا يتعدى التعريف بالإله الواحد واجب الوجود ووصف صدق النبوة المحمدية وبيانها!!» وحينما أخذ سعد بن معاذ هذه الإجابة فتحول إلى قطعة من نار تحرق العالم من شدة حدته ووثب من مكانه وخطف حربته وتوجه إلى مكان المشار إليهما.

وقد ارتعد أسعد بن زرارة واضطرب حينما رأى سعد بن معاذ مقبلا وهو ينشر إلى أطرافه شرارة الدهشة فأراه لمصعب قائلا : «إن هذا الشخص المقبل هو من يسمى بسعد بن معاذ الأشهلى وإنه آت بغضب شديد! إذا كان هذا أيضا يقبل الدين الحق ويصدق بنبوة النبى صلى الله عليه وسلم لا شك فى أن القبائل الخزرجية كلها ستسلم كما قال أسيد بن حضير» ، وعقب ذلك وصل سعد بن معاذ رافعا قامته وقال : «يا أسعد! قد غضبت من جنبك شيئا ننفر منه وهو منكر عندنا بدرجة لو لم تكن بيننا نسبة القرابة لكنت أهلكتك ورميتك فى حفرة الدمار بهذه الحربة السامة» ، ثم كدر مصعب بن عمير بذكر ألفاظ غير لائقة ، فرد عليه مصعب بن عمير دون أن يضطرب قائلا : يا سعد! كان يجب عليك أن تجلس قليلا حتى تسمع ما سأتلوه من الآيات الكريمة ثم ترد على وتجرحنى وتقبح كلامى ، إلا أنك عاتبتنى وكدرتنى بأقوالك دون أن تعرف ما سوف أقوله لك وجرحت الأقوال الشرعية على العمى وقبحتها وعاتبتنى وقلت عن النبوة أنها ليست حقا وقلت أننا نكره الأوامر ، وهذا التصرف مناف لأحكام قانون المناظرة» وخجل سعد بن معاذ واستحيى مما قاله وقال : «فعلا هذا ما كان يجب أن يكون! إننى لم أفكر فى هذه الأشياء وتجاوزت دائرة الأدب فأرجو أن تعفو عنى وأن تغفر لى سلوكى ثم جلس فى جهة ما» وقد ظهرت عليه دلائل قبول الإسلام إذ أخذ نور الإيمان يتلألأ فوق بشرته ويلمع. واطمأن مصعب بن عمير من حركات سعد بن معاذ الملائمة ثم تلا آية أو آيتين مناسبتين للموقف.

ثم دعاه إلى دار ضيافة الإسلام وكلفه أن يطهر جسمه وثيابه حتى يدخل فى الطريق المستقيم ، فما كان من سعد بن معاذ إلا أن غير ملابسه واغتسل وفق

١٥٣

الصورة المسنونة ودخل فى حصن الإسلام المتين ، ثم جمع أبناء قبيلته وقال لهم : «يا بنى عبد الأشهل إننى اقتنعت بصحة الإسلام وقبلته! بعد هذا يقتضى أن تسلموا كلكم!!!» وبهذه الطريقة رغب جميع بنى عبد الأشهل فى قبول الإسلام ، وبناء على إلحاح سعد بن معاذ المتكرر وتشويقه دخل بنو عبد الأشهل جميعا رجالا ونساء فى دائرة الإسلام المنجية وبناء على هذا ترك مصعب بن عمير القرى المذكورة وانتقل إلى دار أسعد بن زرارة رضى الله عنهما منزل الهداية وظل هناك حتى أسلم جميع قبائل الأنصار.

وفى الوقت الذى دخل فيه بنو عبد الأشهل إلى دائرة الإسلام المنجية باغت أفراد بنى النجار دار أسعد بن زرارة (رضى الله عنه) وأخرجوا منها مصعب بن عمير ، وهكذا أرادوا أن يزعجوا ويقلقوا مصعب بارتكاب هذه الشرور ، إلا أن سعد بن معاذ أخذه تحت حمايته حيث ظل إلى أن أسلم صناديد القبائل مثل عمرو بن الجموح وإلى أن كسروا أوثانهم وأهانوها وأصبح مصعب وهو فى حماية سعد بن معاذ مشعلا منيرا يهدى إلى طريق النجاة والسلامة وفى هذه الفترة دخل الأنصار الكرام كلهم فى حصن الإيمان المتين وظلوا ينتظرون الهجرة النبوية.

وقبل الهجرة النبوية المشحونة بالبركة أسلم قبائل الأنصار كلهم وكسروا أصنامهم وزاد عددهم بالنسبة لليهود ، كما أنهم اكتسبوا شرفا من الناحية الأخلاقية والتقاليد والمدنية وانتظموا وأصبحوا يعدون من أعيان أهالى أرض يثرب عامة وأشرافها إلا أن القبائل التى كانت تحت إدارة الشاعر «أبو قيس بن صيفىّ ابن الأصلت» ترددت فى قبول الدين المبين دين الإسلام وتلك القبائل هى : «بنو أمية بن زيد ، وبنو خطمة ، وبنو وائل ، وبنو واقد (١) «وظل أفرادها على دينهم القديم قرب وقائع بدر ، أحد ، والخندق» وذلك لعدم تخلى الشاعر المذكور عن ذم الدين الحنيف الأحمدى وتقبيحه ، ولوم الذين أرادوا أن يسلموا وتوبيخهم.

__________________

(١) وفى ابن هشام «واقف» ، وهنا «وافق» ، وفى الدرر لابن عبد البر «واقد».

١٥٤

حكمة

إن إسلام الخزرج قبل قبائل الأوس يعود إلى أن الجدة الثانية لفخر الكائنات عليه أكمل التحيات سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدى بن تيم بن النجار بن ثعلبة بن عمرو ، وكانت من بنى النجار ، من شعبة الخزرج إذ كانت علة القرابة سببا فى السبق فى البيعة.

سبب كون النبى صلى الله عليه وسلم أنصاريا من الخزرج :

إن هاشم بن عبد مناف الذى نقل أسباب قرابة النبى صلى الله عليه وسلم إلى القبائل الخزرجية والذى كان يسحر العالم بجماله الذى لا نظير له كما يقول المؤرخون إنه كان صاحب شهامة ومروءة لذلك عرف ب «عمرو العلى» وكان قد مر بيثرب حينما كان ذاهبا إلى الشام للتجارة وبنية التزوج من سلمى بنت عمرو النجارى بناء على الحكمة التى فى الرؤيا التى رآها والتى ذكرت فى الصورة السادسة من الوجهة الرابعة ، ورأى بالصدفة سلمى وتعلق قلبه بجمالها الساحر ورائحة وجهها مثل السنبل وقال إنه يريد أن يتزوجها ، كما أن سلمى حينما رأت جمال هاشم بن عبد مناف مثل البدر ولا سيما عندما رأت اللمعان الذى على جبينه لنور سيد البشر وعلمت أنه سيكون من أجداد النبى صلى الله عليه وسلم.

وحينما أحست ذلك وأدركته ؛ أو مأت عارضة أن درة هذه الصلة الغالية ستكون موجب فخرها ومباهاتها إذ سيكون رحمها صدفة لتلك الدرة الغالية ، وبناء على رضا الطرفين أجرى عقد النكاح بشرط ، إذا ما حبلت أن تضع حملها بين أقاربها.

لما كانت سلمى تعرف علم اليقين أن زوجها السابق أحيحة بن الجلاح سيطلقها كما ذكر آنفا بالتفصيل ومع ذلك أخبرت الخزرج بالليلة التى سيباغت الأوس الخزرج ومن هنا اكتسبت إعجاب قومها بها وخيرت ، مكافأة لها فى اختيار زوجها ولما كان هذا الخيار خلاف الأصول المرعية فى القبائل وعاداتها فلم يحدث مثل هذا لأية واحدة جميلة من بكارى كبار العرب.

١٥٥

ووفق ابن عبد مناف فى عقد النكاح وفق الدستور المسطور وسافر إلى الشام قبل الدخول بها وبعد مدة عاد إلى يثرب وزف إليها وأخذها إلى مكة المكرمة وحينما اقتربت ولادة عبد المطلب أخذها إلى يثرب حيث الاتفاق وسافر لأجل التجارة إلى الشام وارتحل إلى دار البقاء ، فى بلدة غزة المشهورة وبما أن سلمى ولدت بعد فترة جد النبى الأول عبد المطلب ومن هنا أصبح النبى صلى الله عليه وسلم أنصاريا خزرجيا من جهة جدته سلمى وأصبح من جهة أبيه عبد الله بن عبد المطلب قرشيا هاشميا مهاجرا.

وعلى هذا التقدير فجناب سلمى الثانية من جدات النبى صلى الله عليه وسلم وعمرو بن أحيحة أخو عبد المطلب لأمه كما أنه عم والد النبى صلى الله عليه وسلم عبد الله من جهة والدته.

١٥٦

الصورة الثانية فى هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى دار الأمن المدينة المنورة.

بعد أن أدخل ـ بتوفيق الله وإرادته ـ مصعب بن عمير كما ذكر فى الصورة السابقة كافة قبائل الأنصار إلى الإسلام ذهب إلى مكة المكرمة فى السنة الثالثة والخمسين من ولادة النبى صلى الله عليه وسلم ومعه خمسة وسبعون نفرا من أهل المدينة والتقى بسلطان الرسل عليه صلوات الله فى اليوم الثانى من أيام التشريق من السنة المذكورة فى شعب عقبة وأسرع بتقديم من فى رفقته إلى النبى صلى الله عليه وسلم بصورة عظيمة. وعقد البيعة (١) بناء على طلب رفقائه بشروط خاصة وذلك عند ما يشرف النبى صلى الله عليه وسلم بأنواره البهية المدينة المنورة أن يحموه مما يحمون منه أولادهم وعيالهم من الحادثات الكونية وأنهم سيبذلون له عونهم حتى إذا حاربوا فى سبيل ذلك ملوك العرب والعجم.

وعقب البيعة ـ التى شرحت ـ مد النبى صلى الله عليه وسلم يده التى أظهرت المعجزات فبادر بمد يده أولا أبو أمامة أسعد بن زرارة وعلى قول أبو الهيثم بن التيهان وعلى رواية أخرى براء بن معرور وقبل جميع الناس وعقدوا البيعة سبعين شخصا أو ثلاثة وسبعين رجلا شهما وامرأتين طاهرتى الذيل.

وكان أحد عشر منهم من القبائل الأوسية واثنين وستين منهم من خلفاء الخزرج الأربع وكانت إحدى النساء من سلالة بنى مازن وهى أم عمارة بنت كعب والأخرى أسماء بنت عمرو بن عدى التى ينتهى نسبها إلى بنى سلمة.

واختار النبى الأكرم عقب البيعة اثنى عشر رجلا من رؤساء القبائل ثلاثة منهم من الأوس وتسعة منهم من الخزرج وقال لهم : «كما كفل حواريو عيسى الأقوام

__________________

(١) وهى بيعة العقبة الثالثة : انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٨١ تاريخ الطبرى ٢ / ٣٦٠ ابن سعد ١ / ١ / ١٤٨ ، والدّرر لابن عبد البر ص ٧٠ ـ ٧١.

١٥٧

الذين ينتسبون إليهم فيجب عليكم أن تكونوا كفلاء لأفراد قبيلتكم ، وأخذ من كل واحد منهم إجابة تضمن كفالتهم فى أماكن مختلفة ثم فوق مجلس البيعة» ، وبما أن تلك البيعة عقدت فى ظلام الليل حتى تخفى على قريش ؛ إلا أن شيطانا اسمه «ابن أزب العقبة» نادى قائلا : «يا معشر قريش! فليكن فى علمكم أن حجاج المدينة أسرعت بعرض البيعة على ابن أخى أبى طالب محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وبهذا هيئوا أسباب إشعال كانون الحرب معكم». وهكذا أعلن الأمر إلى مشركى مكة وأثار فى قلوب صناديد قريش الخوف والقلق وبناء على هذا ذهب بعض القرشيين صباحا إلى خيام قافلة المدينة وقالوا : «يا رؤساء الأوس والخزرج إنه من المحقق عدم حدوث ما يعكر الصفو بيننا من آثار الخصومة والعداوة إلى الآن ؛ إلا أنه قد انتشرت شائعة أنكم عرضتم بيعتكم على محمد صلى الله عليه وسلم لتحاربونا ؛ وإذا كانت هذه الأحداث صحيحة فإننا مستعدون دائما وفى كل آن لمحاربتكم ومقابلتكم!» وهكذا أسرعوا فى استيضاح الأمر ولم يستطيعوا أن يتخذوا أى خبر عن هذا الموضوع من مشركى المدينة وعادوا وقد أخذوا ردا أن مثل هذا الاتفاق لم يتم.

وكان أحد الذين تصدى للإجابة فى الموضوع الذى يريده المكيون من أهل المدينة عبد الله بن أبىّ إذ قال : «يا معاشر قريش! إن ما تقولونه من القول إذا كان صحيحا يحتاج إلى قوة كبيرة ومن الواضح أننا لا نملك تلك القدرة ؛ فلم نقم مثل هذه البيعة وكما أننا لم نعلم شيئا عن هذه البيعة!! إذا كان لنا علم فى هذا الأمر فلنحترق فى نار اللات والعزى!!».

وقد نال الأنصار الكرام شرف المثول بين يدى سيد الأنام مرة ثانية ورجوا من النبى صلى الله عليه وسلم تشريف المدينة المنورة ، ولكن بما أن سيد الأبرار ـ عليه السلام ـ لم يرخص له بعد بالهجرة تحدث معهم على هذا المنهج : «إننى لم أتلق بعد الأمر الإلهى بالنسبة للهجرة إلا إننى أستطيع أن آذن بهجرة أصحابى وهكذا أفهمهم أن هجرته متوقعة على الوحى الإلهى ولكنه أذن بهجرة الأصحاب الكرام إلى المدينة المنورة ، وبناء على هذا أسرع الأصحاب الكرام الذين يرغبون فى الهجرة إلى أرض يثرب ابتداء من بعد العودة من عرفات فى السنة المذكورة.

١٥٨

وكان أول الأصحاب الكرام الذين هاجروا إلى مكة زوج أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومى ، وكان هذا الشخص قد هاجر إلى الحبشة قبل بيعة العقبة بعام وعرف أن الأنصار السابقين قد أسلموا فعاد إلى مكة إلا أن مشركى قريش أزعجوه ولذا استفاد من الإذن النبوى فهاجر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وهاجر بعد أبى سلمة : عامر بن ربيعة وزوجته ليلى وعبد الله بن جحش وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وعمر بن الخطاب وأخوه زيد ، وعقب ذلك طلحة وصهيب وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعثمان بن عفان ـ رضى الله عنهم ـ وتركوا مكة المكرمة وهاجروا إلى قرى المدينة المنورة ونصب كل واحد منهم خيمة فى موقع حيث أقام واستقر.

واختار الأصحاب الكرام الذين أخذوا الإذن بالهجرة بعد أن أوصوا بكتمان هجرتهم عن مشركى مكة المكرمة وإخفاء السفر والهجرة إلى المدينة المنورة قرب حلول العام الرابع والخمسين للولادة النبوية. قد انهمك الأصحاب الكرام بأمر الهجرة بدرجة عظيمة إذ لم يبق فى مكة المكرمة فى أوائل السنة المذكورة أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم غير الصديق الأكبر وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهما.

وقد استولى على مشركى مكة الخوف والقلق نتيجة لترك الأصحاب الكرام مكة المكرمة وأصبحت نفوسهم السوداء المكروهة مضطربة كأنها ديست بسنابك الخيل ، وفى النهاية عقدوا مؤتمر الفساد وقالوا : «إذا هاجر محمد ـ عليه سلام الله الأحد ـ إلى يثرب واتفق مع أهلها فلا تكون نتيجته خيرا فى حقنا». وبناء على هذا الرأى أغلقوا باب الندوة على أنفسهم وأخذوا يذاكرون هذا الأمر العسير لعلهم يجدون حلا له.

ولم يقبل التهاميون الذين كانوا فرقة سيد الأبرار المخلصين فى مجلس شياطين الإنس هذا وقد دخل الإبليس اللعين فى شكل أبى مرة الشيخ النجدى الذى كان معروفا لدى المشركين ووجد فى دائرة دار الندوة ، وبعد مباحثات طويلة ومذاكرات كثيرة قرروا بناء على رأى أبى جهل وتصديق الشيخ النجدى القضاء

١٥٩

على ورد البساتين ، واستصوبوا على أن يقطع الرسول صلى الله عليه وسلم فى ليلة من الليالى وهو نائم وذلك بواسطة بعض الملاعين البدائيين الذين سيحيطون دار النبى صلى الله عليه وسلم من جهاتها الأربع ، وعقب هذا القرار نزل جبريل الأمين باسطا أجنحته للنبى صلى الله عليه وسلم وعرض عليه قرار هيئة الندوة وأفهمه أن وقت الهجرة إلى دار السكينة قد حان ، عندئذ قرر النبى صلى الله عليه وسلم أن يهاجر بعد أن يسلم الأمانات التى لديه إلى أصحابها.

فجعل على ينام على فراشه وأمنه من مكائد أعداء الدين ، ونام ذلك البطل ذو قلب الأسد فى فراش الرسول صلى الله عليه وسلم بائعا نفسه لله ـ سبحانه وتعالى ـ ليحمى نفس النبى صلى الله عليه وسلم النفيسة مستجيبا لإرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتف ببردة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضراء وراح فى نوم دون فتور ، وأول من ضحى بنفسه فى سبيل إنقاذ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأصحاب الكرام هو على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ وتتضمن أبياته الآتية تلك النكتة اللطيفة.

عربى

وقيت بنفسى خير من وطىء الحصا

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

رسول الخلق إذ مكروا به

فنجاه ذو الطول الكريم من المكر

وبت أراعيهم متى ينشروننى

وقد وطنت نفسى على القتل والأسر

وبات رسول الله فى الغار آمنا

موقى وفى حفظ الإله وفى ستر

رواية

حتى الملائكة قد استحسنوا تضحية على بن أبى طالب هذه! إذ يقول الإمام الغزالى فى إحياء العلوم : «قد أوحى الله ـ سبحانه وتعالى ـ لجبريل وميكائيل ـ

١٦٠